الصحابة الكرام هم جيل فريد من البشر، هم الذين عاشوا مع رسول الله ﷺ ورافقوه في دعوته، وكانوا نموذجًا في الإيمان والتضحية. إنهم الذين نقلوا لنا القرآن والسنة، وضحّوا بأنفسهم وأموالهم لنشر الإسلام وحماية دعائمه. في هذا المقال، نسلط الضوء على منهج أهل السنة والجماعة في تقدير الصحابة، ومحبتهم، وفضلهم، وكيفية التعامل مع ما شجر بينهم من خلافات.
كان الصحابة رضي الله عنهم بدمائهم وأموالهم وصل الإسلام إلى أطراف الأرض، وبجهادهم وتضحياتهم قام صرح الدين، واندحرت دول الشرك والمشركين. آمنوا بالنبي صلى اللَّه عليه وسلم حين كذبه قومه، ودافعوا عنه حين آذاه الناس، وآووه حين طرد من وطنه. نقلوا القرآن والسنة، وأرشدوا العباد إلى الملة، فكانوا بذلك أهلًا لرضوان اللَّه ومحبته ورحمته وجنته، كانوا بذلك طليعة خير أمة أخرجت للناس.
قال الله تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ﴾ [الفتح: 29]
فليس في الأمة كالصحابة الكرام في الفضل والمعروف والإصابة، فإنهم قد شاهدوا المختار، وعاينوا الأسرار والأنوار.
فضل الصحابة رضي الله عنهم
الصحابة هم خير هذه الأمة بشهادة رسول الله ﷺ وقد رضي عنهم. كما روى البخاري ومسلم عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه، عن النبي ﷺ قال: “خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ.
قال النووي رحمه الله: “الصحيح أن قرنه صلى اللَّه عليه وسلم : الصحابة، والثاني : التابعون، والثالث : تابعوهم”.
وقد أخبر الله سبحانه وتعالى من فوق سبع سماوات أنه رضي عنهم فقال سبحانه وتعالى: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ [الفتح: 18]، قال ابن كثير رحمه الله: “فعلم ما في قلوبهم: أي: من الصدق والوفاء والسمع والطاعة”.
محبة الصحابة لرسول الله ﷺ
نال الصحابة الكرام رضي اللَّه عنهم شرف لقاء النبي ﷺ وشرف صحبته، فحملوا له النصيب الأوفى من المحبة والتعظيم. سئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كيف كان حبكم لرسول اللَّه ﷺ؟ قال: “كَانَ وَاللَّهِ أَحَبَّ إِلَيْنَا مِنْ أَمْوَالِنَا، وَأَوْلَادِنَا، وَآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا، وَمِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ عَلَى الظَّمَأ.
وقال عمرو بن العاص رضي الله عنه: “وما كان أحدٌ أحبَّ إليَّ من رسول الله ولا أجلّ في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سئِلت أن أصفَه ما أطقتُ، لأنّي لم أكن أملأ عيني منه”.
وعندما قدَّم أهلُ مكّةَ زيدَ بنَ الدثنةِ رضي الله عنه ليقتلوه في أُميةَ بنِ خلف، وقد كان أسيرًا عندهم، سأله أبو سفيان بنُ حرب وهو على الشّرك حينذاك: أَنْشُدُكَ الله يا زيد، أتحبُّ أنّ محمّدًا الآن عندنا مكانَك نضرب عنقَه، وأنّك في أهلك؟ قال: والله، ما أحبّ أن محمّدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تُصيبه شوكةٌ تؤذيه وأنّي جالس في أهلي، فقال أبو سفيان: ما رأيتُ مِن النّاس أحدًا يحبّ أحدًا كحبّ أصحاب محمّدٍ محمّدًا، ثم قتلوه رضي الله عنه.
