أخي الحاج إنك مقدم على أداء رُكنٍ من أركان الإسلام ، ومن أعماله الجليلة ، وشعائرة المباركة ، إن وفقك الله عز وجل لأدائها كما أمر ، فأنت على خيرٍ عميم ، وتنقلب بأجر عظيم .
ونوصيك بهذه الوصايا المباركة :
أولا – تذكَّر الإخلاص : فلا بد من استحضار النية عند إرادتك هذه الفريضة العظيمة ، فإنّ العبد يُعطى من الأجر بقدر نيته ، قال الله تعالى ( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء ) البينة :5 .
وقال سبحانه ( إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ ) الزمر:2.
قال ابن العربي : ” هذه الآية دليل على وجوب النية في كل عمل .. ” .
وقال النبي ﷺ : ” إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمنْ كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومنْ كانت هجرته إلى دنيا يصيبها ، أو امرأة يتزوجها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه ” . رواه البخاري
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول : ” قال الله تعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، مَن عمل عملاً ، أشرك معي فيه غيري ، تركته وشركه ” رواه مسلم .
فاحرص أخي الحاج على صدق النية ، لئلا يذهبنّ عملك وتعبك ونفقتك باطلاً !
ومجاهدة النفس على الإخلاص ، ورفض الرياء أمرٌ شديد ، ولكنه يسير على من يسّره الله عليه ، ومن ألزم نفسه الإخلاص تلذذ بالطاعات ، ووجد بركة العبادات .
وقد سئل سهل بن عبدالله : أي شيء أشد على النفس ؟ قال : الإخلاص ، لأنه ليس لها فيها نصيب .
وقال سفيان الثوري : ما عالجت شيئاً أشد عليّ من نيتي ، إنها تتقلب عليّ .
أخي الحاج : لا تكن من أولئك الذين خرجوا إلى الحج رياء وسُمعة ، حتى يقال لأحدهم : إنه حجّ بيت الله كذا وكذا مرة ؟! أو كي يلقبه الناس بـالحاج ؟! فمثل هذا ليس له من حجه إلا التعب والنصب .
قال ﷺ : ” مَنْ سَمَّع سَمَّع اللهُ به ، ومَنْ يُرائي يُرائي الله به ” رواه البخاري ومسلم .
والرياء هو الشّرك الخفي ، الذي طالما حذّرنا منه النبي ﷺ ، كما قال : ” إن أخوفَ ما أخافُ عليكم : الشركُ الأصغر ” قالوا: يا رسول الله ، وما الشرك الأصغر؟ قال : ” الرياء ” . رواه أحمد .
فالإخلاص .. الإخلاص أخي الحاج ، فإنّ الرياء يحبط الأعمال .
وقد علَّمنا رسول الله ﷺ دعاء إذا قلناه ، أذهب الله عنا صغار الشرك وكباره ، فعن مَعْقِلَ بنَ يَسَارٍ قَال : ” انْطَلَقْتُ مع أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي اللَّهُ عنه إِلَى النَّبِيِّ ﷺ ، فَقَال :” يا أَبا بَكْرٍ ، لَلشِّرْكُ فِيكُمْ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ” ، فَقَال أَبُو بَكْرٍ : “وهل الشِّرْكُ إِلا مَنْ جَعَلَ مع اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ “؟ فَقال النَّبِيُّ ﷺ :” والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَلشِّرْكُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ ، أَلا أَدُلُّكَ عَلَى شَيْءٍ إِذَا قُلْتَهُ ذَهَبَ عَنْكَ قَلِيلُهُ وكَثِيرُهُ ؟ قَال : قُلِ : “اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ ، وأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لا أَعْلَمُ ” . رواه البخاري في الأدب المفرد (739) .
والكل في الحج يردد شعار التوحيد : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك لبيك .
