د.عبدالوهاب المسيري رحمه الله
إذا كانت الأسرة هي اللبنة الأساسية في المجتمع، فإن الأم هي اللبنة الأساسية في الأسرة (بما لا ينفي دور الرجل الأسري بالطبع) ومن هنا كان تركيز النظام العالمي الجديد على قضايا الأنثى.
فالخطاب المتمركز حول الأنثى هو خطاب تفكيكي يعلن حتمية الصراع بين الذكر والأنثى، وضرورة وضع نهاية للتاريخ الذكوري الأبوي، وبداية التجريب بلا ذاكرة تاريخية، وهو خطاب يهدف إلى توليد القلق والضيق والملل وعدم الطمأنينة في نفس المرأة عن طريق إعادة تعريفها، بحيث لا يمكن أن تتحقق هويتها إلا خارج إطار الأسرة.
وإذا انسحبت المرأة من الأسرة تآكلت الأسرة وتهاوت، وتهاوى معها أهم الحصون ضد التغلغل الاستعماري والهيمنة الغربية، وأهم المؤسسات التي يحتفظ الإنسان من خلالها بذاكرته التاريخية وهويته القومية ومنظومته القيمية. وبذلك يكون قد نجح النظام العالمي الجديد من خلال التفكيك في تحقيق الأهداف التي أخفق في تحقيقها النظام الاستعماري القديم من خلال المواجهة المباشرة. وتتحول المجتمعات إلى أفراد مستهلكين.
ومن الأجدر بنا أن ندرس قضية المرأة داخل إطارها التاريخي والإنساني، فندرك أن مشكلة المرأة مشكلة إنسانية لها سماتها الخاصة، كما يجب أن ننفض عن أنفسنا غبار التبعية الإدراكية ونبحث عن حلول لمشاكلنا نولدها من نماذجنا المعرفية ومنظوماتنا القيمية والأخلاقية ومن إيماننا بإنسانيتنا المشتركة. وهي منظومات تؤكد أن المجتمع الإنساني يسبق الفرد (تمامًا كما يسبق الإنسان الطبيعة/ المادة). مما يضطرنا إلى أن نتحدث عن “حقوق الأسرة” كنقطة بدء ثم يتفرع عنها وبعدها “حقوق الأفراد” الذين يكوِّنون هذه الأسرة، أي أننا سنبدأ بالكل (الإنساني الاجتماعي) ثم نتبعه بالأجزاء (الفردية).
ولو اتبعنا هذا النموذج، واتخذنا الأسرة نقطة بدء ووحدة تحليلية، فإن الحديث عن “تحقيق الذات بشكل مطلق” يصبح أمرًا ممجوجًا ومرفوضًا –سواء للرجل أم المرأة-ولا بد أن يحل محله الحديث عن “تحقيق الذات داخل إطار الأسرة” وبدلاً من الحديث عن “تحرير المرأة” كي تحقق ذاتها” ولذتها ومتعتها، قد يكون من المفيد أن ندرس ما حولنا لنكتشف أن أزمة المرأة هي في واقع الأمر جزء من أزمة الإنسان في العصر الحديث التي تنبع من هذه الحركية الهائلة المرتبطة بتزايد معدلات الاستهلاك، التي تسم إيقاع حياتنا الحديثة، ومن وجود هذه الاختيارات الاستهلاكية التي لا حصر لها ولا عدد، والتي تحاصرنا وتحد من حركتنا.
إن الدراسة المتأنية ستبين لنا أن المشكلة تنبع من أن الرجل قد تم “تحديثه” بشكل متطرف، وتم استيعابه في هذه الحركية الاستهلاكية العمياء بحيث أصبحت البدائل المطروحة أمامه تفوق بكثير البدائل المطروحة أمام المرأة.
ولكن بما أن هذه الحركية الاستهلاكية المتطرفة هي أحد أسباب أزمة الإنسان الحديث، قد يكون من الأكثر رشدًا وعقلانية ألا نطالب بـ “تحرير المرأة” وألا نحاول أن نقذف بها هي الأخرى في عالم السوق والحركية الاستهلاكية، وأن نطالب بدلاً من ذلك بتقييد الرجل أو وضع قليل من الحدود عليه وعلى حركته، بحيث نبطئ من حركته فينسلخ قليلاً عن عالم السوق والاستهلاك وبذلك يتناسب إيقاعه مع إيقاع المرأة والأسرة وحدود إنسانيتنا المشتركة، وانطلاقًا من هذه الرؤية لا بد أن يُعاد تعليم الرجل بحيث يكتسب بعض خبرات الأبوة والعيش داخل الأسرة والجماعة، وهي خبرات فقدها الإنسان الحديث مع تآكل الأسرة ومع تحركه المتطرف في رقعة الحياة العامة.
