التأمين في الحكم الشرعي ثلاثة أنواع: تأمين خيري، وتأمين تعاوني، وتأمين تجاري. التأمين الخيري هو التأمين القائم على الزكوات والصدقات ونفقات الأقارب والأوقاف والكفارات والنذور … ويهدف إلى انتشال الفقير من فقره، ولا يعوض من الكارثة إلا بالمقدار الذي يدفع الفقر عن المصاب، بخلاف التأمين التعاوني والتجاري، فإنه يهدف إلى المحافظة على المسـتوى السابق من الثروة، والكفاءة الإنتاجية. والتأمين الخيري لا ينطبق عليه التعريف القانوني للتأمين، لأنه تأمين بلا قسط، أو بلا اشتراك. لكن استخدمنا فيه لفظ التأمين تجوزًا، ولأجل مراعاة ما يراه بعض العلماء من أنه هو التأمين المقبول شرعًا، ويغني عن التأمين “الوافد”.

وظيفة التأمين (التعاوني والتجاري)

التأمين الخيري ذو أهداف اجتماعية وإنسانية، في حين أن التأمين التعاوني والتجاري لهما أهداف اقتصادية وتنموية أيضًا، فهما يخففان المخاطر عن الإنسـان، لتمكينه من الدخول في أنشطة ذات مخاطر عالية، أو الدخول في مخاطر أخرى، تتطلبها الأنشطة الاقتصادية المختلفة. 

وحتى لو رأى البعض في التأمين بعض الشرّ، إلا أنه شر لا بد منه، بمعنى أن بلدانًا إذا اسـتخدمته، فإن البلدان الأخرى تتخلف وراءها إذا عزفت عنه، أو ترددت فيه.

وليس الغرض من التأمين أن يكون وسيلة للإثراء، بل هو وسيلة للحفاظ على مستوى الثروة، والكفاءة الإنتاجية، لأنه يعوض المصاب بالكارثة، حتى لو كان غنيًا بأموال أخرى يمتلكها.  

إثبات جواز التأمين التعاوني والتأمين التجاري:

سنثبت جواز التأمين التجاري على خطوتين:

1 – إثبات جواز التأمين التعاوني؛

2 – إثبات جواز التأمين التجاري.

إثبات جواز التأمين التعاوني:

1 – حديث الأشعريين: قال رســول الله : “إن الأشعريين إذا أرملوا في الغـزو ، أو قلّ طعام عيالهم في المدينة، جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم. (فتح الباري 5 / 128، كتاب الشركة، باب الشركة في الطعام والنهد والعروض).

وهو ما يسمى بالمناهدة أو المخارجة، وهي جائزة سواء كانت الأقساط متساوية والمبالغ متسـاوية، أو الأقساط متساوية والمبالغ متفاوتة، أو الأقساط متفاوتة والمبالغ متساوية، أو الأقساط متفاوتة والمبالغ متفاوتة.

2 –  نظام العاقلة: عاقلة الرجل عَصَبته، أي قرابته من جهة الأب، وهم الذين يعقلون عنه، أي يدفعون ديته إذا جنى (بطـريق الخطأ)، ولهم إرثه إذا ورث. وفي الحديث: قضى رســول الله بالدية على العصبـة (البخـاري 9 / 14؛ ومسلم 11 / 177 و 179). فنظام العاقلة يشبه نظام التأمين التعاوني، من حيث إن التعويض الكبير يُجمع من مجموعة كبيرة من الناس، باشتراكات صغيرة، تجبى عند وقوع الحادث.

وهناك أدلة أخرى، تجدها في بحوث المجيزين للتأمين التعاوني.

إثبات جواز التامين التجاري:

التأمين التجاري تنهض به شركة تجارية، والتأمين التعاوني تنهض به جمعية تعاونية. وكلاهما معاوضة، وما من فرق بينهما إلا التجارة والربح، وكل منهما في الإسلام جائز.

مناقشة الآراء السابقة:

مناقشة رأي من منع التأمين التعاوني والتجاري: 

هناك من كتب في التأمين، ومنع التأمين التعاوني، لأنه لم يعثر على أدلة جوازه، كحديث الأشعريين وغيره مما سبق ذكره آنفـًا.

كما أنه لم يتنبه إلى وظيفة التأمين وأهميته.