ثانيا : التوبة الخالصة الشاملة :
فيجب على من يريد الحج أنْ يتوب إلى الله تعالى من سائر الذنوب والمعاصي ، مخلصاً في ذلك صادقا ، وإذا كان عنده مظالم للناس ، فعليه أنْ يُردها إليهم ، ويطلب مسامحتهم ، ليستقبل حجه بالتوبة والتخلص من المظالم .
ثالثا ملازمة الدعاء والذكر : فاحرص أيها الحاج على الدعاء ، ولا يغيب عنك أنه عبادة عظيمة ، بل هو العبادة كلها ، كما قال ﷺ : ” الدُّعاء هو العبادة ” . رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجة .
فإياك أن تفوت هذه الغنيمة ، في تلك البقاع المباركة ، والأيام الفاضلة .
وقد قسم العلماء الدعاء إلى قسمين : دُعاء العبادة ، ودعاء المسألة ، وهما متلازمان ، وذلك أن الله تعالى يُدعى لجلب النفع ودفع الضر ، وهذا دعاء المسألة ، ويُدعى خوفاً ورجاءً دعاء العبادة ، فعلم أنَّ النوعين متلازمان ، فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة ، وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة .
قال العلامة عبدالرحمن السعدي طيب الله ثراه : ” كل ما ورد في القرآن من الأمر بالدعاء ، والنهي عن دعاء غير الله ، والثناء على الداعين ، يتناول دعاء المسألة ودعاء العبادة ، وهذه قاعدةٌ نافعة ، فإن أكثر الناس إنما يتبادر لهم من لفظ الدعاء والدعوة : دعاء المسألة فقط ، ولا يظنون دخول جميع العبادت في الدعاء ، وهذا خطأ ! جرهم إلى ما هو شرّ منه ، فإن الآيات صريحة في شموله لدعاء المسألة ودعاء العبادة ” .
أخي الحاج : لا تكونن من العاجزين في الدعاء ، فإن النبي ﷺ قال: “أعجزُ الناس من عجز عن الدعاء ، وأبخل الناس من بخل بالسلام ” رواه ابن حبان .
أخي الحاج : وإن أعظم ما في تلك الأيام المباركة : دعاء يوم عرفة ، ذلك اليوم الذي ينتظره الصالحون ، وقد أعدُّوا مطالبهم ، واستحضروا حاجاتهم ، فيسألون ربهم تعالى خير الدنيا والآخرة ، قال ﷺ : ” خيرُ الدُعاء دعاء يوم عرفة ” رواه الترمذي ومالك .
قال الإمام النووي في يوم عرفة : ” وينبغي أنْ يكرر الاستغفار والتلفظ بالتوبة من جميع المخالفات مع الندم بالقلب ، وأن يكثر البكاء مع الذكر والدعاء ، فهناك تسكب العبرات ، وتستقال العثرات ، وترتجى الطلبات ، وإنه لمجمع عظيم ، وموقف جسيم يجتمع فيه خيار عباد الله الصالحين ، وأوليائه المخلصين ، والخواص من المقربين ، وهو أعظم مجامع الدنيا ، وقد قيل إذا وافق يوم عرفة يوم جمعة ، غفر لكل أهل الموقف “.
أخي الحاج : إياك ودعاء الغافلين اللاهين ، وادع دعاء المخلصين ، المخبتين قال ﷺ : ” واعلموا أنْ الله لا يستجيب دعاء من قلبٍ لاه ” رواه الترمذي والحاكم والطبراني .
أخي الحاج : لا بد أنْ نذكرك ببعض آداب الدعاء ، لعل الله تعالى أنْ يتقبل منك وأنت بين يديه في هذه الديار المقدسة :
أولاً: أنْ تقبل على الله بقلبٍ حاضر ، خاشع متضرع ، راغبٍ راهب ، كما قال سبحانه عن أنبيائه وأوليائه : ( إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ) الأنبياء :90 .
ثانياً: أن تستقبل القبلة ما استطعت .
