إذا كنا نقصد بالثقافة الإسلامية ذلك النسيج الحضاري الشمولي الذي قوامه الدين الإسلامي، ليس من حيث كونه عقيدة وشريعة فحسب، بل من حيث هو حضارة وفعل إنساني تضافر في إبداعه مجموع الشعوب التي التقى بها الإسلام عن طريق الفتح أوالتجارة أوالاتصال أو تبادل العلوم، فيجب أن نقف بإجلال أمام عالمية الثقافة الإسلامية كمكون أساسي في رسم خارطة الثقافة الإنسانية عموما.
قبل التطرق لخاصية عالمية الثقافة الإسلامية، وجب الحديث في البداية عن مفهوم العالمية في الإسلام. فما مفهوم عالمية الإسلام؟ وماهي مظاهرها؟ وهل يقتصر الأمر فقط على الدعوة الإسلامية؟ وكيف نفرق بين العالمية و مصطلح العولمة الذي انتشر في السنوات الأخيرة؟
ماذا تعني “العالمية” في الإسلام؟
تُعرف “العالمية” باللغة الإنجليزية بمصطلح (Global)، وهي مفهوم يدل على الانتشار الواسع في أكثر من مكان، وتعرف أيضاَ، بأنها: صفة يتميز بها شيءٌ ما، وتدل على أنه معروف من قبل ملايين الأشخاص حول العالم، لذلك يطلق على الشيء المشهور، أو المعروف عند أغلب الناس مصطلح العالمي.
وكلمة العالمية مشتقة من كلمة عالم، والتي تشير إلى الكرة الأرضية، ومن هنا تشير العالمية إلى كل شيء لا يرتبط بحدود معينة، أو لا يوجد بمنطقة ما، بمعنى لا يخص فرداً، أو مجموعة من الأفراد، أو دولة معينة.
ويعرف مصطلح العالمية على أنه “حركة انسانية تخدم البشرية، وتقارِب بين الشعوب، بعيدا عن المساس بخصوصيتها وهويتها الثقافية”.
أما عالمية الإسلام، فلغة تعني أن الإسلام منتشر في كل العالم. واصطلاحا تعني أن الإسلام آخر الرسالات السماوية إلى البشر جميعهم، وليس مصورا بجماعة دون غيرهم، والدليل قوله سبحانه {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}(الأنبياء-107)، والحديث في صحيح مسلم: “كانَ كُلُّ نَبِيٍّ يُبْعَثُ إلى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وبُعِثْتُ إلى كُلِّ أحْمَرَ وأَسْوَدَ” ، ومعنى ذلك أنّ شريعة الإسلام وما تضمّنته مِن قوانين أخبر بها الرسول ﷺ في القرآن أو السنة هي لعموم الناس.
جعل الله رسالة محمد ﷺ خاتمة لرسالات الأنبياء قبله، ومتمّمة لما نزل عليهم من الهداية، وجعله الله دينًا بصِبغة انسانية عالمية؛ لأنّه يناسب كلَّ واحد من الناس في كل وقت ومكان، وجعل شريعته عالمية وموافقة للبشر جميعًا، فهي تمتلك المقومات والخصائص التي تجعلها عالمية: فهي إلهية، واقعية، ترفع الحرج والمشقّة، ملائمة للطبيعة البشرية، وسطية، تجمع بين المرونة والثبات، والكثير من الديانات والأنظمة البشرية تفتقر لهذه المقومات الأساسية.
بعض الأدلة على عالمية الإسلام
جاء تشريع الإسلام عامًا لجميع الناس ولكلّ الأحوال في كلّ الأزمان والأماكن، لهذا هو عالمي، والأدلة على عالميّته أثبتها القرآن الكريم، وأحاديث الرسول ﷺ، وفيما يأتي عدد منها:
- قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، جاءت أول آيات القرآن الكريم لتثبت عالمية الإسلام، وأنّ الله تعالى رب كل الناس، وليس رب المسلمين أو العرب فقط.
- قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} (التكوير – 27) ، جاء في تفسير الزجاج؛ أنّ معنى العالمين كلّ مخلوقات الله، وهو ربها جميعا، وهو جامع كل العوالم، ولا مفرد من نفس لفظ العالم، لأن العالم جمع لأشياء مختلفة.
- قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}(الأنبياء-107)، أخبر القرآن الكريم أنّ الرسول ﷺ، مبعوث رحمة للعالمين جميعا، وجاءهم بالصلاح والخير والرحمة والنور.
- قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} (آل عمران-96) ، أكّد القرآن الكريم أنّ الكعبة المشرفة قبلة لجميع العالمين، وهداية وبركة للناس جميعًا.
- أكّد الرسول ﷺ أنّه مكمّل لما جاء به الأنبياء من قبله بقوله: “أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَالأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلاَّتٍ، أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى، وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ”.
- تبشير الرسول ﷺ بعالمية الإسلام، وذلك بقوله: “لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلاَ يَتْرُكُ اللهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ، إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ، أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللهُ بِهِ الإِسْلاَمَ، وَذُلاًّ يُذِلُّ اللهُ بِهِ الْكُفْرَ”.
عالمية الثقافة الإسلامية في مجرى التاريخ
اغتنت الثقافة الإسلامية بكل المكونات التي كانت قاعدة لها من علوم ولغة وعادات وتقاليد و وتنظيم، وبما أدركته من آداب وعلوم لدى الفرس والرومان والكلدانيينواليونانيين والإغريق.. وقد أمكن للثقافة العربية الإسلامية في أبعادها الكثيرة هذه أن تسهم في بناء الصرح الحضاري الإنساني، وأن تعمل على حفظها من الضياع أولا (في مراحل الهمجيّة والعنف)، ثمّ أن تسعى إلى تطويرها وحثها على العطاء الجديد (العلوم العربية الإسلامية “الدقيقة”والفلسفة الإسلامية والفكر الاجتماعي عند كبار مفكري الإسلام…).
وبالتالي فقد شكلت الثقافة الإسلامية انفتاحا على “الآخر” وقبولا له (مع الوعي بالاستقلال الروحي والتمايز الحضاري). وبناء على هذا التحديد، فالقاعدة أو القانون الذي يحكم الثقافة الإسلامية المركبة المتعددة العناصر هو قانون التعايش المشترك والتواصل والانفتاح والتمدن والتفاعل والتلاقح والتسامح والحوار الإيجابي مع الثقافات الأخرى المخالفة والمغايرة لها قديما وحديثا، لها خصوصياتها وملامحها وقيمها ومقوماتها الحضاريّة والتاريخيّة التي تجعلها غير قابلة للسيطرة والهيمنة والاتباع والذوبان في الثقافات الأخرى المُخالفة.
فقد أنتجت الثقافة الإسلامية بكلِ حرية نظامها القيمي ورأسمالها الرمزي الخاص بمجتمعاتها، وتبنت القيم الأخلاقية والدينية والثقافية الملائمة لها دون اضطرار لتقليد الآخرين أو الانطلاق من حداثتهم لبناء حداثتها الخاصة. فهي رؤية للعالَم ونمط للعيش ونظام للقيم، متجذر في التاريخ البعيد والجغرافيا الصلبة، تتميَّز بالتمثل والهضم والاستيعاب الإيجابي للثقافات الأخرى بروح الحوار وآداب البحث، مع الخلق والإبداع والإضافة من موقع الندية والتوازن والحوار المتكافئ بأسلوب الحجاج والمناظرة وطلب الاقتناع والحرص على البرهنة، بعيدا عن أجواء الخضوع لأحكام “العجز والضرورة”، كما يقول الفقهاء.
ومن ثم كانت العلاقة بين الثقافة الإسلامية والثقافات الأخرى علاقة أخذ وعطاء، ذلك أن التفاعل بين العروق يولد عناصر جديدة وفعالة حتى من الناحية البيولوجية والاجتماعية.