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: مَرَّ رَسُولُ اللّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ بِامْرَأَةِ مِنْ بَنِي دِينَارٍ، وَقَدْ أُصِيبَ زَوْجُهَا وَأَخُوهَا وَأَبُوهَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ بِأُحُدِ، فَلَمّا نُعُوا لَهَا، قَالَتْ: فَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ؟ قَالُوا: خَيْرًا يَا أُمّ فُلانٍ هُوَ بِحَمْدِ اللّهِ كَمَا تُحِبّينَ، قَالَتْ: أَرُونِيهِ حَتّى أَنْظُرَ إلَيْهِ. قَالَ: فَأُشِيرَ لَهَا إلَيْهِ، حَتّى إذَا رَأَتْهُ قَالَتْ: “كُلُّ مُصِيبَةٍ بَعْدَك جَلَلٌ”؛ تُرِيدُ صَغِيرَةً.
وهذا سعد بن معاذ رضي الله عنه يقول للنبي ﷺ لما استشار الصحابة في القتال في غزوة بدر: “وَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ لَوْ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَك، مَا تَخَلّفَ مِنّا رَجُلٌ وَاحِدٌ”.
ما هي الفضائل التي يتميز بها الصحابة رضي الله عنهم؟
لقد وردت الآيات الصريحة والأحاديث الصحيحة في فضائل الصحابة رضي اللَّه عنهم، من ذلك قوله عزّ وجل: ﴿{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [التوبة: 100]
قال ابن كثير: “أخبر الله العظيم أنه قد رضي عنِ السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فيا ويل مَنْ أبغضهم أو سبهم، أو أبغض أو سب بعضهم”.
يقول ابن مسعود رضي الله عنه: “فحبهم سُنة، والدعاء لهم قربة، والاقتداء بهم وسيلة، والأخذ بآثارهم فضيلة”. وقال رضي الله عنه: “إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد ﷺ خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه”.
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه ﷺ:”خَيْرُ أُمَّتِي قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ”(رواه البخاري). قال النووي رحمه الله: “اتفق العلماء على أن خير القرون قرنه صلَّى الله عليه وسلم والمراد بهم: أصحابه رضي اللَّه عنهم”.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي ﷺ: “لا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلا نَصِيفَهُ”(رواه البخاري).
وعن حميد قال: سَمِعْتُ أَنَسًا رضي الله عنه يَقُولُ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ إِلَى الْخَنْدَقِ فَإِذَا الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ يَحْفِرُونَ فِي غَدَاةٍ بَارِدَةٍ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَبِيدٌ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ لَهُمْ، فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ مِنَ النَّصَبِ وَالْجُوعِ قَالَ: “اللَّهُمَّ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الآخِرَةْ، فَاغْفِرْ لِلأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَةْ”؛ فَقَالُوا مُجِيبِينَ لَهُ: نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا، عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا.(رواه البخاري).
وعن أنس رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: “آيَةُ الإِيمَانِ حُبُّ الأَنْصَارِ، وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الأَنْصَارِ”(رواه البخاري).
وقال رسول اللَّه ﷺ كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: “لا يُبْغِضُ الأَنْصَارَ رَجُلٌ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ” (رواه مسلم).
ومما جاء في فضلهم ما رواه أبو بُردةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: “النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ، فَإِذَا ذَهَبَتِ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ، وَأَنَا أَمَنَةٌ لأَصْحَابِي، فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ، وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لأُمَّتِي، فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ”. وهو إشارة إلى الفتن الحادثة بعد انقراض عصر الصحابة، من طمس السنن، وظهور البدع، وفشو الفجور في أقطار الأرض.
فيجب توقيرهم ومحبتهم والثناء عليهم، والاهتداء بهديهم، فهم كالنجوم كما وصفهم بذلك المصطفى ﷺ، فقال: “أَصحابي كالنُّجومِ بأيِّهم أخذتُم اهتديتُم” (رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله).
وعن عبد الله بن مغفل المزني رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: “اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي! اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي! لَا تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا بَعْدِي! فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ، وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي، وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ عز وجل، وَمَنْ آذَى اللَّهَ فَيُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ”[1].
