مع وفاة عالم أو مفكر أو داعية، ممن تبوؤوا في أمتهم مكانة رفيعة، نجد ألسنة الكثيرين تلهج بالدعوات لهم، والترحم عليهم، والثناء على ما تركوه من سيرة عطرة ومسيرة حافلة؛ راجين أن تجد الأمة من بعدهم من يواصل السير على دربهم، ويبني على ما قدموه من جهد واجتهاد.. فما الذي يجعل هذا العالم إماما أو في موضع “الإمامة” والقبول لدى الجمهور؟
إن هذا سؤال مهم؛ لأنه يحاول أن يضع أيدينا على الشروط والمواصفات التي ينبغي توافرها في “العالم الإمام”. وهذا مقام لا يحسنه كل أحد، ولا يستطيعه كل عالم.. لكن الأمة بفضل الله، على امتداد أزمنتها، لا تخلو من وجود هؤلاء؛ يحيي الله بهم القلوب، وينير العقول، ويوجّه الخطوات، ويُبقي جذوة الأمل في هذه الأمة الخاتمة الشاهدة.
و”الإمامة” مقام امتن الله تعالى به على خليله إبراهيم؛ لما قام عليه السلام بما كلفه الله به من الأوامر والنواهي. قال تعالى: { وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } (البقرة: 124).
جاء في تفسير القرطبي: “الْإِمَامُ: الْقُدْوَةُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِخَيْطِ الْبِنَاءُ: إِمَامٌ، وَلِلطَّرِيقِ: إِمَامٌ؛ لِأَنَّهُ يُؤَمُّ فِيهِ لِلْمَسَالِكِ، أَيْ يُقْصَدُ. فَالْمَعْنَى: جَعَلْنَاكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا يَأْتَمُّونَ بِكَ فِي هَذِهِ الْخِصَالِ، وَيَقْتَدِي بِكَ الصَّالِحُونَ. فَجَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِمَامًا لِأَهْلِ طَاعَتِهِ” ([1]).
وفي توجيه لطيف، ذكر القشيري أن “رتبة الإمامة أن يَفْهَم صاحبُها عن الحق ثم يُفْهِمَ الخَلق؛ فيكون واسطةً بين الحق والخَلْق، يكون بظاهره مع الخَلْق لا يفتر عن تبليغ الرسالة، وبباطنه مشاهدًا للحق لا يتغير له صفاء الحالة، ويقول للخلْق ما يقوله له الحق”([2]).
إذن “الإمامة” مقام عالٍ، يستأهله المرء بما يوفِّي من الالتزام بأوامر الله واجتناب نواهيه، وبما يقومه من مقام بين الخالق سبحانه وبين خَلقه.
فما مؤهلات “الإمامة” وموجباتها، كما يمكن أن نستخلصه من سِيَر العلماء والمفكرين والدعاة الذين رحلوا عن عالمنا حديثًا، وشَهِدنا جليلَ أعمالهم وعاطرَ مسيرتهم؟
ارتياد آفاق جديدة في العلم
أول ما يمكن قوله في هذا الصدد، أن العالم الذي يريد أن يكون موضع إمامة، أي موضع اقتداء وتأسٍ، لا بد أن يستكمل موهلات ذلك وموجباته من العلوم والمعارف؛ وكلما قطع شوطًا في هذا، وأثبت فهمًا ودراية وتمكنًا وقدرة على توليد المعاني واستنباط الأفكار وتصور المستجدات، نال قدرًا من “الإمامة”.. لأنه حينئذ يصير ملاذًا لكل سائل، وملجأ لكل مستفهِم، وحصنًا ضد شبهات المشككين وأقاويل المدَّعين.
وباستقراء تاريخ الأمة قديمًا وحديثًا لا تجد عالمًا بوّأته الأمة “مقام الإمامة”، إلا وقد تبّحر في فن من الفنون أو جُمعت له عدة فنون. فالعلماء ورثة الأنبياء، وقد ورثوهم في العلم والدعوة وليس في شيء آخر. وكما جاء في الحديث أن النبي ﷺ قال: “إن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا، إنَّما ورَّثوا العلم؛ فمن أخذَه أخذ بحظٍّ وافر”([3]).
ولعل في ذلك دعوةً لشباب الباحثين، بأن من أراد الإمامة في الدين فهذا هو طريقها، أي التبحر في العلم؛ وإلا فإنه سيكون فحسب من آلاف طلبة العلم الذين لا يضيفون جديدًا يُذكَر، ولا يقدِّمون إبداعًا فيما يتعلمونه.
الجمع بين العلم والعمل
أي تحقيق القدوة؛ بحيث يكون العالم في فعله وسلوكه مصداقًا لما ينطق به لسانه ويدعو إليه الناس. ومن أقوال عثمان بن عفان رضي الله عنه: أنتم إلى إمام فعّال، أحوج منكم إلى إمام قوّال([4]).
وقد ذم الله تعالى أقوامًا لا يفعلون ما يقولون، وتوعّدهم؛ قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } (الصف: 2، 3).