ثالثاً: أن تقدم بين يدي دعائك : بتمجيد الله تعالى ، والثناء عليه بما هو أهله ، ثم الصلاة والسلام على النبي ﷺ ، ثم تدعو بحاجتك .
رابعاً : الإقرار بالذنب ، والاعتراف بالخطيئة .
خامساً: تكرير الدعاء ثلاثاً ، والإلحاح في الدعاء .
سادساً: رفع الأيدي ، وهو دليل الحاجة والمسكنة والتضرع للرب سبحانه ، وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه : أن رسول الله ﷺ قال : “إنَّ ربكم تبارك وتعالى حَييٌ كريم ، يَستحي من عبده إذا رفع يديه إليه ، أنْ يَردهما صِفراً خَائبتين ” رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة .
فارج الله تعالى في تلك الأيام ولا ترج سواه .
رابعا : الحرص على الطاعات :
أخي الحاج : وأنت في خير البقاع ، وأحب البلاد إلى الله تعالى ، احرص على الطاعات والقربات ، والتقرّب بأنواع العبادات ، من ذكر الله تعالى بالتلبية والتكبير ، والتهليل والتحميد والتسبيح ، والصلاة بوقتها مع الجماعة ، وأنواع الصدقات ، والدعاء لنفسك وأهلك وإخوانك المسلمين .
أخي الحاج : هذه أيام الطاعات والعبادات ، فلا تضيعها سُدى ، فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ﷺ قال : ” ما مِنْ يومٍ أكثرَ من أنْ يُعتقَ اللهُ فيه عبداً من النار ، من يومِ عَرفة ، وإنه ليَدنو ، ثم يُباهي بهم الملائكة ، فيقول : ما أرادَ هؤلاء ؟ ” . رواه مسلم في الحج ( 2/983) .
فالطاعات.. الطاعات.. وتزودوا.. فإن خير الزاد تقوى الله .
قال تعالى : ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى واتَّقُونِ يا أُوْلِي الأَلْبَابِ ) البقرة :197.
فيا أيها الحاج : لا تزهد في الخير، ولا تكسل عن طاعة الله تعالى ، واستعن بالله ولا تعجز .
خامسا : الحَذَر من المعاصي في الحج :
فلا خير في حجٍّ يخلطه صاحبه بالمعاصي ، فإنها أيام الطاعات والذّكر والقربات ، وأسواق التقوى ، فالذي يعصي الله فيها هو الخاسر عاجلاً وآجلاً .
أخي الحاج : فلتكن تجارتك الرابحة تقوى الله تعالى ، حتى ترجع بحجٍ مبرور، فقد نهاك الله في الآية السابقة عن الرفث والفسوق والجدال
و( الرفث ) : يُطلق على الجماع ، وعلى التعريض به ، وعلى الفحش في القول .
و( الفسوق ) الفسق : أصله الخروج ، ويطلق على الخروج من الطاعة ، وإتيان معاصي الله عز وجل في حال إحرامه بالحج .
و( الجدال ) هو المماراة والمنازعة والمخاصمة ، لأنها مما يثير الشّر ، وتوقع العداوة .
وقال القرطبي : لا جدال في وقته – أي الحج – ولا في موضعه .
أخي الحاج : احرص أن تكون من أول الداخلين في قوله ﷺ : ” مَنْ حجّ فلم يَرفُث ولم يَفسقْ ، رجعَ كيومِ ولدته أمه ” رواه البخاري ومسلم .
أي : بغير ذنبٍ .
قال ابن حجر: ” وظاهره غُفران الصَّغائر والكبائر والتبعات “.
وقال ﷺ : ” والحجُّ المَبرور ، ليس له جزاءٌ إلا الجنة ” رواه مسلم .
قال الحسن البصري : الحج المبرور هو أنْ يرجع صاحبه زاهداً في الدنيا ، راغباً في الآخرة .
وقال القرطبي : قال الفقهاء : الحج المبرور هو الذي لم يُعص الله تعالى فيه أثناء أدائه .