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: (ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة، وما منَّ الله به من الفضائل،علم يقينا أنهم خير الخلف بعد الأنبياء لكان ولا يكون مثلهم، وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمة).
وقال الشافعي رحمه الله: (هو فوقنا في كل علم وعقل ودين وفضل، وكل سبب ينال به علم، أو يدرك به هداه، ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا).
وقال السفاريني رحمه الله:
وليس في الأمة كالصحابة *** في الفضل والمعروف والإصابة
فإنهم قد شاهدوا المختارا *** وعاينوا الأسرار والأنوارا
وجاهدوا في الله حتى بانا *** دين الهدى وقد سما الأديانا
وقد أتى في محكم التنزيل*** من فضلهم ما يشفي للغليل
وفي الأحاديث وفي الآثار*** وفي كلام القوم والأشعار
حب الصحابة من الإيمان
إن الحديث عن الصحابة الكرام رضي الله عنهم وتدارس أخبارهم وسيرهم فيه فوائد عظمية، منها: الاقتداء بهم، وازدياد الإيمان بذكرهم، ومحبتهم، وهذا من الإيمان كما جاء في الصحيحين من حديث أنس بن مالك أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: “حبُّ الأنصارِ آيةُ الإيمان وبغضُهم آيةُ النفاق”؛ أي: علامة النفاق.
وقال عليه الصلاة والسلام كما في حديث البراء بن عازب: “لا يحبُهم إلا مؤمن، ولا يُبغضهم إلا منافق، من أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله” (متفق عليه).
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن عبد الله بن عمر، قال: “مَنْ كَانَ مُسْتَنًّا فَلْيَسْتَنَّ بِمَنْ قَدْ مَاتَ، أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا خَيْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، أَبَّرَهَا قُلُوبًا، وَأَعْمَقَهَا عِلْمًا، وَأَقَلَّهَا تَكَلُّفًا، قَوْمٌ اخْتَارَهُمُ اللهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ صلّى الله عليه وسلم وَنَقْلِ دِينِهِ، فَتَشَبَّهُوا بِأَخْلَاقِهِمْ وَطَرَائِقِهِمْ فَهُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانُوا عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ”.
من هم أفضل الصحابة بعد النبي ﷺ؟
أحاديث في فضل أبي بكر الصديق وعمر الفاروق
واعلموا أن أفضل الصحابة الخلفاء الأربعة، ثم بقية العشرة المبشرين بالجنة. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “ألَا أُخبِرُكم بخَيرِ هذه الأُمَّةِ بعدَ نبيِّها؟ أبو بكْرٍ، وخَيرُها بعدَ أبي بكْرٍ عمرُ، ثُم يجعَلُ اللهُ الخَيرَ حيثُ أَحَبَّ”. (أخرجه عبدالله بن أحمد في “زوائد المسند” واللفظ له).
وروى الترمذي عن ابن مسعود، قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم : ( اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي مِنْ أَصْحَابِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَاهْتَدُوا بِهَدْيِ عَمَّارٍ، وَتَمَسَّكُوا بِعَهْدِ ابْنِ مَسْعُودٍ).
وفي صحيح مسلم أنّ أصحاب النبيّ ﷺ كانوا في سفر فقال ﷺ: “إن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا”.
فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه
وفي صحيح البخاري عن محمد بن الحنفية أنه قال لأبيه علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “يا أبتِ، مَن خير النّاس بعد رسول الله ﷺ؟ قال: أوَما تعلم يا بنيِّ؟! قلت: لا، قال: أبو بكر”.
أنزل الله في فضائلِ أبي بكر رضي الله عنه آياتٍ من القرآن، قول الله عز وجل: {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَلسَّعَةِ أَن يُؤْتُواْ أُوْلِى الْقُرْبَى وَلْمَسَـاكِينَ} [سورة النور: 22]. لا خلاف أن ذلك في أبي بكر رضي الله عنه، فنعته بالفضلِ رضوان الله عليه.
