لم تكن العلمانية مجرد فكرة تبتغي الفصل بين المجالين الديني والسياسي ولكنها في جوهرها تستهدف تحييد الدين عن المجالين العام والخاص وحصره في الدائرة التعبدية، وإذا كان دعاتها الأوائل من المسيحيين الشوام قد روجوا لها باعتبارها فكرة سياسية بمقدورها تنظيم المجال السياسي وإداراته بكفاءة بعيدا عن الدين ورجاله، فإنها سرعان ما انتقلت إلى المجال الاجتماعي بعد فترة قصيرة حين أصدر بعض المصريين جريدة اجتماعية نقدية أسموها “السفور” صدرت فيما بين عامي 1915-1922.
حول “السفور” ومبادئها
وقد تأسست السفور كشركة ساهم فيها عدد من الكُتاب ممن جمعتهم أواصر الصداقة وهم: محمد حسين هيكل ومصطفى عبد الرازق وطه حسين ومنصور فهمي إضافة إلى عبد الحميد حمدي مسئول الجريدة، وكان يجمع هؤلاء عنصري الشباب والدراسة في فرنسا فأربعة منهم على الأقل نالوا شهاداتهم العليا هناك، وكان منصور فهمي أكثرهم شهرة فقد أثارت رسالته حول المرأة في الإسلام التي كتبها بالفرنسية لغطا كبيرا خاضت فيه الصحافة المصرية زمنا.
أشارت افتتاحية العدد الأول أنها تقصد بالسفور معنى أشمل مما يتبادر إلى الذهن، فليست المرأة وحدها هي المحجبة في مصر ولكنها محجبة نزعاتنا وفضائلنا ومعارفنا وأمانينا “كل شيء يبدو على غير حقيقته فنحن أمة محجبة”، حقيقتها بادية منها ظواهر كاذبة لا تتفق مع ما فُطرت عليه، وهذه العبارة تشير إلى أنها ستنحو إلى نزع الحجب من خلال النقد الذي توجه إلى الدين ومبادئه ورجاله بأكثر مما توجه إلى أي آخر.
في مقابلة هذا النقد كان الثناء على كل ما يمت للغرب بصلة، بأفراده وخصائلهم ومبادئه السياسية والفكرية، ونظامه الاجتماعي القائم على الأسرة النووية التي وصفها مصطفى عبد الرازق بأنها من دواعي الرقي لدى الغربيين معللا ذلك بأن “تقسيم الأسرات إلى مجاميع غير كثيرة العدد ولا متشعبة الروابط، يُسهل التفاهم بينها والتناسق في الذوق والرأي فيقل فيها الاختلاف على المصالح وتقل مداخل الأحقاد إلى القلوب”، والأسرة النووية فيما يعتقد هي ثمرة من ثمار التمدن الإنساني لأن الأمم البدوية تُكون القبائل فيها والعشائر أسرات تشترك في شئون المعاش، وكلما خرجنا من دائرة البداوة إلى الحضارة صارت الأسرات أقل عددًا حتى لتصبح شركات محصورة متناسقة الأجزاء.
عالجت الجريدة قضاياها بروح تجديدية تدعو إلى نبذ التقليد وإعمال العقل لكنها لم تكن إلا غلافا للعلمنة، ورغم أننا لم نقع على لفظ العلمانية فيها إلا أن غياب اللفظ مبنى لا يعني غيابه معنى فقد كان حاضرًا وبقوة، ومن أصرح الأمثلة على ذلك نصح الجريدة احدى قارئتها بقولها “لا تناقشي في أمور الدين إنسانا فكفى برجال الدين للدين أعوانًا، ولا تجعلي الدين موضعًا للمناقشة فاعبدي الله كيف شئتِ وعلى أي مذهبٍ أحببت، واتركي الناس يعبدوه كما يشاءون وعلى أي مذهب يعشقون، فإنما الدينُ لله وللناس المعاملة.
القضايا والاهتمامات الفكرية
وقد قاربت السفور عددا من الموضوعات ذات الصلة بقضايا المرأة والاجتماع، ومن هذه القضايا.
– السفور: وهي القضية المركزية التي كرست الجريدة جهودها لأجلها، وقد هاجمت بضراوة دعاة الحجاب مستخدمة حجتين رئيسيتين:
الأولى: تفكيك الأدلة النصية الثابتة عبر التأويل؛ وحول هذا المعنى تدعي الجريدة إنه لم يُعرف بين المفسرين ولا شيوخ اللغة من شرح لنا الجلابيب والخُمر التي ذكرها القرآن بأنها ألبسة تُرخى على رؤوس النساء ووجوههن وأجسادهن جميعا حتى يصح الارتكان على ما جاء في القرآن لإثبات وجوب تغطية الوجه واليدين؛ خصوصا وقد جاء في الآية (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها)، لأنه إذا جاز أن تكون الخُمر والجلاليب ألبسة تغطي جميع أجساد النساء ما كان بالقرآن حاجة لذكر هذا التخصيص.
