كان صدور (روضة المدارس) المصرية عام 1870  معبرًا عن النهضة التعليمية، والنهضة الصحافية اللتين شهدهما عصر الخديو إسماعيل (1863-1879) وارتبط بهما، أما النهضة التعليمية، فقد جسدها افتتاح عدد كبير من المدارس، وازدياد أعداد الطلاب، وإعادة افتتاح ديوان المدارس الذي كان قد تعطل في عهد سعيد وتعيين علي مبارك مديرًا له، ورفاعة الطهطاوي ناظرًا لقلم الترجمة فيه، وقد تولى الأخير الإشراف على الصحيفة بصفته ناظرًا لها.

أما النهضة الصحافية؛ فقد جسدها صدور بعض الصحف الأهلية، مثل: وادي النيل- 1866م، ونزهة الأفكار- 1869م، والوطن- 1877م، ومصر- 1877م، والتجارة- 1878م، والأهرام- 1875م، وغيرها. فضلاً عن صدور بعض الصحف والمجلات المتخصصة من قبيل “يعسوب الطب” سنة 1865م، و”الجريدة العسكرية المصرية” سنة 1865م، و”أركان حرب الجيش المصري” سنة 1874م.

وقد تميزت روضة المدارس بأنها أول صحيفة مصرية تقيم مجلسًا للتحرير، أي تعين رؤساء أقسام متخصصين في المجالات المختلفة، وقد وقع اختيارها على ثلة من علماء العصر ومن هؤلاء: “عبد الله فكري” الأديب المعروف، و”إسماعيل الفلكي” عالم الرياضيات، و”محمد باشا قدري” صاحب أول محاولات لتقنين الفقه الإسلامي، والشيخ “حسونة النواوي”، الفقيه الحنفي الذي تعين فيما بعد شيخًا للجامع الأزهر.

طبيعة الصحيفة ومجالات اهتمامها

صدرت الصحيفة لمدة ثمانية سنوات (1870-1877) بواقع عدد كل أسبوعين، والمتابع لما نشرته من مقالات وفصول علمية وأحاجي فكرية ورياضية؛ يجد أنها قد اتسمت بسمات أساسية، هي:

– تغليب الاهتمام الثقافي والتعليمي عما سواه من اهتمامات، والعناية بإيراد أخبار المدارس، مثل إجراء الامتحانات وإعلان نتائجها، وتكريم التلاميذ المتفوقين وما إلى ذلك.

– عدم التطرق إلى الشؤون السياسية.

– نشر مقالات وفصول من كتب في مجالات متعددة كالجغرافيا والتاريخ والفلك والأدب، على هيئة ملاحق في ملازم مرقمة أرقاما مسلسلة، حتى يمكن جمعها في كتاب آخر الأمر.

الأبعاد الإصلاحية للصحيفة  

ويهمنا في هذا المجال أن نجلو بعضا من معالم الإصلاح للصحيفة، وهو ما لم ينل حقه من اهتمام الباحثين، وأن نبرز دورها في تدعيم تيار النهضة الإسلامية.

– الدعوة إلى الاجتهاد والتجديد: كانت الدعوة إلى الاجتهاد ونبذ التقليد أحد القضايا المركزية التي شغلت اهتمام الصحيفة، وقد برزت في عدد من المواد الهامة التي نشرتها، وأولها مقال لرفاعة الطهطاوي بعنوان “بقاء حسن الذكر باستخدام الفكر”، وهو مقال يتمحور حول الاجتهاد في الدين، ودراسته، واستنباط الأحكام الشرعية، ويبدو أن هذا الموضوع كان محط اهتمام رفاعة، إذ عاود الرجوع إليه في العدد السادس من السنة الأولى، حين نشر فصول كتابه: (القول السديد في الاجتهاد والتجديد) على شكل ملاحق في الصحيفة، وهو يدور حول الاجتهاد والتجديد، وفيه فصّل ما أجمله في مقاله السالف، وفي الحقيقة لم تكن الدعوة إلى الاجتهاد داخل الصحيفة قاصرة على الطهطاوي، بل إن كثيرًا من المقالات والملاحق الإسلامية التي نشرتها ظهر فيها اجتهاد الكتاب وميلهم نحو التجديد. مما يدعم افتراضنا بأن الدعوة إلى التجديد والاجتهاد كانت تمثل تيارًا عامًا داخل الصحيفة، ولم تكن دعوة آحاد من كتابها.

– التوفيق الإسلام والعلم: أما الملمح الثاني من الملامح الإصلاحية للصحيفة، فقد تجلى من خلال محاولات دحض شبهة التعارض بين الدين الإسلامي والعلم الحديث، ومكتشفاته في العلوم الطبيعية على وجه الخصوص، ومما ورد في ذلك “رسالة في مقارنة بعض مباحث الهيئة بالوارد في النصوص الشرعية”، لعبد الله فكري، وهي تبحث في بعض جوانب الاكتشافات الحديثة في الفلك والطبيعة وموقف الإسلام منها محاولا الوصول إلى التوافق بين النصوص الشرعية والاكتشافات العلمية الحديثة.