فالعالم الإمام إنسان صادق في قوله وفي عمله معًا؛ ويقدِّم من نفسِه القدوةَ والنموذج، ويرى فيه الناسُ الإمام الذي يُقتدَى به ويُسَار على نهجه.
ولا شك أن افتقاد القدوة لاسيما من أهل العلم، أمر سيئ عواقبه وخيمة؛ إذ هو يُضْعف أثر الموعظة في النفوس، ويجعل مستمعها يتلقاها بكثير من الاستخفاف، وربما- وهذا هو الأسوأ- عاد ذلك على موقف المستمع من الدين نفسه! كما حدث في أوروبا حينما تعنّت رجال الكنيسة في تفسير النص، وبالغوا في التضييق على العلماء؛ فثار الناس على الدين نفسه وليس على رجال الكنيسة فحسب.
فالعالم الإمام ينبغي أن يجمع بين العلم والعمل، ويكون سفيرًا لعلمه بعمله، ولموعظته بأخلاقه، ولدعوته بسلوكه.. حينئذ تتوافر في حياته ما يبرِّر اتخاذها قدوةً ونبراسًا، وما يمكن أن يُحتذَى به ويُنسَج على منواله..
الإسهام في العمل الاجتماعي
العالم الإمام لا يحبس نفسه بين الكتب والدفاتر، ولا يعتكف في صومعته منعزلاً عن الناس؛ وإنما يخالطهم ويصبر على إرشادهم، كما يكون له أثر اجتماعي؛ سواء في دلالة الناس على الخير، أو الإصلاح بينهم، أو إنشاء أعمال البر للفقراء والمحتاجين، أو إقامة المؤسسات العلمية والتربوية والخيرية.. المهم أن العالم يكون له أثر يشعر به مجتمعه ويستفيد منه.
وهذا الأمر كما ينفع المجتمع، فإنه يعود بالنفع أيضًا على العالم نفسه؛ لأنه يجعله أقدر على فهم طبيعة المجتمع ومشكلاته، وأكثر وعيًا بمواطن الداء ومتطلبات الدواء.. وإذا كان الحكم على الشيء فرعًا عن تصوره، فإن الإمامة الراسخة مبنية على معرفة المجتمع معرفة جيدة، وعلى إدراك واقعه ومشكلاته إدراكًا عميقًا.
التعبير عن هموم المجتمع وتطلعاته
العالم الإمام يعبر عن المجتمع في همومه وتطلعاته؛ سواء قصدنا بهذا التعبيرِ “التعبيرَ الفكري”، أي يقدم الحلول والأدوية لذلك.. أو “التعبير العملي”، أي يتحدث بلسان الناس إذا أُسكتت ألسنتهم، ويكون نائبًا عنهم لدى السلطان إذا فقدوا النائب.
فالعالم الإمام ينحاز للأمة لا للسلطان، ويقدم المصلحة العامة على مصلحته الخاصة، وينشغل بهموم الأمة وإن أصيب ببعض الأذى أو حُرم بعض الامتيازات.. لا ينشد إلا رضا الله تعالى، ولا ينشغل إلا بإحقاق الحق.. ولا يعني هذا سعيه إلى الصدام أو أن يكون متهورًا؛ وإنما يقول الحق في غير جبن، ويعلن الصدق في غير زيف، ويوضح الحقائق من غير التباس، فهو على ميراث النبوة: “الدِّينُ النَّصِيحَةُ. قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ”([5]).
المنهج يصنع الأئمة
بقي في الختام أن أشير إلى أنني كتبت هذا المقال من وحي التأثر برحيل العلامة فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي ، الذي كان بحقٍّ “عالمًا إمامًا” في الدعوة والعلم.. كما عشتُ مشاعرَ الفقد ذاتها، مع رحيل المفكر الكبير الدكتور محمد عمارة، من قبل، وهو صاحب الكتب والمواقف التي عبّرت عن الأمة علمًا وعملاً.. ومع رحيل المفكر والقانوني والمؤرخ المستشار طارق البشري .. رحمهم الله جميعًا.
إن رحيل العلماء الأئمة جدير بأن يدفعنا لتأمل هذه النماذج التي قدموها بعطائهم، وتلك القدوات التي مثّلوها بحياتهم العلمية والعملية على السواء.. لنفهم أكثر كيف تتشكل حياة “العالم الإمام”، وكيف يتكوَّن في حياة الأمة أو كيف تكوِّنه الأمة.. وكيف يمكن أن نسدَّ ولو بعضًا من الفراغ الذي تركوه..!
ونحن على ثقة بأن أمتنا بحمد الله، أمة ولود؛ إذ هي صاحبة المنهج الخاتم والكتاب المحفوظ.. وما دم كتاب ربها بين أيديها ونصب أعينها؛ فإن هذا الكتاب قادر- بفضل الله وتوفيقه- أن يصنع من أبنائها أئمة في المستقبل، كما صنع لها أئمة من قبل..!
([1]) تفسير القرطبي، 2/ 107.
([2]) تفسير القشيري، 1/ 121.
([3]) رواه أبو داود والترمذي وابن حبان في صحيحه.
([4]) بهجة المجالس وأنس المجالس، ابن عبد البر، ص: 10.
([5]) رواه البخاري ومسلم.