لاحظت عند كثير من المسلمين في قضية التعامل مع غير المسلمين أنه يؤثر الابتعاد عنهم وعدم مخالطتهم ومصاحبتهم وحتى عدم تناول الطعام معهم ومشاركتهم في أفراحهم وأحزانهم بل قد يختار الانعزال التام عنهم ويرى في هذا تقربا إلى الله وتدينا له.
ربما السبب في هذا الفهم الذي يفضي إلى هذا الشعور الانعزالي هو كثرة الفتاوى التي تصب في هذا الاتجاه بقصد أحيانا وبغير قصد أحيانا أخرى، وأظن أن الإشكال هنا مرجعه إلى عدة أمور:
– الخلط بين نصوص وأحكام متعلقة بحالة الحرب –وهي الحالة الاستثنائية- مع نصوص متعلقة بحالة السلم وهي الحالة الطبيعية.
– سوء فهم لقضية خيرية وأفضلية هذه الأمة وقضية الاعتزاز والعزة في قوله تعالى: “كنتم خير أمة أخرجت للناس”، وقوله: “وكذلك جعلناكم أمة وسطا“، وقوله: “أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين”، وقوله: “ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين.
– سوء فهم لعدة أحاديث وردت في مخالفة اليهود والنصارى في قضايا إعفاء اللحى وصبغ الشعر وغيرها، والتي في مجملها ربما تصب في قضية التمايز “الشكلي”.
لن أعالج القضية من جانب شرعي بحت، فلست من أهل الاختصاص، ولا هذا المقال يتسع لذلك، ولكن أريد فقط إثارة بعض التساؤلات والملاحظات، فأمامي نصوص محكمة وأسئلة منطقية تحتاج إلى إجابات منطقية -طبعا استنادا لنصوص الشريعة ومقاصدها الكبرى-، وسأطرح بعض هذه التساؤلات والملاحظات فيما يلي:
1- إذا كان طعام أهل الكتاب حلا لنا والزواج منهم مباحا بنصوص القران أليس هذا اختلاطا بهم بل مصاهرة معهم؟ تخيل أن يتزوج رجل بنصرانية، ألن يكون لأطفاله أعمام مسلمون وأخوال غير مسلمين، ويكون له جد مسلم وجد غير مسلم، وهذا سيؤدي للمحبة الفطرية التي تكون بين الإنسان ورحمه وأقاربه.
اذا كان الاسلام يدعو للانعزال عن اليهود والنصارى مثلا وعدم معاشرتهم والاختلاط بهم ثم يبيح للمسلمين التزاوج معهم والأكل من طعاهم ألن يكون هذا تناقضا وحاشاه من التناقض؟!!
2- يقول الله سبحانه في محكم تنزيله: “لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ”.
والآية واضحة في أن التعامل مع غير المسلمين في غير حالة الحرب يكون بالبر والقسط.
والسؤال هنا كيف سيتحقق “البر” و “القسط” مع غير المسلمين إذا لم نتواصل معهم بالأساس ولم نختلط معهم؟!
3- ويقول الله سبحانه: “ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ”، فهنا أمر بالدعوة إلى دين الله بالحكمة والموعظة الحسنة فكيف سندعوهم إلى الإسلام ” بالحكمة والموعظة الحسنة ” إذا اخترنا الابتعاد عنهم وعدم مخالطتهم.
بل كيف سيتعرف غير المسلمين على أخلاق المسلمين وحسن سلوكهم والذي سيكون أفضل الطرق للدعوة إلى دينه إذا كنا نظن في أنفسنا أن مصاحبتهم حرام الجلوس معهم مضيعة للوقت ومنقصة للدين!!
4- درسنا السيرة جميعا ونعرف كيف تعايش رسول الله مع الكفار ومع اليهود وكيف جاورهم فكان لهم خير الجار، وكيف كان ﷺ يعودهم في مرضهم ويطعم من طعامهم بل إنه كان يتعامل معهم في الأمور المالية، وقد ثبت أنه ﷺ توفي ودرعه مرهونة عند يهودي، كما ثبت أنه كان يستقبل وفود الكفار وأفرادهم في مسجده وليس في مكان آخر.
فهل كان المصطفى في حياته العملية مخالفا لفهم الإسلام وأحكام الشريعة وحاشاه أن يفعل ذلك؟!!
“وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ”
لا يعقل أنّ الله سبحانه الذي أرسل رسوله رحمة للعالمين؛ أن يرسله رحمة للعالمين ثم يأمره ويأمر من اتبعه بمعاملة الناس بالجفاء والغِلظة والقطيعة إذا استثنينا حالة الحرب والقتال كما أسلفنا.
بل حتى في حالة الخصام والبغض والعداوة أراد الله من المسلمين أن يعاملوا الكفار بالعدل والإنصاف: “يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون”.
وما ينطبق على الأفراد ينطبق على مستوى الدول، فالانعزال عن المجتمع الدولي والمحافل الدولية والحضور الإعلامي الدولي ليس في صالح الإسلام والمسلمين أبدا.
حتى لو أصبحنا كمسلمين في يوم ما قوة عظمى في العالم كما حال الولايات المتحدة فلن نستغني كذلك عن المجتمع الدولي والعلاقات الدولية إذا أردنا فعلا أن نكون “خير أمة ” وأردنا أن يبلغ دين الله مشارق الأرض ومغاربها.
نقرأ القرآن والأحاديث وسيرة الرسول المصطفى ﷺ فنرى دلائل وتوجيهات تقربنا لغير المسلمين وترشدنا للتعامل الحسن معهم ولكن للأسف نرى فتاوى وأفهاما غير ذلك معتمدة على أدلة جزئية ونظرة وفهم قاصرين.
هذه قضية مهمة -أقصد التعامل مع غير المسلمين- وتحتاج معالجة شرعية عميقة بعيدا عن الأحكام المسبقة وبعيدا عن التعصب والأهواء، معالجة تنتهي بتوضيح أحكام الشرع ومفاهيمه في هذه القضية توضيحا صحيحا متطابقا مع قيم الإسلام الإنسانية ومقاصده الكبرى حتى لا يأتي أحد بفهم خاطئ وأفعال تسيء لصورة الإسلام وهو يظن أنه يحسن صنعا.