وربما حرم التأمين لأشياء خارجة عنه، كالسكْر والانتحار …

ومنهم من قبل بالتأمين الاجتماعي، ومعاشات التقاعد، مع أن هـذين النظامين قائمان على أساس التأمين التعاوني أو التجاري، لا عــلى أساس التأمين الخيري. ففي التأمين الاجتماعي هناك اشتراك يدفعه العامل يشبه قسط التأمين، وما يدفعه رب العمل لا يغير من الحكم شيئـًا، بل يمكن اعتباره مدفوعًا من العامل نفسه أيضًا، لأنه بمثابة أجر له، أو تكملة لأجره، تدفع له لاحقـًا: أجر مؤجل. وفي التأمين الاجتماعي هناك أيضًا مبلغ احتمالي للتأمين، يزيد وينقص، لاسيما في بعض أنواعه. ففي تأمين البطالة أو الإصابة، يدفع العامل الاشتراك طيلة عمله، وقد لا يتعرض للبطالة أو الإصابة طيلة حياته. فما الفرق بين التأمين الاجتماعي وغيره، من حيث الغرر وسواه، حتى يجيزه العلماء ويمنعوا غيره؟

يقول السنهوري: “لا تصح التفرقة بين التأمين الاجتماعي والتأمين الفردي، فكلاهما يقوم على أساس واحد، ولا يختلفان إلا في أن الدولة في التأمين الاجتماعي هي التي تقوم بدور المؤمِّن. فمن قال بجواز التأمين الاجتماعي وجب أن يقول بجواز التـأميـن الـفـردي” (الوسيط، ج 7، مجلد 2، ص 1089).

مناقشة رأي من منع التأمين التجاري:

1- احتجاجهم بأن التامين التعاوني داخل في التبرعات، والتجاري داخل في المعاوضات، وكلاهما فيه غَرَر، لكن الغرر مغتفر في التبرعات دون المعاوضات. قولهم بأن التعاونيات تلحق بالتبرعات غير مسـلَّم، لأن (أتبرع لك بشرط أن تتبرع لي) هذه معاوضة لا تبرع! فلا فرق إذًا في الحكم بين التعاوني والتجاري.

2- هناك معاوضات فيها غرر في الحصول، وفي المقدار، وفي الأجـل، كالتأمين، ومع ذلك فإنها جائزة عند جمهور الفقهاء، كالجعالة. فإذا قلت: من عثر على سيارتي المسروقة فله 1000 جنيه، فإن الباحث عنها قد يجدها وقد لا يجدها، وقد يعمل قليلاً أو كثيرًا، لمدة قصيرة أو طويلة، ومن ثم فقد يحصل على الجُعْل أو لا يحصل عليه.

3- احتجاجهم بأن التأمين التجاري فيه قمار. ولكن هذا غير مسلّم أيضًا، لأن القمار لعب ولهو، والتأمين جد ونشاط، والقمار خلق للمخاطر، والتأمين تحصّن منها، فكيف يستويان؟ بهذه الطريقة ميَّز أبو عبيد (- 224هـ) في “الأموال” بين القمار من جهة، والقرعة والخرص من جهة أخرى، وخطّأ الفقهاء الذين حرموهما.

4- احتجاجهم بأن التأمين التجاري من عقود الإذعان. ولكن عقود الإذعان ليست محرمة، كعقود الكهرباء والماء والهاتف والبريد والنقل … والتراضي فيها موجود بطريقة كاملة: خذه كله أو دَعْه كله. وقد يكون لها مزايا، من حيث عدم التمييز فيها بين غني وفقير، أو قوي وضعيف، ومن حيث إنها تؤدي إلى تخفيف الجهد في المناقشة والمفاوضة والمساومة، والأخذ والرد، وهذا يؤدي بدوره إلى تخفيض تكاليف العقود. ثم إنها ترجمة للعبارة الفرنسية Contrat d’adhésion، والترجمة الصحيحة لها هي: عقد انضمام، وليس عقد إذعان، والإذعان حالة خاصة ومتطرفة من الانضمام.

مناقشة رأي من أجاز التأمين التجاري:

احتج بعض من أجاز التأمين التجاري بحجج واهية، ربما كان لها أثر في رفضه عند من رفضه. فاحتجوا ببيع الوفاء، وهو حيلة ربوية ممجوجة، تجد لها رواجًا عند أهل الحيل. واحتجوا بالوعد الملزم، والصواب أن الوعد لا يمكن أن يكون ملزمًا، في المعاوضـات، إذا كان بديلاً لعقد محرم، كبيع ما ليس عنده. أما في التبرعات فالخلاف فيه بين الفقهاء القدامى أمر وارد ومقبول، ولكن هذا الخلاف لا يجوز سحبه إلى غير موضعه.  