فلتكن أخي الحاج من الفائزين بثمار حجّهم ، ونتاج سعيهم .
سادسا : الحرص على الصحبة الصالحة :
أخي الحاج : عليك بالرفقة الصالحة ، وإلتمس من يُعينك على طاعة الله ، وينصحك لنفسك عن معاصي الله ، عليك بالجلساء الطيبين ، والأخوة الصالحين في سفرك ، كما في بلدك ؛ فإنّ الصحبة لها أثرها الكبير على الصاحب ؛ وجاء عن النبي ﷺ المثال الرائع في الجليس الصالح ، والجليس السوء ، فقال ﷺ : ” مَثَلُ الجليس الصالح ، والجليس السوء ، كحامل السمك ، ونافخ الكبير، فحامل المسك : إمّا أن يُحْذِيَك ، وإما أنْ تبتاع منه ، وإمّا أنْ تجدَ منه ريحاً طيبة ، ونافخ الكير: إما أنْ يُحرق ثيابك ، وإما أنْ تجد منه ريحاً خبيثة “. متفق عليه
فالرفقة الصالحة تُعينك على ما ينفعك ، من أمور الدين والدنيا ، والرفقة السيئة ، تعينك على ما يضرك ويشقيك .
وفي الحديث الصحيح : ” المَرءُ على دِين خَليله ؛ فلينظُرْ أحدُكم مَنْ يُخالل”. رواه الترمذي وغيره .
فاختر أيها المسلم صحبة الأخيار ، وإذا أردت أن تسافر للحج أو لغيره ، فاحرص على الأخوة الصالحين ، الذين يعمرون المجالس بالذكر ، وقراءة القرآن ، ويذكرونك التلبية للحج أو العمرة ، والتكبير والتهليل والتحميد ، ويذكرونك بأعمال البر والصدقات ، ويأمرونك بالمعروف ، وينهونك عن المنكر، ويساعدونك في كل طريق للخير ، ويحذرونك من طرق أهل الجهل والغفلة والضلالة .
فاحرص يا عبد الله ، على ما ينفعك ، واختر الرجال الطيبين من جماعتك ، ومن جيرانك ، وفي مجالسك ، حتى يصلح الله شأنك ، وتربح في دنياك وأخراك .
وعن أنس بن مالك قال : قال رسول الله ﷺ : ” إنَّ من الناس مفاتيحَ للخير ، مغاليق للشر ، وإنَّ من الناس مفاتيح للشر ، مَغاليق للخير ، فطوبى لمن جَعل الله مفاتيحَ الخيرَ على يديه ، وويلٌ لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه ” رواه ابن ماجة .
سابعا : الحرص على النفقة الحلال :
على الحاج أنْ ينفق في حجه من زاد وراحلة من الكسب الحلال ، ليكون حجه مبروراً ، وذنبه مغفورا ، وسعيه مشكورا .
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ : ” إن الله طيبٌ لا يقبل إلا طيباً ، وإنَّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، فقال تعالى : ( يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا ) المؤمنون : 51 ، وقال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ) البقرة : 172 . ثم ذكر الرجل يطيل السفر ، أشعث أغبر ، يمدّ يديه إلى السماء : يا ربّ يا رب ، ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغُذّي بالحرام ، فأنّى يُستجاب له ؟ . رواه مسلم .
كما أنّه تعالى لا يقبل من الأموال إلا ما كان طيباً ، من كسب حلال ، كما قال رسول الله ﷺ في الصدقة : ” منْ تصدَّق بعدل تمرةٍ من كسبٍ طيب ، ولا يقبل الله إلا الطيب ، فإنَّ الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها ، كما يُربّي أحدُكم فلوَّه حتى تكون مثل الجبل ” الحديث متفق عليه .
وهو سبحانه أيضا لا يقبل من الأقوال إلا الطيب ، كما قال تعالى : ( إليه يَصْعد الكلم الطيب ) فاطر : 10 .
