ملخص البحث
أحدث غياب سلطان الإسلام عن بلاد المغرب الإسلامي قديمًا إشكاليةً كبرى لدى المسلمين فيه؛ فأفتى فقهاؤهم المالكية بأن: “جماعة المسلمين تقوم مقام القاضي”، تتولى هذه الدراسة بيان الملابسات والأسباب التاريخية، التي حملت المالكية على ابتكار هذه القاعدة، وصلاحيتها للعمل في غير الظروف التي ولدت فيها.
وقد سلك الباحث خلال ذلك المنهج الاستقرائي التحليلي، والمنهج التاريخي، وتوصل إلى جملة من النتائج منها: أن أتباع المذاهب الفقهية الثلاثة أخذوا عن المالكية العمل بهذه القاعدة، وأن المجامع الفقهية وعدد من فقهاء العصر يرون أن المراكز الإسلامية في بلاد الغرب تقوم مقام القاضي المسلم. ومما أوصى به الباحث: ضرورة دراسة شرط الإسلام في القاضي دراسة موسعة في ضوء المستجدات المدنية المعاصرة.
المقدمة
إن من مقتضيات حفظ الله تعالى لهذا الدين؛ أن يقيَّض له في كل زمان ومكان رجالًا، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، تلك الخصال الذميمة التي توقع الناس في حرج ومشقة جاء الإسلام ليرفعهما عن الناس، والغلو وحده كافٍ لإيقاعهم في المشقة؛ فكيف إذا ما انضم إليها التحريف والجهل؟
وإن سنة الله تعالى في هذه الأمة أن يمكّن لها في الأرض ما دامت متمسكةً بشرعه، عاملةً بأحكامه، حتى إذا ما نكلت عنها وابتعدت؛ وكلَها لنفسها، وسلّط عليها عدوها؛ فهتك سترها، واستباح بيضتها، وقد وقع ذلك في أقطار من العالم الإسلامي قديمًا وحديثًا، ومع ذلك بقيت ثلة في تلك الأقطار يهمها أمر دينها، وتأبى أن تنقاد لأحكام عدوها مهما كلفها ذلك؛ فلجأت إلى علمائها تلتمس عندهم مخرجًا مما وقعت فيه؛ لا سيما فيما يتعلق بأحوالها الشخصية زواجًا وطلاقًا وميراثًا ونحوها، ولم يكن علماؤها عاجزين عن إيجاد مخرج شرعي لها، فقد وجدوا في كليات هذا الدين ومقاصده مخرجًا من الحرج الذي وقعت فيه تلك الثلة من المسلمين.
ولـمَّا كان المغرب الإسلامي من أوائل الأقطار التي غاب عنها سلطان الإسلام أو كاد على أيدي العبيديين، ووقع الناس فيه في حرج وضيق، لا سيما فيما يتعلق بأحكام دينهم التي يحتاجون فيها لقاضٍ مسلم يقضي فيها بينهم؛ عندها تصدى علماؤه -وكانوا على مذهب الإمام مالك- لتلك النازلة، مجيبين عن تساؤلات أهله المسلمين، مدركين أن الإسلام بمبادئه العامة، وكلياته الجامعة، وقواعده الكبرى؛ أعظم من أن يكلَ جماعةَ المسلمين في أي حدث ينزل بهم إلى أنفسهم؛ ومن هنا استنبط أولئك الفحول القاعدة العظيمة: “قيام جماعة المسلمين مقام القاضي”، القاعدة التي صارت مستند الفقهاء في كل عصر ومصر تنزل به نوازل ويغيب معها سلطان الإسلام.
وقد جاءت هذه الدراسة لتتناول الحديث عن تلك القاعدة، سواء من حيث تأريخها، أم تأصيلها، أم تطبيقها، وقد وسمها كاتبها بـ (قاعدة: قيام جماعة المسلمين مقام القاضي “تأريخًا وتأصيلًا وتطبيقًا”) والله وحده المسؤول أن يجعلها لوجه خالصة، وينفع بها ويرفع.
أسباب اختيار الموضوع
كان مما حمل الباحث على اختيار هذا الموضوع جملة من الأسباب يجملها فيما يأتي:
كثرة النوازل بمجتمعات الأقليات المسلمة في بلاد الغرب وغيرها، المتعلقة بأحوالهم الشخصية والمعيشية ونحوها، الشيء الذي يستدعي إعادة النظر في الاستدلال على أحكامها، ولـمَّا كانت القواعد الفقهية دليلًا وحجةً عند كثير من فقهاء الإسلام؛ اختار الباحث دراسة هذه القاعدة لبيان صلاحيتها دليلًا لذلك.
إشكالية البحث
يتولى هذا البحث الإجابة على الإشكالية الآتية: ما مدى صلاحية قاعدة: “قيام جماعة المسلمين مقام القاضي” للعمل في غير الظروف والأسباب التي ولدت فيها لدى فقهاء المالكية قديمًا؟
أسئلة البحث
وقد تفرع عن تلك الإشكالية الأسئلة الآتية:
1– ما أسباب سبق القاعدة إلى المذهب المالكي؟
2– ما معنى قاعدة: “قيام جماعة المسلمين مقام القاضي”؟ وما تأصيلها؟
3– هل المراكز الإسلامية في بلاد الغرب تقوم مقام القاضي؟
أهمية البحث
تنبع أهمية دراسة هذه القاعدة من نقطتين:
1– من كونها مستند المسلمين في كل قطر رفع عنه سلطان الإسلام، أو لم ينصب عليه في بلاد غير الإسلام قاضيًا مسلمًا، فيجد أولئك المسلمون فيها مستندًا شرعيًا في الرجوع إلى أهل الرأي فيهم؛ للتقاضي إليهم، وحل خلافاتهم أمام جهة أضفى عليها الإسلام شرعية تامة، فأوجب لها الطاعة، وأنفذ الأحكام الصادرة عنها.
2– أنها مستند المفتين أو المحكمين؛ الذين يتصدون لتيسير أمور أولئك المسلمين، فلا يجدون في أنفسهم حرجًا في قضائهم بينهم، أو حكمهم عليهم.
أهداف البحث
من أبرز ما يهدف الباحث لإيصاله للقارئ ما يأتي:
1- أن الإسلام أعظم من أن يكل المسلم إلى نفسه في تصريف أموره، بل إنه يوجد له مخارج ترفع عنه الحرج، تتناسب وكلَّ زمان ومكان.