مظاهر عالمية الإسلام والثقافة الإسلامية
يتصف دين الإسلام بأنه عالمي، وفيما يأتي أهم مظاهر عالميته:
دين رباني: أي أن عقيدته ومنشأه وغايته من الله سبحانه وتعالى، وعقيدة الإسلام لا يمكن أن يغيرها أحد، فهي من عند الله وهو يحميها، والعبادات ربانية أي أنها موقوفة من عند الله أي لا يجوز التعبد بعبادة غير مثبتة في الكتاب أو السنة، والتشريع الرباني يعني أنّ الله صاحب الحدود، ولا يمكن التعديل أو التبديل فيها. الشمولية: يعني أنّ قوانين الإسلام شاملة لجميع نواحي الحياة الدينية والاجتماعية والأخلاقية، وهو شامل لكل الأوقات والأماكن، والرسول ﷺ مبعوث للناس أجمعين، ووضّح للناس كلّ أحكام الإسلام، والدين الإسلامي يكفل التوازن الاجتماعي لكلّ الناس، من دون تفضيل أحد على أحد أو لون على لون.
التوازن والوسطية: أي أنّ شريعة الإسلام لا تتشدّد في شيء، ولا تتراخى في شيء، وهو يوازن بين الضوابط والرغبات، وبين الجسد والروح، وبين الحرمان والترف، ولا يميل للمادّيّة البحتة، ولا الروحيّة الصرفة. الانفتاح والتّجدّد أي أنّ الإسلام صالح لكلّ زمان ومكان، ويستوعب جميع التغييرات التي تحدث، وقادر على حل المشكلات المستجدة عبر الأزمان، وهو ملائم لكلّ طبائع البشر.
شمولية الإسلام وعالميته
شمولية الإسلام وتوازن شريعته تمتاز شريعة الإسلام وتعاليمه بثلاثة أمور:
أوّلها: شمولية الإسلام لجميع مناحي الحياة، بحيث لم يترك صغيرة أو كبيرة إلّا وقد ذكر فيها خبرا، أو جعل لها حكما، أو أدرجها ضمن أصل أو قاعدة، كما عمد إلى إمداد الإنسان بالعلاج الناجع لمشاكل الحياة وتعقيداتها.
ثانيها: صلاحية تطبيق وتنفيذ أحكام وتعاليم الإسلام في كل زمان ومكان، لكونها مواكبة للأحداث والمستجدات والمتغيرات.
ثالثها: موافقة الإسلام للفطرة البشرية، واحترام العقل البشري وتقديره.
وقد أكد الإسلام على أن جميع الناس متساوون وأنَ أصلهم واحد ذكروا كانوا أم إناثا، فدعا إلى نبذ العنصرية والقبلية. وبناء على ذلك فإنّ اعتناق الإسلام والدخول فيه متاح لكافة الناس دون قيود أو حدود. كما أن أحكام الإسلام وتعاليمه لا تُفرق بين عربي وأعجمي، وبين غني وفقير، أو أسود وأبيض، وخير ما يُظهر ذلك الصلاة والحج حيث يقف الناس متساوون أمام بين يدي الله -تعالى- على اختلاف ألوانهم وأجناسهم وأعراقهم.
تحديات العصر الرقمي
في عصر تهيمن عليه الصناعات الثقافية والإعلامية الغربية من خلال شركات عابرة للقارات عملاقة وضخمة تتوفر على إمكانيات هائلة وموازنات ضخمة جدا؟ تبدو مسألة نشر الثقافة الإسلامية في العالم أمرا صعبا للغاية، نظرا لقلة الفرص المتوفرة أمام المسلمين لاستغلال الإعلام الجديد وخاصة الإنترنت للقيام بالدعوة والتعريف بالإسلام والرد على الصور النمطية والتشويه والتضليل والحملات الدعائية المغرضة؟
وعليه فقد أصبح وضع الثقافة الإسلامية في ظل العولمة محل استفهامات عديدة، لكثرة التحديات التي تواجهها عملية نشر الثقافة الإسلامية في عصر تحكمه قوى عظمى تعارض انتشار هذه الثقافة، وتسيطر على صناعة الصورة فيه الشركات الإعلامية والثقافية المتعددة الجنسيات.
