مادة علمية عن وقفة يوم عرفة ، ومكانه، وزمانه، ومقداره، وسننه، ودعاء يوم عرفة من كتاب الفقه الإسلامي وأدلته تأليف د. وهبة الزحيلي – رحمه الله – أستاذ ورئيس قسم الفقه وأصوله بجامعة دمشق سابقا . أجمع العلماء على أنه الركن الأصلي من أركان الحج، لقوله صلّى الله عليه وسلم : «الحج عرفة» (رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه والنسائي) أي الحج: الوقوف بعرفة، وأجمعت الأمة على كون الوقوف ركناً في الحج، لا يتم إلا به. فمن فاته فعليه حج من عام قابل، والهدي في قول أكثرهم.

مكان الوقوف في عرفات

عرفة كلها موقف، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم : «قد وقفت ههنا، وعرفة كلها موقف» (رواه أبو داود وابن ماجه) فمن وقف بعرفة في أي مكان، والأفضل عند جبل الرحمة، فقد تم حجه مطلقاً من غير تعيين موضع دون موضع. إلا أنه ينبغي ألا يقف في بطن عرنة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، وأخبر أنه وادي الشيطان، قال النبي: «كل عرفة موقف وارفعوا عن بطن عرنة» (رواه ابن ماجه.)

فليس وادي عُرَنة من الموقف، ولا يجزئ الوقوف قبل عرفة كنمرة مثلاً، قال ابن عبد البر: أجمع العلماء عل أن من وقف به لا يجزئه. وحد عرفة من الجبل المشرف على عرنة إلى الجبال المقابلة له إلى ما يلي حوائط بني عامر. وهي الآن معروفة بحدود معينة، وليس منها عرنة ولا نَمِرة ومسجد إبراهيم عليه السلام، فإن آخره منها وصدره عن عرنة. والمستحب أن يقف عند الصخرات الكبار المفترشة في أسفل جبل الرحمة، ويستقبل القبلة، لما جاء في حديث جابر المتقدم: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم جعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل منها جبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة» .

وقت الوقوف في عرفات

يقف الحاج بالاتفاق من حين زوال الشمس يوم عرفة إلى طلوع الفجر الثاني من يوم النحر، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم وقف بعرفة بعد الزوال وقال: خذوا عني مناسككم. وقال الحنابلة: يبدأ وقت الوقوف من طلوع الفجر يوم عرفة إلى طلوع فجر يوم النحر، لقوله صلّى الله عليه وسلم : «من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً، فقد تم حجه، وقضى تفثه» (رواه الخمسة ) .

فمن وقف بعرفة قبل الزوال وأفاض منها قبل الزوال لا يعتد بوقوفه بالإجماع، وفاته الحج إن لم يرجع فيقف بعد الزوال أو جزءاً من ليلة النحر قبل طلوع الفجر. ومن وقف بعرفات ولو مروراً أو نائماً أو مغمى عليه، و لم يعلم أنها عرفة، في هذا الوقت، أجزأه ذلك عند الحنفية عن الوقوف.

 قال عبد الرحمن بن يَعْمُر الديلي: « أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعرفة، فجاء نفر من أهل نجد، فقالوا: يارسول الله، كيف الحج؟ قال: الحج عرفة. فمن جاء قبل صلاة الفجر ليلة جَمْع، فقد تم حجه» (رواه أبو داود وابن ماجه) . واشترط المالكية في المار شرطين وهما أن يعلم أنه عرفة، وأن ينوي الحضور الركن، وأجازوا كون الواقف نائماً أو مغمى عليه كالحنفية.

واشترط الشافعية والحنابلة كون الواقف عاقلاً أهلاً للعبادة، سواء فيه الصبي والنائم وغيرهما؛ لأن النائم في حكم المستيقظ. وأما المغمى عليه والسكران فلا يصح وقوفهما؛ لأنهما ليسا من أهل العبادة، وكل منهما زائل العقل بغير نوم.

فمن كان من أهل العبادة وحصل في جزء يسير من أجزاء عرفات في لحظة لطيفة من وقت الوقوف المذكور (وهو ما بين زوال شمس يوم عرفة إلى طلوع الفجر من يوم النحر عند الجمهور، ومن طلوع فجر يوم عرفة عند الحنابلة) صح وقوفه.

سواء حضر عمداً أو وقف مع الغفلة، أو مع البيع والشراء، أو التحدث واللهو، أو في حال النوم، أو اجتاز بعرفات ماراً في وقت الوقوف، وهو جاهل لا يعلم أنها عرفات، ولم يلبث أصلاً، بل اجتاز مسرعاً في طرف من أرضها المحدودة، أو اجتازها في طلب غريم هارب أو بهيمة شاردة أو كان نائماً على بعيره، فانتهى به البعير إلى عرفات، فمر بها البعير، أو غير ذلك مما هو في معناه، يصح وقوفه في جميع ذلك، ولكن يفوته كمال الفضيلة.