2– أن ما أفتت به المجامع الفقهية، وعدد من فقهاء العصر المستقلين من قيام المراكز الإسلامية مقام القاضي؛ إنما مستندهم فيه شرعي، وقد سبقهم فقهاء المالكية لتقريره وتأصيله.
حدود البحث
جعل الباحث حدود بحثه في بيان تاريخية العمل بالقاعدة وأسبابه، وذكر تأصيلها، ومن أخذ بها من المذاهب، ونماذج تطبيقية لها، بعد بحث شرط الإسلام في القاضي.
الدراسات السابقة
تناول عدد من الباحثين ذكر هذه القاعدة، والاستدلال بها في نوازل الأقليات المسلمة في بلاد الغرب وغيرها، ولكنه كان تناولًا ضمن كتب عامة، اقتصرت بعضها على مجرد ذكر القاعدة، وأن المالكية هم من استنبطها، وأول من عمل بها، دون أن تخصَّ هذه القاعدة بالدراسة وحدها، أو بالوقوف على تاريخية العمل بها وأسباب ذلك.
ويورد الباحث هنا أسماء عدد من الكتب والأبحاث التي تناولت هذه القاعدة بالذكر والدراسة ضمن موضوعات أخرى.
1- كتاب: (صناعة الفتوىوفقه الأقليات المسلمة) لـ عبد الله بن بيه، وهي نسخة الالكترونية، لم تذكر فيها الطبعة ولا تاريخها، تناول الشيخ القاعدة عند حديثه عن القواعد التي يحتاجها الفقيه في فقه الأقليات المسلمة.
2- كتاب: (فقه النوازل للأقليات المسلمة تأصيلاً وتطبيقاً) لـ محمد يسري ابراهيم، طبعة وزارة الأوقاف القطرية، ط 1، 1434/2013، تناول الباحث القاعدة عن حديثه عن التأصيل لفقه الأقليات المسلمة في بلاد الغرب.
3- كتاب: (القواعد الأكثر التصاقاً بفقه الأقليات المسلمة “دراسة وتطبيقاً على واقع الأقليات المسلمة”) لـ محمد عبد الله شيبان، رسالة دكتوراه نوقشت في جامعة أم درمان، نشرتها: دار المنظومة بتاريخ: 2009، ذكر الباحث القاعدة ضمن القواعد التي ذكرها في الاستدلال على فقه الأقليات المسلمة.
وتأتي هذه الدراسة لتخصَّ هذه القاعدة بالدراسة دون غيرها من القواعد، مضيفة إلى ذلك دراسة تاريخية هذه القاعدة، والأسباب التي حملت المالكية إلى السبق إلى استنباط هذه القاعدة.
منهج البحث
اتبع الباحث في بحثه هذا المنهج الاستقرائي التحليلي، والمنهج التاريخي، حيث إنه تتبع أقوال المالكية وغيرهم في تقرير هذه القاعدة، ثم اجتهد لمعرفة تاريخية إعمال هذه القاعدة، والأسباب التي جعلت المالكية يبتكرونها قبل غيرهم.
خطة البحث
تمهيد
المبحث الأول: قاعدة: قيام جماعة المسلمين مقام القاضي.
المطلب الأول: تاريخية القاعدة عند المالكية، وإعمالها عند غيرهم.
المطلب الثاني: معنى القاعدة، وتأصيلها.
المبحث الثاني: قيام المراكز الإسلامية في بلاد الغرب مقام القاضي (فقه الأقليات)، تأصيلًا وتطبيقًا.
المطلب الأول: اشتراط الإسلام في القاضي.
المطلب الثاني: فقه الأقليات، والمراكز الإسلامية.
المطلب الثالث: نماذج تطبيقية من إعمال المراكز الإسلامية للقاعدة.
الخاتمة: أهم النتائج والتوصيات.
تمهيد
اقتصر الباحث في التمهيد على ذكر تعريف القاعدة لغةً واصطلاحًا، وأضاف إليهما تعريف القواعد الفقهية، وذلك كما يأتي:
تعريف القاعدة لغةً واصطلاحًا
- أولاً: تعريف القاعدة لغةً: للقاعدة في اللغة معان عدة، منها الاستقرار والثبات، ومنها الجلوس، ومنها الأساس والأصل، تقول قواعد البيت، أي: أسسه وأصوله التي يرتفع عليها، ولعل هذا المعنى هو الأقرب، لأن الأحكام الفقهية تبنى وتقوم عليها، كما تبنى وتقوم الجدران والسقف على أساس البناء وأصل([1].
- ثانياً: تعريف القاعدة اصطلاحاً: عرفها الجرجاني بأنها: “قاعدة كلية منطبقة على جميع جزئياتها”[2].
- ثالثاً: تعريف القاعدة الفقهية باعتبارها لقبًا علميًا: اختار الأستاذ الخادمي بعد إيراده عددًا من تعريفات القاعدة الفقهية عند العلماء التعريفَ الآتي لها: “الحكم الفقهي الكلي الذي يحتوي على جزئياته”[3].
المبحث الأول: قاعدة: قيام جماعة المسلمين مقام القاضي
المطلب الأول: تاريخية القاعدة عند المالكية، وانتقالها إلى غيرهم
ضمن الباحث هذا المطلب فرعين، خصص الأول منهما لبيان أسباب سبق المالكية لابتكار هذه القاعدة، والثاني لإعمال فقهاء المذاهب الفقهية المعتبرة هذه القاعدة.
الفرع الأول: أسباب سبق المالكية لابتكار القاعدة.
يرى الباحث أنَّ ثمَّت سببين أسياسيين يفسران سبق المالكية لابتكار هذه القاعدة قبل غيرهم من المذاهب الأخرى هما:
السبب الأول: أن أول بلاد رفع عنها سلطان الإسلام في تاريخ الإسلام كان المسلمون فيها على مذهب الإمام مالك.