وقال تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ} (سورة التوبة:40). لا خلاف أيضًا أن ذلك في أبي بكر رضي الله عنه، شهد له رب العالمين بالصحبة، وبشره بالسكينة، وحلاه بثاني اثنين كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “من يكون أفضل ثانِي اثنين الله ثالثهما؟”
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن أبي بكر رضي الله عنه قال: “قُلتُ لِلنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأنا في الغارِ: لو أنَّ أحَدَهم نَظَرَ تَحتَ قَدَمَيه لأبصَرَنا، فقال: ما ظَنُّكَ يا أبا بَكْرٍ باثنينِ اللهُ ثالِثُهما؟”
قال العيني: “فيه منقبة أبي بكر رضي الله عنه قوله: “ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟” أراد النبي ﷺ بالاثنين نفسه وأبا بكر”.
وعن ابن عمر رضِي الله عنهما قال: “كُنَّا نُخيِّرُ بَينَ النَّاسِ في زَمَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فنُخَيِّرُ أبا بَكْرٍ، ثُمَّ عُمرَ بْنَ الخَطَّابِ، ثُمَّ عُثمانَ بنَ عَفَّانَ، رَضِيَ اللهُ عنهم”.
وفي لفظ قال: “كُنَّا في زَمَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا نَعْدِلُ بأبي بَكْرٍ أحَدًا، ثُمَّ عُمرَ، ثُمَّ عُثمانَ، ثُمَّ نَترُكُ أصحابَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا نُفاضِلُ بَينَهم”.
قال القسطلاني: “الأفضل بعد الأنبياء أبو بكر، وقد أطبق السلف على أنه أفضل الأمة، حَكى الشافعي وغيره إجماع الصحابة والتابعين على ذلك”.
فضائل عمر الفاروق رضي الله عنه
وفي عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول النبيّ ﷺ كما في صحيح البخاري: “ما لقيَك الشيطان سالكًا فجًّا إلا سلك فجًّا غيرَ فجِّك”.
وفي صحيح البخاري أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي ﷺ: “لقَد كانَ فيمَن كانَ قَبلَكم من بَنِي إسرائيَل رِجالٌ يُكلَّمونَ من غَيرِ أن يَكونوا أنبياءَ، فإن يَكُن من أمَّتي مِنهم أحَدٌ فعُمَرُ”.
وفي رواية: “لقَد كانَ فيما قَبلَكم مِنَ الأُمَمِ مُحَدَّثونَ، فإنْ يَكُ في أمَّتي أحَدٌ، فإنَّهُ عُمَرُ”.
قال الخطابي: “المُحَدَّثُ المُلْهَمُ يُلقى الشيء في روعه، فكأنه قد حدِّثَ به، يظن فيصيب، ويخطر الشيء بباله فيكون كذلك، وهو منزلة جليلة من منازل الأولياءِ، ومرتبة عظيمة من مراتب الأصفياء”.
فضائل عثمان بن عفان رضي الله عنه
أما عثمان بن عفان رضي الله عنه فمن مناقبه رضي الله عنه شدة حيائه حتى إن الملائكة والنبي ﷺ يستحيون منه.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: “كانَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُضطَجِعًا في بيتي كاشِفًا عن فَخِذَيه أو ساقَيه، فاستَأذَن أبو بَكْرٍ فأذِنَ لهُ وهوَ عَلى تِلكَ الحالِ فتَحدَّثَ، ثُمَّ استَأذَنَ عُمرُ فأذِنَ لهُ وهوَ كذلك فتَحدَّثَ، ثُمَّ استَأذَنَ عُثمانُ، فجَلَس رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وسَوَّى ثيابَه.