بهذه الطريقة سيكون بوسع الرجل أن يشارك في تنشئة الأطفال، وأن يعرف عن قرب الجهد الذي تبذله المرأة/ الأم. ومن ثم يمكن لإنسانيتنا المشتركة أن تؤكد نفسها مرة أخرى، ونعيد صياغة رؤية الناس بحيث يُعاد تعريف العمل فيصبح “العمل الإنساني” ، أي العمل المنتج إنسانيًّا (وبذلك نؤكد أسبقية الإنساني على المادي والطبيعي) .. وهنا تصبح الأمومة أهم “الأعمال المنتجة” (وماذا يمكن أن يكون أكثر أهمية من تحويل الطفل الطبيعي إلى إنسان اجتماعي؟)
ومن ثم يقل إحساس المرأة العاملة في المنزل بالغربة وعدم الجدوى، ويزداد احترام الرجل لها، ويكف الجميع عن القول بأن المرأة العاملة في المنزل لا تعمل، وكأن عمل سكرتيرة في إحدى شركات التصدير والاستيراد أو إحدى شركات السياحة أكثر أهمية وجدوى من تنشئة الأطفال!
ولكن ما يهمنا هنا أنه شكل من أشكال علاقات الإنتاج التي لا تقوض الأسرة وتفككها، ويمكن للمرأة أن تشارك فيه دون أن تفقد هويتها كأم وزوجة. ويمكن أيضًا تطوير نظم تعليمية جديدة، بحيث يمكن للمرأة أن تتعلم وتستمر في تعليمها دون أن نولد داخلها التوترات بين الرغبة المحمودة في التعليم والنزعة الكونية نحو الأمومة بمساعدة التكنولوجيا وتحويلها إلى تكنولوجيا مساندة للأسرة.
ويمكن الإشارة هنا إلى جذور ما يُسمى ظاهرة “تأنيث الفقر” (feminization of poverty) التي أصبحت ظاهرة اجتماعية معروفة في الولايات المتحدة؛ إذ يبدو أنه في إطار حرية المرأة وحرية الرجل، يتعايش رجل مع امرأة تنجب منه طفلاً أو طفلين عادة دون أن يرتبطا بعقد زواج. وبعد فترة قصيرة أو طويلة يتملك الرجل الملل؛ وتنشب المعارك بين الطرفين؛ فيقرر الرجل أن يحقق ذاته خارج إطار الأسرة فيحمل متاعه ويذهب، تاركًا الأم المهجورة وحدها، ترعى الطفلين فتزيد أعباؤها النفسية والاجتماعية والاقتصادية (مهما دفع الرجل من نفقة) وازداد الرجال متعة وحركية استهلاكية أي أنه تم تأنيث الفقر، ويمكن أن نضيف أنه تم كذلك تأنيث الجهد النفسي والإرهاق البدني، ولعل هذا من أهم الأسباب السوسيولوجية لزيادة معدلات السحاق في المجتمعات الغربية، فهو يحل في نظرها مشكلة ضرورة تفريغ الطاقة الجنسية للأنثى دون أن يدخلها في دوامة العلاقة مع الرجل التي توردها موارد التهلكة والفقر والألم والهجران.
وأرجو ألا يُفهم من حديثي أنني أنكر وجود قضية المرأة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وأنه لا يوجد درجات متفاوتة من التمييز ضدها، بل القمع لها. فأنا أعرف أن ثمة مشكلة، حادة وعميقة، تتطلب حلاً عاجلاً وجذريًّا، كما أرجو ألا يتصور أحد أنني أطالب بمنع المرأة من العمل في رقعة الحياة العامة أو نظير أجر نقدي، أو أنني أطالب بالحجر عليها عقليًّا وعاطفيًّا، كل ما أطالب به أن يتم تناولنا لقضية المرأة من خلال قضية الأسرة وفي إطار إنسانيتنا المشتركة، وأن تكون الأسرة (لا الفرد الباحث عن متعته الفردية ومصلحته الشخصية وحركته الاستهلاكية) هي الوحدة التحليلية ونقطة الانطلاق؛ ومن ثم فأنا أطالب برد الاعتبار للأمومة ولوظيفة المرأة كأم وزوجة، وأرى أن هذه الوظيفة “الإنسانية” و”الخاصة” تسبق أي وظائف “إنتاجية” و”عامة” أخرى، وإن كانت لا تجبها. كما أطالب بالحفاظ على الخلاف بين الجنسين على ألا يتحول هذا إلى أساس للظلم والتفاوت.