ويجب عند الجمهور (الحنفية والمالكية والحنابلة) الوقوف إلى غروب الشمس، ليجمع بين الليل والنهار في الوقوف بعرفة، فإن النبي صلّى الله عليه وسلم وقف بعرفة حتى غابت الشمس، في حديث جابر السابق. وفي حديث علي وأسامة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم دفع حين غابت الشمس» فإن دفع قبل الغروب فحجه صحيح تام عند أكثر أهل العلم، وعليه دم.

وقال الشافعية: يسن الجمع بين الليل والنهار فقط، اتباعاً للسنة، فلا دم على من دفع من عرفة قبل الغروب، وإن لم يعد إليها بعده، لما في الخبر الصحيح: «أن من أتى عرفة قبل الفجر ليلاً أو نهاراً، فقد تم حجه» (رواه الخمسة) ولو لزمه دم لكان حجه ناقصاً، نعم، يسن له دم، وهو دم ترتيب وتقدير، خروجاً من خلاف من أوجبه. وقال المالكية: الركن الحضور بعرفة ليلة النحر، على أي حالة كانت، ولو بالمرور بها، إن علم أنه عرفة، ونوى الحضور، وهذان شرطان في المار فقط كما تقدم، أو كان مغمى عليه.

فمن وقف بعرفة بعد الزوال، ثم دفع منها قبل غروب الشمس، فعليه حج قابل، إلا أن يرجع قبل الفجر. لكن إن دفع من عرفة قبل الإمام وبعد غروب الشمس أجزأه. وبهذا يكون شرط صحة الوقوف عندهم: هو أن يقف ليلاً، ودليلهم أنه صلّى الله عليه وسلم وقف بعرفة حين غربت الشمس، وروى ابن عمر: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من أدرك عرفات بليل، فقد أدرك الحج، ومن فاته عرفات بليل، فقد فاته الحج، فليحل بعمرة، وعليه الحج من قابل» . ونوقش الدليل الأول بأن فعله عليه السلام على جهة الأفضل؛ لأنه كان مخيراً بين ذلك.

وأن الحديث الثاني هو بيان آخر وقت الوقوف. والحاصل أن الجمهور يقولون: يجزئ الوقوف ليلاً أو نهاراً بعد الزوال، وقال المالكية: الواجب الوقوف ليلاً، فمن تركه فينجبر بالدم، كما أن الحنفية والحنابلة يوجبون الدم على من ترك الوقوف ليلاً، والشافعية قالوا: يسن له الدم فقط.

مقدار الوقوف في عرفات

اتفق العلماء على أنه يكفي الوقوف في جزء من أرض عرفة، ولو في لحظة لطيفة، وأوجب المالكية الطمأنينة بعد الغروب في الوقوف أي الاستقرار بقدر الجلسة بين السجدتين قائماً أو جالساً أو راكباً. فالقدر المفروض من الوقوف: هو وجوده بعرفة ساعة من هذا الوقت، سواء أكان عالماً بها أم جاهلاً، نائماً أم يقظان مفيقاً، أم مغمى عليه أم سكران أم مجنوناً في رأي الحنفية والمالكية، وسواء وقف بها أو مرَّ، وهو يمشي أو على الدابة، أو محمولاً؛ لأنه أتى بالقدر المفروض: وهو وجوده كائناً بها، للحديث السابق: «من وقف بعرفة، فقد تم حجه» .

والمشي والسير لا يخلو عن وقفة، سواء نوى الوقوف أم لم ينو. ولا خلاف في أنه لا يشترط للوقوف طهارة ولا ستارة ولا استقبال القبلة ولانية، فيصح كون الواقف محدثاً أو جنباً أو حائضاً أو نفساء. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن من وقف الوقوف بعرفة غير طاهر مدرك للحج، ولا شيء عليه. بدليل قول النبي صلّى الله عليه وسلم لعائشة: «افعلي ما يفعله الحاج غير الطواف بالبيت» ووقفت عائشة بعرفة حائضاً بأمر النبي، لكن يستحب كما سأبين أن يكون طاهراً.

سنن الوقوف بعرفة وآدابه

يسن الاتجاه أو الرواح إلى منى في يوم التروية ـ الثامن من ذي الحجة ـ والمكث أو المبيت بها إلى فجر عرفة، ثم الرواح إلى عرفات بعد طلوع الشمس، فيقيم الحجاج بنمرة قرب عرفات اتباعاً للسنة كما روى مسلم، ولا يدخلون عرفات، وقال الحنابلة: إن شاؤوا أقاموا بعرفة حتى تزول الشمس، ثم يخطب الإمام قبل صلاة الظهر خطبتين كالجمعة، يعلم الناس فيها مناسكهم من موضع الوقوف ووقته والدفع من عرفات، ومبيتهم بمزدلفة وأخذ الحصى لرمي الجمار، لحديث جابر المتقدم أن النبي صلّى الله عليه وسلم فعل ذلك.