– استئناف الكتابة في السيرة النبوية: يعد إحياء الكتابة والنشر في السيرة النبوية وفق المناهج الجديدة معلمًا نهضويا آخر لروضة المدارس، وكان من أضخم الكتب التي نشرت ملازمها على هيئة ملاحق كتاب: “نهاية الإيجاز في سيرة سكان الحجاز” وهو آخر مصنفات الطهطاوي، وقد حظي هذا الكتاب باهتمام الباحثين، ورأوا فيه أول دراسة للسيرة النبوية وفق المناهج الحديثة في التصنيف، فيما يعتقد نفر آخر أن هذا الكتاب يحوى في ثناياه ردودًا على المؤلفات التي تفتري على الإسلام، تلك المؤلفات التي قرأها الطهطاوي في أثناء إقامته في أوروبا. ويدعم هذا الافتراض أن رفاعة دعم ردوده بحجج عقلية صرفة ووظف المنهج الاجتماعي في دراسة السيرة النبوية.

رفاعة الطهطاوي وحقوق المرأة في الإسلام

لا يفوتنا في هذا المقام أن نتوقف أمام خطاب رفاعة الطهطاوي المؤيد لحقوق المرأة كما أقرها الشرع الحنيف. والمعلوم أن روضة المدارس كانت أول صحيفة عربية تعنى بتناول حقوق المرأة في الإسلام، إذ اتخذ منها رفاعة منبرًا لدعوته إلى تعليم الفتيات، وذلك من خلال نشره فصول كتابه (المرشد الأمين للبنات والبنين)، وقد بدأ نشرها في العدد 16 من السنة الخامسة سنة 1291، وقد جُمعت بعد ذلك في كتابه المعروف بهذا الاسم.

وقد ذهب رفاعة في هذه الفصول إلى أن تعلم الفتيات القراءة والكتابة والحساب هو “مما يزيدهن أدبا وعقلا، ويجعلهن بالمعروف أهلا، ويصلحن به لمشاركة الرجال في الكلام والرأي”، ويناقش مسألة حرمان الفتيات من التعليم؛ فيذهب إلى أن الإسلام يحث أتباعه جميعا على طلب العلم، ويرجع ذلك إلى “التغالي في الغيرة عليهن من إبراز محمود صفاتهن – أيًا ما كانت – في ميدان الرجال، تبعًا للعوائد المحلية المشوبة بجمعية جاهلية”.

ولا تقف حدود دعوة رفاعة عند التعليم، بل تتعداه إلى المطالبة بعمل المرأة؛ إذ إن التعليم “يمكّن المرأة عند اقتضاء الحال أن تتعاطى من الأشغال والأعمال ما يتعاطاه الرجال على قوتها وطاقتها، فكل ما يطيقه النساء من العمل يباشرنه بأنفسهن، وهذا من شأنه أن يشغل النساء عن البطالة؛ فإن فراغ أيديهن من العمل يشغل ألسنتهن بالأباطيل وقلوبهن بالأهواء وافتعال الأقاويل، فالعمل يصون المرأة عما لا يليق، ويقربها من الفضيلة وإذا كانت البطالة مذمة في حق الرجال فهي مذمة عظيمة في حق النساء؛ فإن المرأة التي لا عمل لها تقضي الزمن خائضة في حديث جيرانها، وفيما يأكلون ويشربون ويلبسون ويفرشون….وهكذا”.

ويمضي رفاعة معززًا رأيه في عمل المرأة بالاستناد إلى جملة من الأحاديث النبوية تبين أن صناعة الغزل في عهد النبي (ص) كانت من مهام النساء، وأن عمل المرأة بمغزلها من أحسن الأعمال إلى الله، ثم ينتقل إلى مناقشة قضية لم تكن مطروحة في عصره وهي تولي المرأة للولايات العامة، وهو يجمل رأيه على النحو التالي:

أولا: أن الشريعة قد قضت بقصر السلطة على الرجال دون النساء وأن النساء لا يتقلدن بالرتب الملوكية ولا يلبسن التاج الملوكي، وأما منح السلطة للنساء فيكون في البلاد التي قوانينها محض سياسة وضعية بشرية، مضيفا أن تمدن البلاد الإسلامية مؤسس على التحليل والتحريم الشرعيين، بدون مدخل للعقل تحسينًا أو تقبيحًا، حيث لا حسن ولا قبيح إلا بالشرع.

ثانيا: أن الإسلام يصون المرأة من مشاق هذا العمل الذي يتطلب مخالطة الموظفين والجهادية، ومعاشرة جميع أصحاب المناصب والمراتب، من أصحاب السيوف والقلم، والذي يدخلها في مجال المنافسة والمعاداة، واتهامها بالخروج عن الحياء فلا يبرئها أحد مما يقال فيها.

ثالثا: أن عدم تولي المرأة منصب الولاية العامة أو السلطنة ليس مرجعه نقصًا في كفاءتها، وإنما يرجع إلى توزيع الأدوار حسب الطبيعة البشرية، ويستشهد بقول عروة بن الزبير لذكوان: لو كانت إمرة لامرأة بعد النبوة لاستحقت عائشة، وذلك في معرض ذكر تفوق السيدة عائشة في العلم على الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم.

يتضح من هذا كله أن روضة المدارس، كانت سباقة في طرح أفكار على درجة من الجرأة على صعيد قضايا المرأة، وقضايا الاجتهاد، والمواءمة بين الإسلام والعلم الحديث؛ فقدمت بذلك لبنات أساسية في حركة النهضة الإسلامية التي أخذت تجلياتها تتضح في العقود التالية على يد تيار الإصلاح الإسلامي.