بيان دقيق من ابن عاشور لدلالة نقمة أهل الكتاب من المسلمين المنصوص عليها في الآيتين من سورة المائدة في ضوء السياق وسبب النزول.

يقول ابن عاشور أن دلالة هاتين الآيتين [المائدة:59-60] لا تتضح أتم وضوح ولا يظهر الداعي إلى أمر الله رسوله عليه الصلاة والسلام بأن يواجه أهل الكتاب بغليظ القول، مع أنه القائل {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ}، والقائل {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} إلا بعد معرفة سبب النزول، “فيعلم أنهم قد ظلموا بطعنهم في الإسلام والمسلمين”.

وذكر ما جاء في سبب نزول الآيتين – نقلاً عن الواحدي وابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنه – أنه “جاء نفر من اليهود فيهم أبو ياسر بن أخطب، ورافع بن أبي رافع، وعازر، وزيد، وخالد، وأزار بن أبي أزار، وأشيع، إلى النبيء فسألوه عمن يؤمن به من الرسل، فلما ذكر عيسى ابن مريم قالوا: لا نؤمن بمن آمن بعيسى، ولا نعلم ديناً شراً من دينكم، وما نعلم أهل دين أقل حظاً في الدنيا والآخرة منكم، فأنزل الله (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ) إلى قوله : (وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ)”.

وعلق على سبب النزول قائلاً: “فخص بهذه المجادلة أهل الكتاب؛ لأن الكفار لا تنهض عليهم حجتها، وأريد من أهل الكتاب خصوص اليهود، كما ينبئ به الموصول وصلته في قوله: (مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ) الآية.

ثم بين أن “الاستفهام إنكاري وتعجبي: فالإنكار دل عليه الاستثناء، والتعجب دل عليه أن مفعولات (تنقمون) كلها محامد لا يحق نقمها، أي لا تجدون شيئاً تنقمونه غير ما ذكر، وكل ذلك ليس حقيقاً بأن ينقم. فأما الإيمان بالله وما أنزل من قبل، فظاهر أنهم رضوه لأنفسهم فلا ينقمونه على من ماثلهم فيه، وأما الإيمان بما أنزل إلى محمد فكذلك؛ لأن ذلك شيء رضيه المسلمون لأنفسهم وذلك لا يهم أهل الكتاب، ودعا الرسول إليه أهل الكتاب فمن شاء منهم فليؤمن ومن شاء فليكفر، فما وجه النقم منه. وعدي فعل (تَنْقِمُونَ) إلى متعلقه بحرف (من) وهي ابتدائية. وقد يعدى بحرف (على)”.

وبعد أن ذكر أن قوله تعالى (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ) قد قرأه جميع القراء بفتح همزة (أن) على أنه معطوف على (أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ)، أشار إلى أنه “قد تحير في تأويلها المفسرون لاقتضاء ظاهرها فسق أكثر المخاطبين مع أن ذلك لا يعترف به أهله، وعلى تقدير اعترافهم به فذلك ليس مما ينقم على المؤمنين إذ لا عمل للمؤمنين فيه، وعلى تقدير أن يكون مما ينقم على المؤمنين فليس نقمه عليهم بمحل للإنكار والتعجب الذي هو سياق الكلام”.

وذكر أنه قد “ذهب المفسرون في تأويل موقع هذا المعطوف مذاهب شتى”، ونقل وجوهاً من تأويلاتهم وعلق عليها:

الوجه الأول: هو “عطف على متعلق (آمنا)، أي آمنا بالله وبفسق أكثركم، أي تنقمون منا مجموع هذين الأمرين”، لكنه بين أن هذا الوجه في التأويل “يفيت معنى الإنكار التعجبي؛ لأن اعتقاد المؤمنين كون أكثر المخاطبين فاسقون يجعل المخاطبين معذورين في نقمه فلا يتعجب منه ولا ينكر عليهم نقمه، وذلك يخالف السياق من تأكيد الشيء بما يشبه ضده فلا يلتئم مع المعطوف عليه، فالجمع بين المتعاطفين حينئذ كالجمع بين الضب والنون، فهذا وجه بعيد”.

والوجه الثاني في تأويل موقع المعطوف هو أنه “معطوف على المستثنى، أي ما تنقمون منا إلا إيماننا وفسق أكثركم، أي تنقمون تخالف حالينا، فهو نقم حسد، ولذلك حسن موقع الإنكار التعجبي”. وبين أن “هذا الوجه ذكره في الكشاف وقدمه، وهو يحسن لو لم تكن كلمة (منا)؛ لأن اختلاف الحالين لا ينقم من المؤمنين، إذ ليس من فعلهم، ولكن من مصادفة الزمان”.

وأما الوجه الثالث؛ فهو “حذف مجرور دل عليه المذكور، والتقدير: هل تنقمون منا إلا الإيمان؛ لأنكم جائرون، وأكثركم فاسقون”، وعلق على هذا الوجه بقوله: “وهذا تخريج على أسلوب غير معهود، إذ لم يعرف حذف المعطوف عليه في مثل هذا”. وقال: “وذكر وجهان آخران غير مرضيين”.

ثم قال: “والذي يظهر لي أن يكون قوله: (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ) معطوفاً على أن (أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ) على ما هو المتبادر، ويكون الكلام تهكماً، أي تنقمون منا أننا آمنا كإيمانكم وصدقنا رسلكم وكتبكم، وذلك نقمه عجيب، وأننا آمنا بما أنزل إلينا وذلك لا يهمكم، وتنقمون منا أن أكثركم فاسقون، أي ونحن صالحون، أي هذا نقم حسد، أي ونحن لا نملك لكم أن تكونوا صالحين. فظهرت قرينة التهكم، فصار في الاستفهام إنكار فتعجب فتهكم، تولد بعضها عن بعض وكلها متولدة من استعمال الاستفهام في مجازاته أو في معان كنائية، وبهذا يكمل الوجه الذي قدمه صاحب الكشاف”.

وختم تعليقه بقوله: “ثم اطرد في التهكم بهم والعجب من أفن رأيهم مع تذكيرهم بمساويهم، فقال (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ} إلخ”.