لقد أحدث غياب الحكم الإسلامي عن كثير من الأقطار الإسلامية سابقًا إشكالاتٍ كبرى، تتعلق بالمجتمع المسلم عمومًا وبأفراده خصوصًا؛ فحمل ذلك فقهاءَ كل زمان للتصدي لتلك الإشكالات، والعمل على إيجاد حلول لها تتوافق والشريعة الإسلامية، وكان المغرب الإسلامي ثم الأندلس من أقدم الأقاليم التي غاب عنها سلطان الإسلام، وبقيت فيهما أكثريةٌ أو أقليَّة مسلمة وقعت في تلك الإشكالات، وكان من أبرز تلك الإشكالات وألصقها بحياة أولئك المسلمين: الزواج والطلاق، ونحوها من الأمور؛ الأمر الذي أوجب على فقهاء ذلك الزمان العمل على إيجاد مستند شرعي، يرفع العنت عن المسلمين مما وقع بهم؛ فلم يجد أولئك الفقهاء حرجاً في قيام ثلة، من ذوي الأحلام والنهى بأمور المسلمين، زواجًا وطلاقًا وفسخًا ونحو ذلك.
ولكن السبب الذي يفسر سبق فقهاء المالكية إلى استنباط هذه القاعدة، والعمل بها قبل غيرهم من فقهاء المذاهب الأخرى؛ أن المسلمين الذين غاب عنهم سلطان الإسلام في المغرب والأندلس كانوا على مذهب الإمام: مالك بن أنس (ت: 179 ه)؛ ولذا يعدُّ المالكية أولَ من استخرج هذه القاعدة، وابتكرها وأصل لها، فقد أعلن عن قيام الخلافة الفاطمية في المغرب عام: (297 ه) [4]، وبعد ذلك أخذ الفاطميون يحاربون المذهب المالكي فيه، ويذيقون أهل السنة فيه الويلات، ولعل هذه النازلة هي التي أوجدت فراغًا في منصب القضاء في المجتمع السني في المغرب؛ الشيء الذي دعا فقهاء المالكية للإفتاء بأن جماعة المسلمين، أو أهل الحل والعقد يقومون مقام القاضي المسلم عند فقده أو جوره، ومن أبرز أدلة الباحث على هذا الاستنتاج: أن أقدم ما يدل على ذلك مما عثر عليه هي فتاوى الداودي، التي ذكرها عنه الونشريسي في كتابه (المعيار) كما سيأتي، والداودي توفي عام: (402 ه) أي إن المجتمع المسلم قد خلا من قاضٍ مسلم أو عادل في القرن الرابع أو نهايته، وهو يتوافق مع بدايات محاربة الفاطميين للمذهب المالكي في المغرب والتنكيل بأهله، ولكن الفارق بين المغرب والأندلس أن المغرب عاد له سلطان الإسلام؛ بخلاف الأندلس، التي لم يعد لها سلطان الإسلام بعد، وبقيت فيها الأقليات المسلمة دون قاض مسلم[5].
السبب الثاني: عناية المذهب المالكي بالمصالح المرسلة ومقاصد الشريعة أكثر من غيره من المذاهب الأخرى.
لا خلاف بين فقهاء الإسلام أن تشريع الأحكام ما قصد به إلا تحقيق مصالح الناس، أي جلب النفع لهم، و دفع الضرر، أو رفع الحرج عنهم، وإن مصالح الناس لا تنحصر جزئياتها، ولا تتناهى أفرادها، وأنها تتجدد بتجدد أحوال الناس، وتتطور باختلاف البيئات[6]؛ ولذا راعى أولئك الفقهاء تلك المقاصد والغايات في اجتهاداتهم في المستجدات التي تنزل بالناس، ولكنهم كانوا في ذلك على درجات، بين موسع ومضيق، نظرًا للملحظ والبيئة التي عاش فيها كل مجتهد وفقيه؛ وما يميِّز المذهب المالكي هنا عن غيره من المذاهب هو عد المصلحة المرسلة دليلًا مستقلًا، منفصلًا عن باقي الأدلة[7]، بخلاف المذاهب الأخرى التي أدرجتها تحت دليل من الأدلة المتفق عليها، كالقياس على ما هو عليه الجمهور (الحنفية والشافعية والحنابلة) أو إرجاعها لمقصود الشارع الذي يدل عليه الكتاب والسنة والإجماع، على ما ذهب إليه الإمام الغزالي. ولكنَّ المالكية وضعوا ضابطين لاعتبار المصالح المرسلة: أولهما أن تكون المصلحة معقولة المعنى في ذاتها، جارية على الأوصاف المناسبة، بحيث إذا عرضت على أهل العقول السليمة
تلقتها بالقبول، وثانيهما: أن تكون ملائمة لمقصود الشارع، بحيث لا تنافي أصلا من أصوله، ولا تعارض دليلًا من أدلته القطعية[8].
وإذا ما نظرنا إلى هذين الضابطين في القاعدة محل الدراسة التي ابتكرها المالكية، وعنهم أخذها الفقهاء؛ نجد أنها لا تخرج عنهما، فإن شريعة الله تعالى تأبى أن يبقى الناس دون قاضٍ أو إمام يرفع التهارج، ويدفع التنازع، لا سيما وأنه ليس في الشريعة ما يحصر أمور القضاء بقاضٍ جاءت نصوصها تحدده، بل إن نصوصها ومقاصدها وغاياتها جاءت كلها تدل على أن مصالح الناس لا يمكن أن تترك دون إمضاء، مهما تغيرت الظروف والأحوال، وهذا ما لحظه فقهاء المالكية المقاصديين قبل غيرهم؛ فسبقوا إلى هذه القاعدة، كما سبقوا إلى غيرها من العلوم التي أخذت عنهم، كـالمقاصد للشاطبي، والفروق للقرافي، وغيرها[9].