قال مُحَمَّدٌ -يَعني ابنَ أبي حَرمَلةَ الرَّاوي عنهم-: ولا أقولُ ذلك في يَومٍ واحِدٍ، فدَخلَ فتَحدَّثَ، فلَمَّا خَرجَ قالت عائِشةُ: دَخلَ أبو بَكْرٍ فلَم تَهتَشَّ لهُ، ودَخلَ عُمرُ ولَم تُبالِه، ثُمَّ دَخلَ عُثمانُ فجَلَسْتَ وسَوَّيتَ ثيابَكَ! فقال: ألا أستَحِي من رَجُلٍ تَستَحي مِنهُ المَلائِكةُ”[2].
قال ابن بطال: “فإن قال قائل: لم غطى النبي ركبته حين دخل عليه عثمان بن عفان؟ قيل: قد بين النبي معنى ذلك بقَوله: “ألا أستَحي مِمَّن تَستَحيي مِنهُ مَلائِكةُ السَّماءِ”، وإنما كان يخص كل واحد من أصحابه من الفضائل بما يتبين به عن غيره، ويمتاز به عمن سواه، وإن كان قد شركه غيره من أصحابه في معنى تلك الفضيلة، وله النّصيب الوافر منها، غير أنه عليه السلام إنما كان يصف كل واحد من أصحابه بما هو الغالب عليه من أخلاقه، وهو مشهور فيه، فلما كان الحياء الغالب على عثمان، استحيا منه، وغطى ركبته بحضرته، وذكر أن الملائكةَ تستحيي منه، فكانت المجازاة له من جنس فعله.
فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه
وفي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: قد وردت في فضائل علي رضي الله عنه أحاديث كثيرة:
قال أحمد بن حنبل: “ما روي في فضائل أحد من أصحاب رسول الله ﷺ بالأسانيد الصحاح ما روي عن علي بن أبي طالب”.
من فضائل علي رضي الله عنه أنه كان للنبي ﷺ في منزلة هارون من موسى عليهما السلام في الاستخلاف، فموسى استخلف هارون في مدة الميعاد، ومحمد ﷺ استخلف عليًّا في غزوة تبوك.
عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ خرج إلى تبوك، واستخلف عليًّا، فقال: أتخلفني في الصبيان والنساء؟! قال: “ألا تَرضى أن تَكونُ مِنِّي بمَنزِلةِ هارونَ من موسى إلَّا أنَّه ليسَ نَبيٌّ بَعْدي”.
قال الخطّابي: (هذا إنما قاله رضي الله عنه حين خرج إلى تبوك، فلم يستصحبه، فقال: “تُخَلِّفُني مَعَ الذُّرِّيَّةِ” فضرب له المثل باستخلاف موسى هارون على بني إسرائيل حين خرج إلى الطور، ولم يرد به الخلافة بعد الموت، فإن المضروب به المثل -وهو هارون- كان موته قبل وفاة موسى صلوات الله عليهما، وإنما كان خليفته في حياته في وقت خاص، فليكن كذلك الأمر فيمن ضرب له المثل به).
ومن فضائل علي رضي الله عنه محبة الله تعالى له وعلو منزلته عند رسوله ﷺ:
عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال يوم خيبر: “لأعطينَّ هَذِه الرَّايةَ غَدًا رَجُلًا يَفتَحُ اللهُ عَلى يَدَيه، يُحِبُّ اللهَ ورَسولَهُ ويُحِبُّهُ اللهُ ورَسولُهُ. قال: فباتَ النَّاسُ يَدوكونَ ليلتَهُم أيُّهم يُعطاها، فلَمَّا أصبَحَ النَّاسُ غَدَوا عَلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كُلُّهم يَرجو أن يُعطاها، فقال: أينَ عليُّ بنُ أبي طالِبٍ؟ فقيلَ: هو يا رَسولَ اللهِ يَشتَكي عَينَيه، قال: فأرسِلوا إلَيه. فأُتيَ به، فبَصقَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في عَينَيه ودَعا لهُ فبَرَأَ حَتَّى كأنْ لم يَكُنْ به وجَعٌ، فأعطاهُ الرَّايةَ فقال عَليٌّ: يا رَسولَ اللهِ أقاتِلُهم حَتَّى يَكونوا مِثلَنا، فقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: انفُذْ عَلى رِسلِكَ حَتَّى تَنزِلَ بساحَتِهِم، ثُمَّ ادْعُهم إلى الإسلامِ وأخبِرْهم بما يَجِبُ عليهِم من حَقِّ اللهِ تعالى فيه، فواللهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بكَ رَجُلًا واحِدًا خَيرٌ لكُ من أن تَكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ”.