كفاءة التجاري أعلى من الخيري والتعاوني:

بيّن إمام الحرمين الجويني (- 478هـ) أن عقود المعاوضات أكثر حفزًا للناس من عقود التبرعات. وضرب على ذلك مثلاً بالإجارة والإعارة، فرأى أن الإعارة لا تقع إلا نادرًا، لضنَّة الناس بها، ولو لم تكن الإجارة جائزة لتعطلت جميع المصالح المبنية عليها (البرهان 2 / 924). ففي الإجارة مصلحة شخصية دنيوية مادية تحرّك أكثر الناس، أما الإعارة فالمصلحة فيها دينية لا تحرك إلا القليل من الناس. يؤيد هذا أيضًا الإمام العز بن عبد السـلام (- 660هـ) في كتابه “القواعد الكبرى” (1/ 347 و2/122).

وهذا ما رآه آدم سـميث (- 1790م)، بعدهما بعدة قرون، عندما قال: “إننا لا نتوقع الحصول على طعامنا بدافع حب الخير لدى اللحام (…) والخباز وغيرهما، وإنما نتوقعـه بدافع مصلحتهم الشخصية. وإننا لا نتوجه إلى إنسانيتهم، بل إلى حبهم لذاتهم، ولا نتحدث معهم أبـدًا عن ضروراتنا، بل عن منافعهم” (ثروة الأمم ص 14).

فالدوافع في المعاوضات مبنية على المصلحة الشـخصية (الأثَرة)، في حين أن الدوافع في التبرعــات مبنية على مصـلحة الآخرين (الإيثار). والدوافع الأولى هي الدوافع العادية التي ينبني عليها النشاط الاقتصادي، والدوافع الأخرى هي دوافع استثنائية ينبني عليها العمل الخيري.

فالتأمين الخيري قائم على التبرعات، والتبرعات نادرة، لا يقوم بها الناس إلا قليلاً، لما جبلت عليه النفوس من شح. أما التأمين التعاوني والتجاري فهو قائم على المعاوضات، وهي أكثر حفزًا للناس، وانتشارًا بينهم، لما جبلت عليه النفوس من غريزة حب المال والربح.

ومثل من يقول بجواز التأمين الخيري والتعاوني، ومنع التأمين التجاري، مثله مثل من يقول بجواز الوكالة بلا أجر ومنع الوكالة بأجر، أو جواز الإعارة  ومنع الإجارة، أو جواز الإجارة  ومنع الجعالة، أو جواز الهبة ومنع البيع.


المراجع

– ابن حجر، فتح الباري، بيروت: دار المعرفة، د . ت.

– ابن عبد السلام، العز، القواعد الكبرى (قواعد الأحكام)، تحقيق نزيه حماد وعثمان جمعة، دمشق: دار القلم، بيروت: الدار الشامية، جدة: دار البشــير، 1421هـ (2001م).

–  أبو عبيد، الأموال، تحقيق محمد خليل هراس، القاهرة: مكتبة الكليات الأزهرية، بيروت: دار الفكر، 1395هـ.

– البخاري، صحيح البخاري، القاهرة: دار الحديث، د . ت.

– الجويني، البرهان، تحقيق عبد العظيم الديب، القاهرة: دار الأنصار، 1400هـ.

– السنهوري، عبد الرزاق، الوسيط في شرح القانون المدني (عقود الغرر وعقد التأمين)، ج 7، المجلد 2، بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1964م.  

–  مسلم، صحيح مسلم بشرح النووي، بيروت: دار الفكر، 1401هـ.

–   المصري، رفيق يونس، الخطر والتأمين: هل التأمين التجاري جائز شرعًا؟ دمشق: دار القلم، بيروت: الدار الشامية، جدة: دار البشير، 1422هـ (2001 م).

– SMITH, Adam, The Wealth of Nations, The Modern Library, New York, 1937. 

* نشر أصل المادة 28/10/1422هـ الموافق 12/01/2002م مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي، جامعة الملك عبد العزيز – جدة