بعد أن اشتد الاضطهاد والتضييق على الجماعة المسلمة بمكة، أشار عليهم النبي ﷺ بالهجرة إلى الحبشة. كانت الخطوة منعطفا في مسار الدعوة، ومفاجأة لقريش التي راهنت على التصفية الجسدية والمعنوية لرسالة الإسلام، قبل أن يمتد شعاعها خارج حدود مكة.
” لو خرجتم إلى الحبشة، فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجا ومخرجا مما أنتم فيه”.
وبالفعل لقي المهاجرون حسن جوار وأمانا هز كيان قريش، فسارعت لإرسال مبعوثيها، ممن يحظون بمكانة لدى النجاشي، لحضه على تسليمهم بداعي إثارة فتنة عقدية. وبحسب ما جاء في مصادر السيرة النبوية، فإن مخطط قريش انبنى على الحؤول دون سماع النجاشي لدفاع المتهمين، من خلال وصفهم ب “غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دين الملك”، وهو ضرب على وتر القلاقل وعدم الاستقرار الذي يخشاه أي حاكم.
جرت الأحداث لاحقا وفق ترتيب كشف عن ملامح الملك الذي لا يُظلم عنده أحد؛ فقد كان النجاشي، كما وصفه الشيخ الغزالي في “فقه السيرة”، رجلا راشدا، نظيف العقل، حسن المعرفة لله، مع سلامة اعتقاد في عيسى بن مريم عبد الله ورسوله عليه السلام. ولعل المرونة الفكرية التي تمتع بها هي أول صخرة تحطمت عليها رغبة قريش في تفكيك القاعدة الآمنة لجعفر رضي الله عنه ومن معه.
جاء في مسند الإمام أحمد من رواية ابن مسعود رضي الله عنه، أن النجاشي لما أرسل في طلب مهاجري الحبشة، قال جعفر: ” أنا خطيبكم اليوم. ومن خلال توليه لمهمة بيان العقيدة الإسلامية، نسف جعفر صورة “الغلمان السفهاء” التي يمكنها أن تقلل من حضورهم المعنوي أمام الملك؛ فهاهنا ابن عم الرسول الذي وصف النجاشي ب”الملك العادل”، بالإضافة إلى فصاحته ولباقته، والحس الأمني الذي رافق عرضه لمحاسن الرسالة المحمدية التي تتفق دون شك مع رسالات من سبقوه من الأنبياء.
استهل جعفر حديثه بتوصيف دقيق للحال الذي كان عليه أهل الجاهلية، مركزا على عادات منفرة التي أنكرتها رسالات السماء:
” كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف..”
ثم عرض صفات حامل الرسالة، ومكانته في قومه، وما يميزه عن هذا المجتمع الآسن:
” حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه..”
وفي خطوة ثالثة، بسط جعفر جوهر الرسالة ومبادئها التي دعت إليها، بأسلوب يمزج بين البلاغة العقلية، والشحنة العاطفية:
” فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء..”
وبعد أن عدّد محاسن الإسلام والنقلة الهائلة التي أحدثتها على المستويين العقدي والسلوكي، عرّج على ردود أفعال قريش، وصاغها في عبارات تسترجع أمام ذاكرة النجاشي قصة الصراع الأزلي بين الحق والباطل:
” فعدا علينا قومنا، فعذبونا، وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث..”
وبحس دبلوماسي رفيع، وضع جعفر ملك الحبشة أمام مسؤولية حمايتهم، باعتباره ممثلا لأهل كتاب يدعو لنبذ الوثنية، ويقاسم الرسالة الجديدة هموم استعادة البناء القيمي والإنساني عموما في المجتمع الجاهلي:
” فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك.”
لم يجد عمرو بن العاص بدهائه منفذا أمام هذا البناء العقدي والأخلاقي المتماسك سوى أن يثير مسألة القول في عيسى عليه السلام. وفي حديث أم سلمة رضي الله عنها أنه لما خرج هو وعبد الله بن أبي ربيعة من عند النجاشي قال: والله لآتينه غدا عنهم بما استأصل خضراءهم؛ يقصد موقف القرآن من المسيح عليه السلام، وتأكيده في الآيات أنه عبد الله ورسوله. فكان من الإحكام والروعة أن يختار جعفر سورة مريم لبيان الموقف الحاسم في هذه المسألة العقدية الخطيرة.
يعلل أبو الحسن الندوي ما دار في مجلس النجاشي بأنه إلهام وتأييد من الله تعالى لدينه حتى يتم نوره، حيث اجتمع في حديث جعفر بلاغتان: بيانية مردها إلى فصاحة قريش، وعقلية لخصت الفكرة والمبدأ، بأسلوب يهيئ لحسن الاستماع والتأمل والإنصاف. وإذ لم يجد سفيرا قريش بدا من العودة بخفي حنين، فإن بعض القراءات المعاصرة لحديث جعفر، حاولت التقليل من أهمية مخرجاته، أو نفيه جملة وتفصيلا، كما صرح بذلك هشامجعيط في كتابه” تاريخية الدعوة المحمدية في مكة”.
إن التوجيه النبوي بالخروج إلى الحبشة أضفى على الهجرة سمة التشريع الذي يسمح للمضطهد في عقيدته أن يتخذ من بلد آخر موطنا له. وهي دليل آخر على سماحة الدعوة وسلميتها، فقد كان باستطاعة المسلمين في مكة أن يلجأوا إلى العنف ضمن عصابات تحول حياة المشركين في مكة إلى جحيم (1). غير أن هذا الحرص النبوي على نهج الإقناع والدعوة بالتي هي أحسن، لا يناسب القراءة المنحازة إلى نهج الصدام، والانتقائية التي تخدم مواقف مسبقة إزاء الدعوة المحمدية.