الفرع الثاني: إعمال فقهاء المذاهب الفقهية المعتبرة للقاعدة
أخذ القاعدةَ عن المالكية أتباعُ المذاهب الأخرى، واستدلوا بها على حوادث نزلت بمجتمعاتهم، فلـمَّا قضى الاحتلال البريطاني للهند على المحاكم الشرعية فيه بتاتًا، ونصَّب قضاة غير مسلمين لفصل قضايا المسلمين، حتى في أحوالهم الشخصية؛ وقع مسلمو الهند في حرج شديد؛ فرجعوا إلى فقهائهم يسألون عن مخرج مما أحاط بهم، ولـمَّا كانت أغلبية سكان الهند على مذهب الإمام أبي حنيفة (ت: 150 ه)، الذي لا يوكل مسائل الفسوخ إلا للقاضي وحده، ولا يقوم غيره مقامه في مذهبه، وكذا هو مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل؛ لم يجد أولئك الفقهاء في مذهب أبي حنيفة حلًا للمعضلة التي نزلت بمجتمعهم، بل لقد أخذوا حلَّها من المذهب المالكي، الذي يرى أن جماعة المسلمين تقوم مقام القاضي عند فقده أو جوره؛ فأفتى فقهاء الحنفية بهذه القاعدة في قضية وطنية، وذلك يدل منهم على الروح المذهبية الانسيابية التي عدلوا بها إلى مذهب غيرهم، وأعملوا الخلاف المذهبي السائغ. وقد ألف الشيخ: أشرف التهانوي في ذلك كتابًا مستقلًا سماه: (الحيلة الناجزة للحليلة العاجزة) راجع عند تأليفه كثيرًا من علماء الإفتاء المالكية، وأفتى بقولهم بأن: جماعة المسلمين تقوم مقام القاضي في مثل هذه البلاد، فيجوز لها أن تفسخ نكاح المسلمات لأسباب مجوزة لذلك شرعًا، ووافقه على ذلك جميع علماء الهند، ومواقفهم مثبتة في ذلك الكتاب[10].
وبمثل فتوى فقهاء الحنفية في الهند أفتى شيخُ الأزهر جاد الحق علي (ت: 1416 ه) مديرَ معهد علوم الشريعة الإسلامية بجنوب أفريقيا، حول مدى شرعية أن يتولى قاضٍ غير مسلم القضاء في الأحوال الشخصية للمسلمين فقال: “لا يحل للمسلمين التحاكم إلى قاض غير مسلم إلا عند الضرورة، وعلى الأقلية المسلمة في هذه الحال العمل على الخلاص؛ إما باستقلال، أو بهجرة، أو بالتحاكم إلى محكمين مسلمين علماء، ويرضاهم المتخاصمون، لا سيما في مسائل الحلال والحرام، ومنها: أمور الأحوال الشخصية، من زواج وطلاق، ونسب وميراث”[11].
ثم تجلت فائدة القاعدة أكثر في القرن الرابع عشر الهجري، بعد أن وجدت فيها المراكز الإسلامية، والمجامع الفقهية مستندًا أصيلًا، ومخرجًا يسيرًا لأحوال الأقليات المسلمة في بلاد الغرب، كما سيأتي[12].
المطلب الثاني: معنى القاعدة وتأصيلها
المقصود بجماعة المسلمين في القاعدة: أهل الحل والعقد، وهو مصطلح متداول بين علماء السياسة الشرعية، ارتبط بغيره من المصطلحات التي تقاربه في المعنى، كأهل الرأي، وأهل الشورى وغيرهما، وأهل الحل والعقد -كما قال النووي- “العلماء والرؤساء ووجوه الناس، الذين يتيسر اجتماعهم[13]، وهذا ما تابعه عليه أكثر المتأخرين أيضًا، كمحمد عبده وغيره، فأهل الحل والعقد هم وكلاء الأمة ونوابها، في عقد الأمور الكبيرة العظيمة وحلها، وهذا العمل يعقد لهم ولاية، ونفوذًا للكلمة في عموم الأمة[14]، ولأهل الحل والعقد صفات وشروط وأحكام لا بد منها، يُرجع لمعرفتها في مضانها.
الفرع الأول: معنى القاعدة
يمكن أن يوجز معنى القاعدة بما يأتي: “إن واجبات الإمام لا تسقط بغيابه أو بفقده، إنما تصير إلى نواب الأمة من أهل والحل والعقد، فيقومون بالواجبات العلمية، والاجتماعية، والسياسية، والدينية؛ حتى ينصب الإمام”[15].
الفرع الثاني: تأصيل القاعدة
أولاً من القرآن الكريم: أصل ولاية العلماء جاءت في قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، فقد ذهب طائفة من المفسرين إلى أن أولي الأمر هم الأمراء والعلماء، تجب طاعة العلماء لصفة العلم؛ لأنهم ورثة الأنبياء، وتجب طاعة الأمراء لينتظم أمر الناس، وذهب أكثر التابعين إلى تفسير أولي الأمر بالعلماء، “قال مجاهد، وعطاء، والحسن البصري، وأبو العالية: وأولي الأمر منكم، يعني: العلماء[16]، وحيث لم يكن ثمت أمراء؛ تجب طاعة العلماء، سواء كانوا فقهاء، أو سياسيين، أو اقتصاديين، أو غير ذلك مما تتعلق به مصالح المسلمين.
ثانياً من السنة: قوله ﷺ: «ثلاث لا يُغِلُّ عليهن قلب امرئ مسلم[17]: إخلاص العمل لله، والنصح لأئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم»[18]، وجه الدلالة: أن اللزوم يكون بالمعنى العلمي وهم أهل الحق، والاجتماع على الأتباع، وبالمعنى العملي وهم المجتمعون على إمام على مقتضى الشرع، فإذا ما شغر الزمان عن الإمام، وعجز الناس عن الجماعة بالمعنى العملي السياسي؛ فيلتزمون جماعة أهل الحل والعقد؛ فتجب طاعتهم، وتحرم منابذتهم لأنهم إما علماء وطاعتهم
واجبة؛ لأنهم المراجع العلمية التي يصدر عنهم الناس، وإما أمراء وزعماء فهؤلاء طاعتهم فرض بالنص والإجماع، وإما زعماء ووجهاء وهؤلاء يطاعون تبعًا لأولئك[19].
ويستدل للقاعدة أيضًا بالأحاديث التي تحض على لزوم الجماعة، والثناء عليها، والتحذير من الشذوذ والفرقة فمنها: قوله ﷺ: «عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة»[20]، ومنها قوله ﷺ: «يد الله مع الجماعة»[21] وغيرها كثير.
