مما جاء في كتب الأمثال العربية أن أعرابياً بدأ يحمل أمتعة كثيرة على بعيره، حتى تراكم فوق ظهره أكثر مما يطيقه هذا الحيوان، الذي بدأ يئن من ثقل الأحمال، لكن ذلك الأنين لم يلفت انتباه الأعرابي الذي استمر في وضع الأحمال حتى بقيت له حزمة قش، قرر أن يحملها غذاء لدابته في الطريق.
سمع الأعرابي أخيراً أنين البعير فانتبه إلى أن ذلك ربما بسبب كثرة الأحمال، ما جعله يضع عليه الحزمة بهدوء. قشة بعد قشة خوفاً من أن ينهار بعيره الذي ظل يقاوم، إلى أن جاءت اللحظة التي وضع فيها آخر قشة على ظهره، فانهار البعير وسقط، فتعجب الناس من حوله وقالوا: قشة قصمت ظهر البعير. فذهبت مثلاً.
أكثر ما يثير انتباهي في المسلسلات التاريخية، هو كيفية تهاوي أو انهيار الدول والممالك بسبب فصول متعددة من الصراعات، التي هي عبارة عن تراكمات من الأفعال والسلوكيات، كما تراكمت الأحمال على ظهر ذلك البعير، لتتطور تلك التراكمات وتكبر وتتعاظم في صورة خيانات ومؤامرات ودسائس تجري في الأوساط المتنفذة ومن يدور في فلكها، بغض النظر عن حجم ومستوى كل جهة حاكمة، ومستوى من تحكمهم. حتى إذا دنت لحظة الزوال بسبب فعل أو قول ما، رأيت الدولة أو المملكة تنهار، فيعتقد الناس أن الفعل أو القول الأخير كان السبب في الانهيار، فيما حقيقة الأمر أو السبب هو ما تراكم على ظهر البعير من أسباب الزوال والانهيار أكثر مما يطيق، والبعير ها هنا متمثل في الدولة أو الإمبراطورية أو المملكة أو ما شابه.
خبث النفوس البشرية
حتى نقترب من الصورة أكثر، حاول أن تتأمل في حلقات متنوعة من المسلسل التاريخي التركي ” قيامة أرطغرل” ، والذي ستلاحظ في عديد حلقاته كمية الخيانات والمؤامرات التي كانت في القصور الرئاسية مثلاً في إمارة حلب أو دولة السلاجقة، أو حتى في مخيم البدو الرحّل، قبيلة قايي التي ينتمي إليها أرطغرل، ما يفيدك أن مسألة الخيانات أو زوال الممالك، لا تتعلق بالمكان أو الزمان، وإنما بالنفوس البشرية، أو إن صح التعبير، هي مجموعة متراكمة من الأفعال والسلوكيات تؤدي لنفس النتيجة، في كل زمان ومكان، ولا علاقة للزوال ها هنا بحجم التجمعات أو تعقيداتها، سواء كانت على شكل قرية صغيرة أم دولة كبيرة، وصولاً إلى الإمبراطوريات العظيمة. وبسبب سوء وخبث بعض النفوس البشرية التي تجدها تتكرر في كل زمان وكل مكان، يستمر صراع الحق والباطل، وتدافع الخير والشر. وبسبب ذلكم الصراع، تظهر ممالك وتزول أخرى، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ليست الخيانات وصراعات السياسة والحكم هي السبب الأوحد في انهيارات الأمم والممالك، بل تضاف إليها أحمال أخرى تزيد من التراكمات على ظهر البعير أو الدولة، وتكون على شكل ترف وسرف واضح تقوم بها طائفة أو طوائف من الناس، يمكن إطلاق لفظ المترفين عليهم. حيث أنهم في كل أمة – كما جاء في ظلال القرآن لسيد قطب رحمه الله – “هم طبقة الكبراء الناعمين الذين يجدون المال ويجدون الخدم ويجدون الراحة، فينعمون بالدعة وبالراحة وبالسيادة، حتى تترهل نفوسهم وتأسن، وترتع في الفسق والمجانة، وتستهتر بالقيم والمقدسات والكرامات، وتلغو في الأعراض والحرمات “. وبالعودة إلى مسلسل قيامة أرطغرل مدار الحديث، يظهر أمير حلب كمثال على ما نقول، في شكل حاكم ماجن مترف يتبع شهواته، حتى سهلت على المتنفذين في بلاطه التحكم به وبقراراته التي كانت تتصادم أو تسير عكس مصالح إمارته وشعبه.
الترف والإسراف أمراض مهلكة
إن ظهر ترف وإسراف في أجهزة دولة ما، فهذا يعني استئثار فئة قليلة بغالبية الامتيازات على حساب فئات عديدة أخرى في المجتمع. هذا الاستئثار دافع أكيد إلى نشوء مرض آخر يُضاف إلى أسباب الانهيار المتراكمة على ظهر البعير، هو تسلل نوع من الحقد أو الكراهية في نفوس فئات محرومة على تلكم الفئات المترفة المسيطرة والمستأثرة بالخيرات وما شابه. إن هذا الترف مرض مهلك يتضمن مرضاً مهلكاً آخر ينخر في جسم البعير هو الظلم، الذي عادة يكون مصاحباً للترف. ولهذا أينما وجدت مترفين، وجدت ظلماً وظالمين بصورة وأخرى.
الترف يؤدي كذلك إلى الإسراف. مرض مؤذ آخر قد يكون عاملاً أساسياً في دخول البلاد أجواء الفقر، الذي إن استوطن بلداً طارت عنه القيم، وحلت فيه فواحش ما ظهر منها وما بطن، وكأنما المترفون فئة يرسلهم الله ابتلاء للمجتمع الذي يعيشون فيه، تكون مهمتهم النخر في أركان وأساسات ذاك المجتمع – دون قصد بالطبع – فيزيدون من الأحمال على ظهر البعير، قشة بعد قشة.
انتشار الفساد والظلم والعدوان في أي زمان وأي مكان، يدفع بعد حين من الدهر، طال أم قصر، أن تصل فئة المترفين – باعتبار الترابط الوثيق بين المال والمناصب – إلى مراكز القرار والتحكم في شؤون البلاد والعباد، لتتولى تلك الفئة بعد ذلك – وهم في غياب تام عن الوعي – السير في المشهد الأخير للكيان القائم. مشهد الهلاك والزوال بصورة وأخرى، لتجري عليهم السنّة الإلهية في هلاك أو زوال الأمم عبر سنّة التدرج المعروفة، والتي بها تُبنى الأمم أو بها كذلك تزول.
من هنا نجد أهمية الأخذ على يد المترفين والمسرفين والظالمين، وعدم ترك المجال سهلاً يسيراً لوضع أحمالهم غير الصالحة على ظهـر بعيرهم، كيلا يتم قصمه وكسره، وبالتالي سقوطه.. وفي قصص الأولين الكثير من الدروس والعبر، فهل من مدّكر ؟