والنفقة في الحج إذا كانت من كسبٍ حلال ، تدخل في النفقة في سبيل الله ، قال الله تعالى : (وأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وأتموا الحج والعمرة لله ) البقرة :195.
فدلت هاتان الآيتان الكريمتان على أن النفقة في الحج ، من النفقة في سبيل الله ، حيث قرن ذكر الحج والعمرة بذكر الإنفاق في سبيل الله ، وكان بعض الصحابة قد جعل بعيره في سبيل الله ، فأرادت امرأته أن تحج عليه ، فقال لها النبي ﷺ: “حُجي عليه ، فإن الحج في سبيل الله “. رواه أهل السنن وغيرهم .
ولهذا ذهب بعض العلماء وهو رواية عن الإمام أحمد ، إلى أن الحاج يعطى من الزكاة ، لأن من جملة مصارفها “في سبيل الله” والحج داخل في سبيل الله ، فبعطى من الزكاة من لم يحج ما يحج به .
لا شك أن الحج يحتاج إلى استعداد بما يلزم له ، ماليا وبدنيا ، والواجب الاستعداد بالنفقة الكافية ، التي يستغني بها عن الناس ، كما قال تعالى : ( وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ) البقرة: 197.
فأمر سبحانه بالتزود ، وهو أخذ الزاد الكافي لسفره ذهابا وإيابا ، وتوفير المركوب المناسب الذي يحمله في سفره ، ويبلغه إلى بيت الله ، ثم يرده إلى وطنه .
وقال تعالى: ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا) آل عمران: 76.
والسبيل الذي اشترط الله استطاعته : هو الزاد والراحلة المناسبة في كل وقت بحسبه ، وكان أناس يحجون بلا زاد ، ويصبحون عالة على الحجاج ، ويقولون: نحن المتوكلون ؟! نهاهم الله تعالى عن ذلك ، وأمرهم بالتزود بما يغنيهم عن الناس ، فقال تعالى : ( وتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الأَلْبَابِ) البقرة : 197.
ولمّا كان أناس يظنون أن الاتجار والتكسب في موسم الحج لا يجوز للحجاج ، أنزل الله تعالى: ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُم ْ) البقرة: 198.
فبين سبحانه في هاتين الآيتين الكريمتين : أنه لا بد من أخذ زادين ؛ زاد السفر للدنيا ، وذلك بالطعام والشراب الكافيين إلى نهاية الرحلة ، وزاد السفر للآخرة وذلك بالعمل الصالح والابتعاد عن المعاصي ، ثم بيّن سبحانه أنّ مزاولة التجارة والاكتساب وطلب الرزق الحلال ، لا يتعارض مع العبادة إذا لم يطغ على وقتها ، ولم يشغل عنها ، كما أن أخذ الزاد للحج لا يتنافى مع التوكل .
ثم لا بد لمن يريد الحج أنْ يوفر لأهل بيته ما يكفيهم من النفقة إلى أن يرجع إليهم ، ولا يجوز له أن يتركهم بدون نفقة ، أو ينقص من نفقتهم ما يضرهم من أجل أن يوفر ما يكفي لحجه ؟! فإنه في هذه الحالة آثم لا مأجور ، قال ﷺ : ” كفئ بالمرء إثما أن يضيع من يقوت” رواه النسائي.
كما أن على من يريد الحج أن يسدد الديون التي عليه ، أو يستأذن أصحابها ، فإن لم يكن لديه من المال ما يكفي لنفقة الحج وسداد الدين ، فإنه يقدم سداد الدين ، ولا يجوز له أن يحج في هذه الحالة.
ثامنا : التحلي بحسن الخلق :
التحلي بحسن الخلق ، واجتناب كل ما يتنافى مع التوجه إلى الله تعالى في أشرف عبادة , وأكرم ضيافة ، في أطيب البقاع ، ابتغاء أعظم ثواب وجزاء ، موعود لصاحب الحج المبرور : ” من حج فلم يرفث ولم يفسق ، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه ” الحديث السابق .