ثالثاً من القواعد الشرعية العامة والقواعد الفقهية الخاصة :قواعد الشرع العامة ومقاصده تقتضي ألا تترك مصالح العباد دون إمضاء ولا قضاء، نجد هذا المعنى جليًا في قواعد الفقه الكبرى التي منها قاعدة: “الضرر يزال”، وقاعدة: “جلب المصالح ودرء المفاسد”، وقاعدة: “المشقة تجلب التيسير”، وقاعدة: “الضرورات تبيح المحظورات“، وغيرها؛ فإذا ما خلا الزمان من إمام يقوم بحاجات الناس ويتولى تحقيق مصالحهم؛ فلا بد من رجل، أو ثلة من الرجال يتولون ذلك، وإلا عمَّ الفساد الأرض، وشريعة الله وأحكامه تأبى ذلك؛ هذا وقد حذَّر الإمام الجويني (ت: 478 ه) من مثل هذا في حديثه عن خلو الزمان من إمام فقال: “وإذا لم يصادف الناس قوَّامًا بأمورهم يلوذون به؛ فيستحيل أن يؤمروا بالقعود عما يقتدرون عليه من دفع الفساد، فإنهم لو تقاعدوا عن الممكن، عم الفساد البلاد والعباد…، فإنهم لو لم يفعلوا ذلك، ترددوا عند إلمام المهمات، وتبلدوا عند إظلال الواقعات[22]. ولـمَّا كان خلو الزمان عن إمام محتملٌ متوقع، وخلوه عن عالم، أو عدل مستبعدٌ نادرٌ، وكان من تفسير قوله تعالى: ﴿وأولي الأمر منكم﴾ أنهم الأمراء والعلماء؛ فالأمور عند فقد الأمراء موكولة
إذًا إلى العلماء، أهلِ الحل والعقد لا محالة، كلٌّ بحسب اختصاصه في الأمة؛ لأن الناس مأمورون بطاعة الأمراء والعلماء، فإن لم يكن أمراء، فلا مناص عن طاعة العلماء.
رابعاً مما يستشهد به للقاعدة أقوال أتباع المذاهب الأربعة في تقريرها.
ذكر الباحث سابقًا سبقَ المالكية إلى استنباط هذه القاعدة والعمل بها، وعنهم أخذها أتباع المذاهب الأخرى؛ ولذا آثر أن يبدأ بذكر النقولات من مذهب المالكية، مخالفًا بذلك مراعاة الترتيب الزمني للمذاهب.
- قول المالكية في إعمال القاعدة: ذكر الدسوقي (ت: 1230 ه) في حاشيته عند الحديث عن حق المرأة في طلب الفسخ إن عجز الرجل عن النفقة قائلًا: “اعلم أن جماعة المسلمين العدول يقومون مقام الحاكم في ذلك، وفي كل أمر يتعذر الوصول فيه إلى الحاكم، أو لكونه غير عدل”[23]، وجاء في مواهب الجليل عند الحديث عن أحكام المفقود أن “لزوجة المفقود الرفع للقاضي والوالي، ووالي الماء، وإلا فلجماعة المسلمين”[24]، وفي التاج والإكليل: “قال القابسي وغيره من القرويين: “لو كانت المرأة في موضع لا سلطان فيه؛ لرفعت أمرها إلى صالحي جيرانها يكشفوا عن خبر زوجها، ثم ضربوا له الأجل أربعة أعوام ثم عدة الوفاة، وتحل للأزواج لأن فعل الجماعة في عدم الإمام كحكم الإمام”[25] ولم يكن الأمر مقتصرًا عند المالكية في قيام جماعة المسلمين مقام القاضي على أمور الزواج والطلاق ونحوها من المسائل فقط؛ بل إن الجماعة تقوم مقام القاضي عندهم في كل شيء، حتى في الحدود والدماء، وينصون على ذلك، وقد أورد الونشريسي (ت: 914 ه) عنهم نقولات في كتابه: (المعيار) ومن ذلك قوله: “سئل أبو جعفر أحمد بن نصر الداودي[26] عن بلاد المصامدة ربما لم يكن عندهم سلطان، وتجب الحدود على السراق وشربة الخمر، وغيرهم من أهل الفساد، هل لعدول ذلك الموضع وفقهائه أن يقيموا الحدود إذا لم يكن سلطان، وينظرون في أموال اليتامى والغيب والسفهاء؟ فأجاب بأن ذلك لهم، وكل بلد لا سلطان فيه، أو فيه سلطان يضيع الحدود، أو سلطان غير عدل؛ فعدول الموضع، وأهل العلم يقومون في جميع ذلك مقام السلطان”[27]، وذكر الونشريسي أكثر من إجابة للداودي ينص فيها على قيام جماعة المسلمين مقام القاضي، وذكر الشيخ بن بيه أقوالًا أخرى عن المالكية في إعمال هذه القاعدة وتقريرها[28]؛ آثر الباحث الاقتصار على ما ذكر سابقًا.
- قول الحنفية في إعمال القاعدة: قال ابن الهمال (ت: 861 ه): “وإذا لم يكن سلطان ولا من يجوز التقلد منه كما هو في بعض بلاد المسلمين غلب عليهم الكفار كقرطبة في بلاد المغرب الآن، وبلنسية، وبلاد الحبشة، وأقروا المسلمين عندهم على مال يؤخذ منهم؛ يجب عليهم أن يتفقوا على واحد منهم، يجعلونه واليًا فيولى قاضيًا، أو يكون هو الذي يقضي بينهم، وكذا ينصبوا لهم إمامًا يصلي بهم الجمعة”[29]، وقال ابن عابدين (ت: 1252 ه) في حاشيته: “وأما في بلاد عليها ولاة كفار فيجوز للمسلمين إقامة الجمع والأعياد، ويصير القاضي قاضيًا بتراضي المسلمين”[30].
- قول الشافعية في إعمال القاعدة:ذكر ابن حجر الهيتمي (ت: 974 ه) في الفتاوى: “إذا خلت بلد أو قطر عن نفوذ أوامر السلطان فيها لبعدها وانقطاع أخبارها عنه، وعدم انقياد أهلها لأوامره لو بلغتهم فلم يرسل لهم قاضيًا؛ وجب على كبراء أهلها أن يولوا من يقوم بأحكامهم، ولا يجوز لهم أن يتركوا الناس فوضى؛ لأن ذلك يؤدي إلى ضرر عظيم[31]، وقال الجويني (ت: 478 ه):”فإذا شغر الزمان عن الإمام، وخلا عن سلطانٍ ذي نجدة وكفاية ودراية؛ فالأمور موكولة إلى العلماء، وحق على الخلائق على اختلاف طبقاتهم أن يرجعوا إلى علمائهم، ويصدروا في جميع قضايا الولايات عن رأيهم، فإن فعلوا ذلك، فقد هدوا إلى سواء السبيل، وصار علماء البلاد ولاة العباد([32]).