يعرج أغلب المستشرقين على حدث الهجرة إلى الحبشة إما لكونه إقرارا نبويا بالديانة النصرانية، وبالتالي يدحض مبدأ عالمية الدعوة الإسلامية، وأنها رسالة خاصة بالبدو في الجزيرة العربية، وإما للادعاء بأن بحث النبي ﷺ عن موطن آمن لأصحابه من المستضعفين، كانت تحركه أهداف سياسية واقتصادية. لذا كان من البديهي أن تغيب وقائع سفارة قريش إلى النجاشي، وما نتج عنها من تفكيك التحالف السابق.
غير أن بعض الأقلام المعاصرة ستنفتح على جزء عريض من أحداث السيرة النبوية، لكن بغرض إثارة شبهة، أو تجريد الحدث من أية دلالة تفضي إلى الإقرار بأن ما جاء به محمد ﷺ هو الدين الخاتم، والكتاب المهيمن. وهو ما أقدمت عليه كاترين أرمسترونج في كتابها “سيرة النبي محمد”.
تقول المؤلفة: ” وأرسلت قريش مبعوثين إلى النجاشي عقب وصول المسلمين هناك تطلب منه أن يعيدهم، فقد كان في ذلك الخروج الجماعي تهديد لهم من نواح عديدة. وأخبر المبعوثان النجاشي أن المسلمين أهانوا عقيدة مكة ومزقوا المجتمع. ودعا النجاشي المهاجرين المسلمين إليه وطلب منهم الكلام دفاعا عن أنفسهم. فوضح جعفر الأمر قائلا إن محمدا هو نبي الله الحق والذي أكد رسالة المسيح..”
أما تعليقها على الحادثة فيعتمد نفس منهج أستاذها مونتغمري وات في البناء والهدم، والثناء المتبوع بتشكيك يُفقد الحدث أهميته: ” والقصة، في صورتها التي وصلت إلينا غير كاملة، إذ ربما كانت لمحمد- ﷺ- خطط سياسية أو اقتصادية وراء تلك الهجرة، وكانت تلك الخطط قد نٌسيت حينما بدأ ابن إسحق الكتابة. وربما كان وفد قريش من مكة قد وضح للنجاشي أن المسلمين ليسوا بالقوة الكبيرة التي تخيلها، لذا لم يساندهم بالدرجة المأمولة.”
بينما يميل اتجاه آخر إلى إسقاط الرواية وعدم تصديقها، خاصة حين تصادم فكرة أو قناعة مسبقة لديه. هكذا يسارع هشام جعيط إلى الجزم بأن قصة سفارة عمرو بن العاص من نسج الخيال، وأن ما ورد في حديث أم سلمة عن خبر جعفر والنجاشي غير مقبول، لأسباب أهمها أن الإسناد “لا يتماسك”، معززا موقفه بقول المؤرخ البلاذري أن الحادثة “وهم.
لقد جاء حديث أم سلمة رضي الله عنها بطوله في سيرة ابن هشام، من روايته عن زياد البكائي عن ابن إسحق، مع تقديم وتأخير في بعض الجمل، ونقص في بعضها. كذلك قال الإمام الألباني في تصحيحه للسيرة النبوية التي كتبها الحافظ ابن كثير، رواه أبو نعيم في “الدلائل” من طريق أخرى عن ابن إسحاق، ورواه أحمد دون حديث الزهري عن عروة عن عائشة. وإسناده حسن، رجاله ثقات رجال الشيخين. وقال الهيثمي:” رواه أحمد ورجاله رجال “الصحيح”؛ غير ابن إسحاق وقد صرح بالسماع.
أما عبارة البلاذري فقد انتزعت من سياقها الذي لا يمت بصلة لحديث جعفر رضي الله عنه، ولا ينكر الخبر بقدر ما يعالج هوية سفيري قريش قائلا: ” وأما عمارة بن الوليد، فيقال إنه وعمرو بن العاص توجها برسالة قريش إلى النجاشي في أمر من بالحبشة من المسلمين، يفسداه عليهم، ويهجُناهم عنده، ويسألاه دفعهم إليهما. وحمّلوهما إليه وإلى بطارقته هدايا من أُدم وغيره، وذلك وهم.
وقيل: إنه كان مع عمرو بن العاص في هذه المرة عبد الله بن أبي ربيعة، ولم يكن معه عمارة. فردهما النجاشي مقبوحين خائبين، فاشتدت قريش عند ذلك على النبي ﷺ، وهذا الثبت.”(2)
تميل بعض التصورات الدعوية إلى ربح السياسي ولو على حساب المبادئ العليا للدين. أما حديث جعفر رضي الله عنه فكان دعوة إلى الله على بصيرة، ويقظة عالية في ربح النجاشي دون خسارة العقيدة. لذا فإن فرار المسلم بدينه لا يعني بأية تقديم تنازلات.
يقول منير غضبان:” وفي مثل هذه المواقف تنزلق الأقدام، وتزل القلوب. فكثيرا ما يتوهم الدعاة أنهم لو صارحوا بحقيقة مبادئهم لخسروا حياتهم ومركزهم، وتبدأ نقطة الانحراف صغيرة ثم تنفرج الزاوية، فإذا الدعاة إلى الله ينسون رسالتهم التي لاقوا ما لاقوا من أجلها. وتصبح القضية عندهم أمنهم وراحتهم وحياتهم، لا حياة دعوتهم وانتشار دينهم.”(3)
(1) إبراهيم حركات: السياسة والمجتمع في العصر النبوي. ص76
(2) أحمد بن يحيى البلاذري: أنساب الأشراف. ج1. ص268
(3) منير غضبان: التربية القيادية. ص334