قال ابن حجر: “إن عليًّا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، أراد بذلك وجود حقيقة المحبة، وإلا فكل مسلم يشترك مع علي في مطلق هذه الصفة، وفي الحديث تلميح بقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ} فكأنه أشار إلى أن عليًا تام الاتباع لرسول الله ﷺ حتى اتصف بصفة محبة الله له، ولهذا كانت محبته علامة الإيمان وبغضه علامة النفاق.
والإجماع حاصل على أن أفضل الصحابة بعد الخلفاء الراشدين هم بقية الستة المبشرين بالجنة ثم أهل بدر، ثم أهل أحد ثم بيعة الرضوان، ثم أهل الفتح، ثم من جاء بعدهم من الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ .
قال النووي في شرح مسلم: قال أبو منصور البغدادي: أصحابنا مجمعون على أن أفضلهم الخلفاء الأربعة على الترتيب المذكور، ثُم تمام العشرة، ثم أهل بدر، ثُم أحد، ثم بيعة الرضوان، وممن له مزية أهل العقبتين من الأنصار، وكذلك السابقون الأولون وهم من صلى إلى القبلتين في قول ابن المسيب وطائفةٍ.
لماذا يعتبر الدفاع عن الصحابة دفاعًا عن الإسلام؟
إن معرفة قدر الصحابة الكرام وما لهم من شريف المنزلة وعظيم المرتبة من أولى المهمات المتعلقة بصلاح العقيدة واستقامة الدين، لهذا كان علماء الإسلام يؤكدون في كتب العقائد على مكانة الصحابة في الأمة، ويذكرون فضلهم وفضائلهم، وأثرهم وآثارهم، مع الدفاع عن أعراضهم، فالدفاع عن الصحابة دفاع عن رسول الله ﷺ، فهم بطانته، وخاصته، ودفاع عن الإسلام، فهم حَمَلَته، ونقلته.
ولقد عرف السلف الصالح فضل الصحابة الكرام وبيَّنوه، ورَدُّوا على كل من أراد انتقاصهم رضي الله عنهم.
يقول ابن عمر رضي الله عنه: “لَا تَسُبُّوا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ ﷺ، فَلَمُقَامُ أَحَدِهِمْ سَاعَةً خَيْرٌ مِنْ عَمَلِ أَحَدِكُمْ عُمْرَهُ”.
وجاء رجل إلى عبد الله بن المبارك وسأله: أمعاوية أفضل أم عمر بن عبد العزيز؟ فقال: “لَترابٌ في منْخَرَيْ معاويةَ مع رسول الله ﷺ خيرٌ وأفضلُ من عمر بن عبد العزيز.
وقول ابن المبارك هذا ليس طعناً في عمر بن عبد العزيز، أو تنقيصا منه، فله فضله وقدره، ولكن بياناً لفضل الصحبة التي تميز بها معاوية رضي الله عنه عن عمر بن عبد العزيز.
وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: “إذا رأيت رجلا يذكر أصحاب رسول الله ﷺ بسوء فاتهمه على الإسلام.
وقال رحمه الله: “لا يجوز لأحد أن يذكر شيئا من مساوئهم، ولا يطعن في أحدٍ منهم بعيب ولا نقص، فمن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبه وعقوبته، ليس له أن يعفو عنه، بل يعاقبه ويستتيبه، فإن تاب قبل منه، وإن ثبت أعاد عليه العقوبة، وخلده الحبس حتى يموت أو يراجع”.