ومن ثم فإن إشكالية نشر الثقافة الإسلامية في العصر الرقمي تتمحور حول الاستغلال الأمثل للوسائل والإمكانيات المتاحة من تكنولوجيات حديثة لوسائل الاتصال ومن وسائط متعددة، فالحضور الثقافي على المستوى الدولي بحاجة إلى مجهودات كبيرة منسقة ومنظمة تخاطب الآخر بلغة العصر وبمنهجية وبعلمية وبمنطق حتى تحقق المبتغى منها، فالمشاركة في التراث الثقافي العالمي يحتاج إلى إنتاج فكري وعلمي ويحتاج إلى جودة ونوعية تستطيع أن تنافس ما هو موجود على الساحة العالمية. مما يعني أن هناك تحديات جسيمة وكبيرة جدا تنتظر العالم الإسلامي في مسعاه لنشر الثقافة الإسلامية.
العالمية ومأزق العولمة
هناك الكثير من أوجه الاختلاف بين عالمية الإسلام والعولمة، وفيما يأتي عدد من هذه الاختلافات:
المصدر: الإسلام مصدره من الله سبحانه، المتّصف بصفات الجلال والكمال، خالق الناس والكون، والأعلم بما يصلحهم، بينما تستمدّ العولمة مبادئها من الناس، وهي مليئة بالفساد والانحلال الأخلاقي والفكري.
المنهج: يقوم منهج الإسلام على التسليم والإيمان بكلّ أركانه وأصوله، بينما تُحارب العولمة الإسلام والأديان، لما فيه من الأخلاق والقيم والنظم التشريعية.
الواقعية: يتعامل الإسلام مع الحقائق بالأدلة العقلية الموضوعية، لا تنافي العقل أو الحياة، بينما تركّز العولمة على تصوّرات مجرّدة أو مثاليات لا يمكن تطبيقها في الواقع.
الرحمة: الإسلام دين رحمة للعالمين جميعًا للمسلمين ولغيرهم، وفي كلّ حالاتهم، بينما لا يمكن تطبيق قوانين العولمة في كل الأحوال ولكل الناس.
الخصائص والمبادئ: يستمد الإسلام عالميته من مفهوم الإسلام نفسه، مبادئه شاملة لكل الإنسانية، بغض النظر عن لغتها أو لونها، بينما تستمدّ العولمة مبادئها من النظام الرأسمالي الغربي المادي.
أنا أتعايش إذن أنا موجود
في المحصلة، الثقافة الإسلامية لا تلغي الآخر، بل تعترف به وتتعامل معه، وهي بذلك تقدِم درسا مفيدا في التعايش الفكري والديني والإجتماعي، والعناية بالعلوم الفلسفية، ومجالس المناظرة والتحاجج، وصقل الآراء، والأخذ والاقتباس عن آداب الحكماء، ومقابلة المعارف وإظهار الحقّ بالتي هي أحسن، بعيداً عن التعصب والأهواء والأطماع.
الثقافة الإسلامية ثقافة مرنة وخصبة، ترفض الخضوع لأي وصاية أو حجر، اغتنت بالسؤال والنقاش، ورفضت الاعتقادات الدوغمائية اليابسة والمتحجرة والمتكلسة، لم تنشئ محاكم التفتيش، ولم تضطهد العلماء والمفكرين، بل رحبت بالعلماء ونالتهم الحظوة.
ويعتبر التعايش هو لب الثقافة الإسلامية ولُبابها، فهي ثقافة التواصل بالجوهر وبالذات، لا بالعرض والمظهر، بالرغم من أن التعايش بين الثقافات هو العملة الصعبة في عالَم منقسم وغير متوازن بين عالَم اليسر والفائض الذي يرفض اقتسام الثروات التي يستأثر بالقسط الأوفر منها 80 في المئة (الشمال) ويقصي مساحات شاسعة من الشعوب من الحداثة التي يحتكرها. وعالَم العسر والعجز (الجنوب) الذي يرفض الهيمنة ويطالب بتوزيع عادل للثروات.
ومع ذلك، فالثقافة الإسلامية تملك من المقومات والأسس ما يجعلها جديرة بحيز خاص بها في عالم الحداثة المشترك المتعدد، بعيدا عن كل محاولات الغرب للاستئثار بهذه الحداثة واحتكارها، فقد أنتجت الثقافة الإسلامية حداثتها الخاصة بها مع مفكِّرين عظام منذ زمن بعيد، وبلونيات مختلفة، وكانت النموذج الأمثل للتعايُش بين الثقافات الإنسانية، ونشر التفاهم بين البشرية.