والثانية: التلاعب بالمفاهيم؛ فالجريدة تزعم أن ليس هنالك معنى محدد للحجاب يجمع عليه أنصاره وتتخذ من تعدد هيئات الحجاب مسوغا لهذا الزعم إذ تختلف هيئة الحجاب في صعيد مصر عن هيئته في المدن الشمالية التي يبدو من خلالها الوجه سافرًا، وتستنتج من هذا أن الحجابيين لا يعرفون عن أي الحجابين يدافعون؟ وهي حجة واهية لأنه بغض النظر عن هيئة الحجاب فلابد وأن يحجب مواضع الفتنة في جسد المرأة كالنهدين والنحر والساعدين والساقين.
– الزواج: وهي القضية التي استحقت عناية الجريدة وتم تخصيصها بالبحث في عدد كبير من مقالاتها حيث اعتبرت الزواج علة التأخر الاجتماعي بما يكرسه من مفاهيم تبعية المرأة للرجل وما ينتج عن إخفاقه من تبعات مجتمعية، ولذا صاغ كاتبوها عددا من المقترحات بغرض إصلاحه، ومنها اقتراح مصطفى عبد الرازق بوجوب “إبطاء الرجال والنساء في أمر الزواج فإن ذلك أقرب إلى حُسن الاختبار وحسن الاستعداد لحقوق الزوجية، وأبعد عن الرعونة التي بلونا ما بلونا من شرها على الذرية”.
وأما منصور فهمي فقد اقترح ضرورة تعارف الزوجين قبيل إتمام العقد ذاهبا إلى أن الزواج ليس إلا ميل صحيح إلى الجنس الآخر، وهذا الميل لا يتحقق إلا بالمعاملة، فإذا أردنا تطبيق ذلك التعريف في مجتمعنا لحال بيننا وبين تطبيقه الحجاب “وهو التفريق بين الرجل والمرأة حين يحسن ألا يتفرقا، وأن نحول بينهما وبين الاختلاط النافع، ذلك الاختلاط الذي تتسع به موارد المعارف العملية وتحصل به تربية التجارب وقوة الأفهام”.
على حين يقترح طه حسين مذهبا ثالثا وهو منح المرأة حق الطلاق، فيسوق على لسان احدى شخصياته الروائية ما نصه: “إنني لا أنظر إلى الزواج نظر أصحاب الأخلاق وعشاق المثل العليا من الفضيلة …. ولكني أنظر إليه نظرا وضعيا خالصا، وأرى أنه عقد شركة بين الزوجين قد قام على الإلزام والالتزام كغيره من العقود، أفمن العدل إذن أن ينقض الرجل هذا العقد متى شاء، فإذا أرادت المرأة نقضه قام العرف وأنصاره ونهض القانون ومنفذوه لردها إلى الطاعة وقهرها على الخضوع”.
– اللغة العربية: عنيت السفور بالدعوة إلى تجديد قواعد اللغة وقوالبها، وقد رفع لوائها محمد حسين هيكل الذي اتهم من أسماهم الرجعيين بأنهم “يريدون أكثر من بقاء قواعد النحو والصرف على ما وضعها أبو الأسود من ثلاثة عشر قرنا مضت أن يحتفظوا بصبغة اللغة كما كانت أيام العصر القديم عند عرب البادية، يريدون أن تبقى قواميسنا قاصرة على ما كان في العهد الأول” واستنادا إلى ذلك سعى هيكل إلى استخدام مفردات أعجمية بحروف عربية كلفظ “بلوك نوت” الذي برر استخدامه بالقول أننا ينبغي أن نكتب ما نقول وما نحس وليس لنا أن نزن الكلام وزنا.
– تمصير الحياة الاجتماعية، كرست السفور جهودها من أجل تمصير مظاهر الحياة الاجتماعية ونزع الطابع الديني عنها، ومن ذلك دعوتها لأن تكون لدينا أعيادا قومية ليست ذات صبغة دينية، وأرجعت هذه الدعوة إلى أنها كفيلة ببعث الشعور الوطني كما هو الحال في الغرب، وأنها ستكون متنفسا لنشاط العواطف في حياتنا الكئيبة، ومنها أيضا دعوتها إلى إطلاق الأسماء الفرعونية على أبناء المصريين بعدما لاحظت أن هناك توجه لدى الأقباط لتسمية أبناءهم بأسماء أجنبية.
نخلص مما سبق إلى أن جريدة “السفور” قد تبنت بحماس الدعوة إلى علمنة الحياة الاجتماعية في مصر في مرحلة الحرب العالمية الأولى وما بعدها، وقد مهدت بذلك الأساس لدعاوى التغريب والعلمنة التي شهدتها مصر في السنوات القليلة اللاحقة.