- قول الحنابلة في إعمال القاعدة: قال الإمام أبو يعلى (ت: 458 ه) عند حديثه عن ولاية القضاء: “ولو أن أهل بلد قد خلا من قاض؛ أجمعوا على أن قلدوا عليهم قاضيًا، نظرت فإن كان الإمام موجودًا؛ بطل التقليد، وإن كان مفقودًا؛ صح ونفذت أحكامه عليهم”([33]).
المبحث الثاني: قيام المراكز الإسلامية مقام القاضي (فقه الأقليات)، تأصيلًا وتطبيقًا
المطلب الأول: اشتراط الإسلام في القاضي
قبل ذكر آراء الفقهاء في هذه المسألة لقائل أن يقول: إن الذي ينظر في فتاوى المالكية التي أصلت لقاعدة: “قيام جماعة المسلمين مقام القاضي”؛ يدرك أن المالكية لا يجيزون أن يتولى قاضٍ غير مسلم على المسلمين، ولا أن يحتكم المسلمون لغير المسلم، لا في السعة ولا في الضرورة؛ وإلا لـمَا قالوا بهذه القاعدة، وهم الفقهاء المقاصديون؛ ولكنَّ لا بد أن يقيَّد مثل هذا القول بالزمان والمكان الذي استخرج فيه أولئك الفقهاء هذه القاعدة، حيث لم تكن فيه حقوق مدنية (كالجنسية وجواز السفر وما يتعلق بهما مثلاً) كالتي نراها اليوم، وعليه لا يتوافق إيراد هذه القاعدة ومقاصد الشريعة في كل زمان ومكان.
أقول: منصب القضاء في الإسلام من أخطر الولايات، تتعلق الأحكام الصادرة عنه بأرواح الناس، وأعراضهم وأموالهم؛ ولذا شدد فقهاء المذاهب الأربعة في الشروط الواجب توافرها في القاضي، وكان شرط الإسلام أولَّ ما يعدون من شروط القاضي الذي يتولى القضاء بين المسلمين[34]، بل إنهم -عدا الحنفية- لا يجوزون تولي القاضي غير المسلم على أهل دينه وملته
في دار الإسلام[35)! وفي ذلك يقول الشربيني (ت: 977 ه): “وأما جريان العادة بنصب حاكم من أهل الذمة عليهم، فقال الماوردي والروياني: إنما هي رياسة وزعامة، لا تقليد حكم وقضاء، ولا يلزمهم حكمه بإلزامه، بل بالتزامهم، ولا يلزمون بالتحاكم عنده”[36]، ومثل هذه الشروط ذكرها الفقهاء تنظيرًا كما هو واضح في المراجع التي أحال عليها الباحث.
ولكن الأمر يختلف عنه عند تنزيل تلك الشروط على الواقع العملي، ثم إن ذلك التنزيل يختلف في الزمن الواحد من مكان لآخر، فكيف بأزمنة مختلفة أيضًا، وإن مثل هذه القاعدة إنما تذكر في زماننا هذا عند تناول القضايا المتعلقة بالأقليات المسلمة في بلاد الغرب، أكثر من القضايا التي تتعلق بغيرهم من المسلمين؛ ولذا لا بد من دراسة ذلك الواقع بكل ما يحيط به من قوانين ومستجدات لم تكن موجودة إبان فتوى المالكية بهذه القاعدة، بل إن واقع المسلمين في كل دولة من دول الغرب يحتاج لدراسة على حدة، وقد يختلف الحكم في دولة عن الدولة الأخرى، مع أنها كلها لا سلطان للإسلام فيها، فالدولة التي أعطت المراكز الإسلامية فيها ولاية على المسلمين؛ يختلف حكمها عن التي منعت ذلك، وألزمت المسلمين بقوانينها وقضاتها، فالقاعدة تنطبق على المراكز التي أعطيت ولاية على المسلمين كما سيأتي، ولا إشكال في ذلك، وإنما الإشكال في الدول التي ألزمت المسلمين بقوانينها وقضاتها، وعليه يتولد التساؤل: هل يجوز التحاكم إليها أم لا؟ ومن ذلك التساؤل يتولد تساؤل آخر مجمله: هل يمكن إعادة النظر في شرط إسلام القاضي، بعد أن أصبحت الأحكام مقننة، يستوي في الحكم بها القاضي المسلم وغيره؟
أما ما يتعلق باحتكام المسلمين للقاضي غير المسلم في الدول التي لم تعطِ المراكز الإسلامية ولاية على المسلمين؛ فقد صدرت فتاوى عدة تبيح للمسلمين ذلك، إما عملاً بمبدأ الضرورة، أو تخريجًا له على أنه تفويض من الزوج للقاضي، ولو لم يصرح بذلك عملًا بقاعدة: (المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا) وتنفيذ أحكام القضاء ولو كان غير إسلامي جائز من باب جلب المصالح، ودفع المفاسد، وحسمًا للفوضى[37].
وقد أجاز مجمع الفقه الإسلامي في دورته التاسعة المنعقدة في دولة الإمارات العربية المتحدة، في: 1/4/1995، في قرار رقم: 91/8/9: لجوء الدول الإسلامية إلى هيئات التحكيم الدولية غير الإسلامية؛ لعدم وجود محاكم دولية إسلامية، معللاً القرار بأنه توصل إلى ما هو جائز شرعاً، وهذا التحكيم في قضايا كبيرة عامة تخص جموع المسلمين أجيز فيه التحاكم إلى هيئة غير إسلامية؛ فإنه من باب أولى القول بجواز ذلك التحكيم في مسائل أقل شأناً كالتفريق بين المرأة وزوجها، وكل ذلك نظرًا لوجود المسلمين في بلاد غير إسلامية.
أما فيما يتعلق بإعادة النظر في شرط الإسلام في القاضي في هذا الزمن؛ نظرًا لأن كل الأحكام أصبحت مقننة؛فهذا الأمر ينظر إليه من ناحيتين هما:
الأولى: أن يقال هذا تحت ضغط الواقع المعاش فيخرج على فتوى المجامع الفقهية جواز الاحتكام للقاضي غير المسلم في بلاد الغرب، وعليه يرفع شرط الإسلام عن القاضي، وتكون مثل هذه الفتوى مرحلية، يعمل خلالها المسلمون على أسلمة الدولة بأكملها.