ورجاء لفضل الحج وثوابه العظيم ، كان الانضباط الخلقي مطلوبا للحاج ، ويقتضي من الحاج أن يسمو بخلقه وقلبه وسلوكه إلى مقام رفيع من الأخلاق الإسلامية ، والتعظيم لشعائر الله تعالى : ( ذَلِكَ ومَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ) الحج : 32 .
والله تعالى عليم خبير بظروف موسم الحج ، وبأحوال ضيوفه المقبلين عليه من مختلف الأجناس والأقطار ، وبمختلف العقليات والطباع والعادات ، وما يعتريهم في السفر من المشقة والشعور بالاغتراب ، وقد تركوا أهليهم وديارهم وأموالهم وأوطانهم ، مما يجعل نفسياتهم أقرب وأسرع إلى التأثر والانفعال والتوتر ، وما قد ينجم عن ذلك في تصرفاتهم من الشطط والزلل في السلوك و المعاملات .
من أجل ذلك وغيره اقتضت شريعة الله تعالى ، وهو العليم الحكيم ، تحريم كل ما يتنافى مع مقاصد الحج وفضيلته ، ولا يليق بمن يقبلون على ربهم خشية ورجاء ، كما لا يليق بموسم الأخوة الإيمانية في أسمى صورها ومعانيها .، كما تنهى عنه الآية الكريمة ) :الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ ( البقرة .
فالرفث والفسوق والجدال ، آفات خلقية وسلوكية مذمومة على كل حال ، ولكنها في موسم الحج ، أشد وأقبح ، و أبلغ في النهي والتحريم ، لكي يتحرر الحجاج من نوازع النفس الأمارة ويتعففوا عن كل ما يناقض مقاصد الحج وحكمته وفضيلته .
وحسن الخلق عبادة عظيمة ، يغفل عنها بعض الناس ، والله أمر بها ورغب فيها فقال سبحانه ( وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) البقرة .
وأثنى على أهلها فقال : ( والْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) آل عمران .
وأوصى النبي ﷺ أمته بذلك فقال : ” اتق الله حيثما كنت ، وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن ” رواه الترمذي وحسنه.
وكان رسول الله ﷺ غاية في حسن الخلق ، قال أنس رضي الله عنه : كان رسول الله ﷺ أحسن الناس خلقا . متفق عليه .
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : لم يكن رسول الله ﷺ فاحشا ولا متفحشا ” متفق عليه .
وقالت عائشة واصفة رسول الله ﷺ : كان خُلقه القرآن . يعني كان يتمثل أخلاق القرآن الفاضلة .
وقد أثنى عليه الله سبحانه بقوله ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) القلم .
وحسن الخلق هو بذل المعروف ، وكف الأذى ، فجماع حسن الخلق في أمرين عظيمين : بذل الخير للناس ، وكف الشر عنهم .
فبذل الخير يدخل فيه : الصدق والأمانة ، وحسن الجوار ، وصلة الرحم ، وحسن العهد والوفاء ، والمكافأة على المعروف ، وغير ذلك من خصال الخير.
وكف الشر يدخل فيه : احتمال الأذى وكظم الغيظ ، والصبر على المكروه ، والعفو عند المغفرة ، ومقابلة الإساءة بالإحسان وغير ذلك .
قال الحسن البصري “حسن الخلق الكرم والبذلة والاحتمال”.
وقال ابن المبارك “هو بسط الوجه وبذل المعروف وكف الأذى .
وقال الإمام أحمد : حسن الخلق أن لا تغضب ولا تحتد .
وفسره أيضا : أن تحتمل ما يكون من الناس .
والمؤمن يثاب في الآخرة على حسن خلقه ، إذا احتسب الأجر من الله ، وأخلص العمل له .
والله تعالى أعلم ، وهو المستعان على ما يحب ويرضى من القول والعمل .