ثم يؤذن المؤذن، ويصلي الإمام بالناس الظهر والعصر جمع تقديم مع قصرهما اتباعاً للسنة كما روى مسلم، بأذان وإقامتين وقراءة سرية، دون أن يفصل بينهما بشيء، ولا يصلى عند الحنفية بعد أداء العصر في وقت الظهر.

 وهذا الجمع نسك من أعمال الحج عند الحنفية، فيشمل المقيم والمسافر، لكن لو كان مقيماً كإمام مكة صلى بهم صلاة المقيمين، ولا يجوز له القصر، ولا للحجاج الاقتداء به.

ورأى المالكية أيضاً أنه يسن الجمع بين الظهرين جمع تقديم حتى لأهل عرفة. ويسن قصرهما إلا لأهل عرفة بأذان ثان وإقامة للعصر من غير تنفل بينهما، ومن فاته الجمع مع الإمام جمع في رحله.

 وأجاز الحنابلة أيضاً الجمع لكل من بعرفة من مكي وغيره، أما قصر الصلاة فلا يجوز لأهل مكة. والحاصل أن الجمهور يرون جواز هذا الجمع لكل حاج، أما القصر فلا يجوز لأهل عرفة وأهل مكة، وأجاز المالكية القصر لأهل مكة.

ورأى الشافعية: أن هذا الجمع والقصر وفي المزدلفة أيضاً للسفر لا للنسك، فهما جائزان للمسافر فقط، ويختصان بسفر القصر، فيأمر الإمام المكيين ومن لم يبلغ سفره مسافة القصر (89كم) بالإتمام وعدم الجمع، كأن يقول لهم بعد السلام: يا أهل مكة ومن سفره قصير أتموا، فإنا قوم سَفْر. وإذا دخل الحجاج مكة ونووا أن يقيموا بها أربعة أيام لزمهم الإتمام، فإذا خرجوا يوم التروية إلى منى، ونووا الذهاب إلى أوطانهم عنذ فراغ مناسكهم، كان لهم القصر من حين خرجوا؛ لأنهم أنشؤوا سفراً تقصر فيه الصلاة. ثم بعد الفراغ من الصلاة يذهبون إلى الموقف، ويعجلون السير إليه، وسنن الوقوف وآدابه هي ما يأتي:

  1. الاغتسال بنمرة.
  2. ألا يدخل أحد عرفات إلا بعد الزوال والصلاتين.
  3. أن يخطب الإمام خطبتين ويجمع الصلاتين، كما تقدم.
  4. تعجيل الوقوف عقب الصلاتين.
  5. الأفضل كون الوقوف عند الصخرات الكبار في أسفل جبل الرحمة.
  6. ينبغي أن يبقى في الموقف حتى تغرب الشمس، فيجمع في وقوفه بين الليل والنهار، بل هو واجب عند الجمهور غير الشافعية.
  7. الأفضل أن يقف راكباً، وهو أفضل من الماشي، اقتداء برسول الله صلّى الله عليه وسلم ، ولأنه أعون على الدعاء، وهو المهم في هذا الموضع.
  8. استقبال القبلة مع التطهير وستر العورة ونية الوقوف بعرفة ، فلو وقف محدثاً أو جنباً أو حائضاً أو عليه نجاسة، أو مكشوف العورة، صح وقوفه، وفاتته الفضيلة.
  9. الأفضل للواقف ألا يستظل، بل يبرز للشمس، إلا لعذر، بأن يتضرر أو أن ينقص دعاؤه واجتهاده.
  10. أن يكون مفطراً؛ لأن الفطر أعون على الدعاء، وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقف مفطراً.
  11. أن يكون حاضر القلب، فارغاً من الشواغل عن الدعاء.
  12. الحذر من المخاصمة والمشاتمة والمنافرة والكلام القبيح، بل ينبغي أن يحترز عن الكلام المباح ما أمكنه، فإنه تضييع للوقت المهم فيما لا يعني.
  13. الاستكثار من عمل الخير في يوم عرفة وسائر أيام ذي الحجة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ما العمل في أيام أفضل منه في هذه الأيام ـ يعني أيام العشر ـ قالوا: ولا الجهاد؟ قال: ولا الجهاد، إلا رجل خرج يخاطر بماله ونفسه، فلم يرجع بشيء» (رواه البخاري عن ابن عباس) .
  14. الإكثار من الدعاء والتهليل وقراءة القرآن والاستغفار والتضرع والخشوع وإظهار الضعف والافتقار، والإلحاح في الدعاء، وتكرار الدعاء ثلاثاً، والتسبيح والتحميد والتكبير، ويكثر البكاء مع ذلك، فهنالك تسكب العبرات، وتقال العثرات.

دعاء يوم عرفة

وأفضل ذلك ما رواه الترمذي وغيره عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: “أفضل الدعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.