الثانية: أن يُورد مثل هذا الإيراد في بلد تحكم بالإسلام، وفيها مواطنون غير مسلمين، قد يولى أحدهم القضاء على المسلمين؛ فمثل هذا الأمر الإجماع منعقد على عدم جوازه، ذلك أن للقضاء حكمًا ومقاصدَ لا يمكن أن يحققها غير المسلم، وقد ذكر ابن فرحون (ت: 799 ه) أن الحكمة من القضاء: “رفع التهارج، ورد النوائب، وقمع الظالم، ونصر المظلوم، وقطع الخصومات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”[38]، وكيف سينهى غير المسلم عن المنكر، وهو متلبس بالكفر أجلُّ منكر وأعظمه.
المطلب الثاني: فقه الأقليات والمراكز الإسلامية.
الفرع الأول: فقه الأقليات
لـمَّا كانت أهم خصوصيات الأقليات المسلمة في العصر الحاضر دينية؛ فإن غالبية الشعوب غير المسلمة أخذت تنحو إلى تجاهل حقوقها، وهذا أحدث عند تلك الأقلية إشكالية في كيفية الحفاظ على قيمها، والانسجام مع محيطها؛ فاحتاجت أوضاع تلك الأقلية إلى فقه خاص، لا يخرج في أدلته عن إطار الفقه الإسلامي ومرجعيته: الكتاب والسنة، وما بني عليها من الأدلة، كالإجماع
والقياس وغيرهما؛ فاستقر قرار المجلس الأوربي على صحة استعمال مصطلح: “فقه الأقليات”، وأن موضوعه الأحكام الفقهية المتعلقة بالمسلم الذي يعيش خارج بلاد الإسلام، ولكنه فقه يقوم على إعمال قواعد: الضرورة والحاجة، والرخص والمشقات وغيرها، ووجود مثل هذه القواعد فيه وجود واسع، ومن تلك القواعد التي يقوم عليها أيضًا: القاعدة محل الدراسة: “قيام جماعة المسلمين مقام القاضي” التي تتولى الإجابة على إشكال كبير تعرضت له تلك الأقليات، طال جوانب مهمة في حياتهم.
الفرع الثاني: المراكز الإسلامية
يقول الشيخ بن بيه في قاعدة: قيام جماعة المسلمين مقام القاضي: “ويتفرع عليها: تصرفات المراكز الإسلامية[39] في قضايا الأقلية المسلمة الشرعية… وحيث إنه لا يوجد في المهجر قضاة شرعيون؛ فإن المراكز الإسلامية؛ يمكن أن تمنح صفة شرعية لفض بعض النزاعات، وحسم بعض الخلافات بين المسلمين طبقًا لما سماه الفقهاء تارة: بجماعة المسلمين، ومرة بالعدول الذين يقومون مقام القاضي”[40).
وبما أن المالكية هم أول من استنبط هذه القاعدة العظيمة وعمل بها؛ فلا بد من الوقوف على الشروط التي وضعوها للجماعة التي تقوم مقام القاضي عند فقده أو جوره؛ لتُطلب في القائمين على المراكز الإسلامية، وتتلخص الشروط فيما يأتي:
1- العدد: اختلفت أقوال المالكية في تحديد عدد الجماعة التي تقوم مقام القاضي، فذهب الشيخ محمد عليش (ت: 1299ه) ألا يقل عددهم عن ثلاثة فقال: “لأنهم كالإمام عند عدمه، وتعبير المصنف كغيره بجماعة، يقتضي أن الواحد لا يكفي، وكذا الاثنان”[41]، وبناء عليه ينبغي ألا يقل عدد القضاة أو المفتين في المراكز الإسلامية عن ذلك.
2- الصفة: لم يشترط المالكية في الجماعة القائمة مقام القاضي إلا العدالة، وقد سبق قول الدسوقي: “اعلم أن جماعة المسلمين العدول يقومون مقام القاضي”[42]، فلم ينصوا على أن يكونوا من الفقهاء، ولا من المجتهدين، إما لكون ذلك ليس شرطًا فيهم، أو لأن الأصل ألا يتصدى لذلك المقام إلا العلماء، وذكر ابن حجر الهيتمي أن المسلمين: “إذا ولوا عدلًا نفذت جميع أحكامه، وصار في حقهم كالقاضي، ولا يشترط فيه اجتهاد؛ لأن غايته أنه كالمحكم، والمحكم لا يشترط فيه الاجتهاد؛ إلا مع وجود القاضي”[43]، وعلى أي حال يلزم القائمين على المراكز الإسلامية معرفة أن التصدي للفتوى والقضاء في نازلة من النوازل لا بد له من علم بالأحكام الشرعية المتعلقة بالقضية النازلة، أو الرجوع إلى أهل الاختصاص فيها.
3- الاتفاق على الحكم: يظهر من عبارات المالكية ضرورة صدور حكم الجماعة في القضية محل الحكم باتفاق الأغلبية، ولا يعد الحكم نافذًا إذا كان هناك خلاف بينهم، وهو مقتضى قياس قولهم في الحكمين، قال الباجي (ت: 474 ه) في المنتقى: “ولو حكَّم المتخاصمان رجلين فحكم أحدهما، ولم يحكم الآخر؛ فإن ذلك لا يجوز له، قاله سحنون في كتاب ابنه، ولو حكم جماعة فاتفقوا على حكم نفذوه وقضوا به جاز، قاله ابن كنانة في المجموعة، ووجه ذلك: أنهما إذا رضيا بحكم رجلين أو رجال؛ فلا يلزمهما حكم بعضهم دون بعض[44]، ومثل هذا الشرط يراعى في هذا الزمن في النظام الداخلي للمراكز الإسلامية.
المطلب الثالث: نماذج تطبيقية من إعمال المراكز الإسلامية للقاعدة.
تفتح قاعدة “قيام جماعة المسلمين مقام القاضي” باب الولاية للمراكز الإسلامية في بلاد الغرب وغيرها على المسلمين، لا سيما فيما يتصل بأحوالهم الشخصية، كالزواج والطلاق وما يتعلق بهما، وهذه بعض الأمثلة على ذلك:
الفرع الأول: تزويج المسلمة التي وليها كافر أو التي لا ولي لها
ذهب جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة إلى عدم جواز تولي الكافر زواج ابنته المسلمة[45]، ويوجد في البلاد غير المسلمة مسلمات كثر من آباء كفار، فعند إقدام
إحداهن على الزواج بمسلم، تحتاج في ذلك لولي، وحيث لا يوجد قاضٍ مسلم في تلك البلاد يتولى تزويجها؛ تقوم المراكز الإسلامية فيها مقام القاضي فتتولى تزويج تلك المرأة.