وقال الطحاوي رحمه الله مبيناً ما يجب على المسلم اعتقاده في أصحاب رسول الله ﷺ: (ونحب أصحاب رسول الله ﷺ، ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر، ونفاق، وطغيان).
وقال بشر بن الحارث رحمه الله: “مَن شتم أصحابَ رسول الله ﷺ فهو كافر وإن صام وصلى وزعم أنه من المسلمين”)”.
وقال أبو زرعة رحمه الله: “إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله ﷺ فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول حق، والقرآن حق، وإنما أدَّى إلينا هذا القرآن والسنة أصحاب رسول الله ﷺ، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرحُ بهم أولى، وهم زنادقة”.
وقال السرخسي رحمه الله: “فمن طعن فيهم فهو ملحد منابذ للإسلام، دواؤه السيف إن لم يتب”.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة، وما منَّ الله عليهم به من الفضائل، علم يقيناً أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلهم، وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم، وأكرمها على الله”.
كيف يجب أن يتعامل المسلم مع ما شجر بين الصحابة من خلافات؟
قال ابن حجر رحمه الله كما في فتح الباري: “واتفق أهل السنة على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من حروب، ولو عُرف المُحِق منهم، لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهاد، وقد عفا الله تعالى عن المخطئ في الاجتهاد، بل ثبت أنه يُؤجر أجرًا واحدًا، وأن المصيب يؤجر أجرين.
ورحم الله عمر بن عبد العزيز لما قال: “تلك دماء طهّر الله منها سيوفنا، فلا نخضّب بها ألسنتنا”.
فبيَّن رحمه الله أن موقف المؤمن من ذلك الكف والإمساك عما شجر بينهم، وعلى هذا علماء أهل السنة والجماعة قاطبة.
فمن حقوق الصحابة الكرام علينا: كف الألسن عما حصل بينهم من التشاجر والخلاف، فهم أئمة أولياء الله اللذين توعد الله من آذاهم بالحرب، حيث قال في الحديث القدسي: “مَن عادى لي ولِيًّا فقَدْ آذَنْتُهُ بالحَرْبِ” (رواه البخاري).
فيجب على المسلم أن يمسك لسانه عن الخوض في ما حصل بينهم، وألا ينجر وراء الدعوات الفاسدة التي تقلل من شأنهم، فإن في ذلك طعن في تزكية الله لهم ورضاه عنهم جميعا ﴿وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾ [النساء: 95]
وقد وعدهم الله بالجنة، قال الله تعالى:﴿لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾ [الحديد: 10]
وقل خير قول في الصحابة كلهم *** ولا تك طعانا تعيب وتجرح
فقد نطق الوحي المبين بفضلهم *** وفي الفتح آي في الصحابة تمدح
ما أحوجنا إلى أن نلتزم منهج أهل السنة والجماعة في صحابة رسول الله، كما يجب علينا الاقتداء بهم، فإن في ذلك امتثالا لأمر الله ورسوله، كما أن في العدول عن ذلك مشاقاة لله ورسوله وانحراف عن سبيل المؤمنين الذي توعد الله من فعل ذلك بسوء المصير وعذاب السعير، فقال جل علا: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء: 115]
فاحفظوا لصحابة نبيكم قدرهم وأنزلوهم منزلتهم التي نالوها، وأحبوهم لمحبة الله ورسوله لهم، وابتعدوا عن الخوض في كل ما يؤدي إلى التقليل من شأنهم، فهم والله خير جيل عرفته البشرية وأقربهم إلى رب البرية.
فاللهم ارض على الصحابة الكرام الخلفاء الأربعة الأطهار والمهاجرين والأنصار وسائر الصحابة الأخيار. اللهم اجعلنا ممن أحبهم وسار على نهجهم واقتفى أثرهم.