وتتولى المراكز تزويج المسلمة التي لا ولي لها أيضًا، ولو منع مثل هذا الأمر إلا بوجود ولي أو قاضٍ مسلم؛ لأوقع ذلك المسلمين في المشقة والحرج، الأمر الذي جاءت شريعة الإسلام لترفعه عن المسلمين، بل عن الناس أجمعين، وفي تولي المراكز الإسلامية ذلك سدٌّ لباب الإفساد في الأرض، وقد جاء النص على ذلك في قرار مجلس الإفتاء الأوربي تحت عنوان: حكم قيام المرأة بعقد نكاحها دون تدخل وليها: “إلا إذا لم يوجد للمرأة ولي؛ فيكون المركز الإسلامي وليها في البلاد، التي ليس فيها قضاء إسلامي”[46].
الفرع الثاني: قيام المراكز الإسلامية بإبرام عقود الزواج والطلاق والفسخ
يقول الشيخ بن بيه في قيام المراكز الإسلامية مقام القاضي: “إذا تأصل القول بقيام المراكز الإسلامية مقام القاضي؛ فإنه يتفرع عنه قيامها بما يقوم به القاضي من تزويج وتطليق، وفسخ وغيره، وإذا جاز التزويج فالفسخ من باب أولى؛ لأنه أخف من باب النكاح”[47]، ولكن لا بد أن يراعى في تنزيل ذلك قوانين الدولة التي تقطن بها الأقلية، حيث إن المركز الإسلامي قد يقوم بإصدار حكم الطلاق، أو فسخ النكاح في غضون أيام، ولكن المرأة تبقى في سجلات الدولة متزوجة، وقد تتأخر إجراءات تثبيت الفسخ في سجلات الدولة، وهذا تترتب عليه أحكام تتعلق بزواجها بآخر، أو ميراثها إن مات، وغيرها من الأحكام، ولذا كان المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي محتاطًا في قراره الصادر بخصوص: “مدى مشروعية قيام المراكز الإسلامية وما في حكمها بتطليق زوجات المسلمين، اللاتي ترافعن إليها، أو النظر في ذلك ممن حصلن على الطلاق من محاكم غير إسلامية”، فقد فدعا المسلمين إلى التوجه للمراكز الإسلامية المعتمدة، كما دعا تلك المراكز للسعي لتشكيل لجنان إصلاح قد تحول دون وقوع الطلاق أو الفسوخ، ودعاها للسعي للحصول على الخصوصية القضائية في أحوالهم الشخصية؛ مما يعزز من تحقيق المواءمة بين الالتزام بين أحكام شريعتهم، وقوانيين البلاد التي يعيشون بها[48].
وجاء في فتاوى مجمع فقهاء الشريعة “إذا تنازع الزوجان حول الطلاق فإن المراكز الإسلامية تقوم مقام القضاء الشرعي عند انعدامه، بعد استيفاء الإجراءات القانونية التي تحول دون وقوع المراكز الإسلامية أو القائمين عليها تحت طائلة القانون”، ويرى المجمع أن “اللجوء إلى القضاء الوضعي لإنهاء الزواج من الناحية القانونية لا تترتب عليه وحده إنهاء الزواج من الناحية الشرعية، فإذا حصلت المرأة على الطلاق المدني؛ فإنها تتوجه به إلى المراكز الإسلامية لإتمام الأمر من الناحية الشرعية”[49].
وقد أفتى بقيام المراكز الإسلامية في بلاد الغرب مقام القاضي المسلم عدد من الفقهاء المعاصرين، منهم الشيخ تقي العثماني حيث قال: “وبناء على رأي المالكية ومن وافقهم من العلماء المعاصرين؛ فإني أرى أن المراكز الإسلامية في بلاد غير المسلمين، ينبغي أن يكوّنوا جماعة تقوم بهذه المهمة”[50].
الخاتمة: أهم النتائج والتوصيات
أولاً: النتائج
وصل الباحث في نهاية هذه الدراسة إلى جملة من النتائج كان من أهمها ما يأتي:
- أن غياب سلطان الإسلام قديماً عن الأقطار التي انتشر فيها المذهب المالكي، وجعل المالكية المصالح المرسلة دليلاً مستقلاً؛ كانا من أبرز أسباب سبقهم إلى استنباط قاعدة “قيام جماعة المسلمين مقام القاضي”.
- أن أتباع المذاهب الفقهية الثلاثة أخذوا عن المالكية: أن جماعة المسلمين تقوم مقام القاضي عند فقده أو جوره، ولم يتعصبوا لآراء أئمتهم.
- أنه لا خلاف بين فقهاء المذاهب الأربعة أن الإسلام شرط لا بد منه في القاضي.
- أن المجلس الأوربي للإفتاء أفتى بجواز الاحتكام للقاضي غير المسلم، وجعلها من باب تفويض الزوج له.
- أن المجامع الفقهية وعدد كبير من الفقهاء المعاصرين يرون أن المراكز الإسلامية في بلاد الغرب تقوم مقام القاضي المسلم.
ثانياً:التوصيات
يوصي الباحث نهاية هذا البحث بجملة من التوصيات، من أهمها ما يأتي:
- ضرورة دراسة شرط الإسلام في القاضي دراسة موسعة في ضوء المستجدات المدنية المعاصرة.
- يوصي الباحث القائمين على الفتاوى في العالم الإسلامي بضرورة إبراز القواعد الفقهية، وتوظيفها في الاستدلال على أحكام القضايا النازلة بالمجتمعات المسلمة، أو بالمسلمين في البلاد غير المسلمة.
- ضرورة الاطلاع على آراء المذاهب الأخرى عند التصدي لبيان حكم النوازل؛ تأسياً بما فعله فقهاء المذهب الحنفي إبان الاحتلال البريطاني لبلاد الهند، فقد يوجد فيها مخارج قد لا توجد في مذهب المتصدر للفتوى.