ما أن يضع الإنسان جنبه على الفراش ويخضع لسلطان النوم حتى تنطلق روحه لتجوب عالما آخر يختلف بحدوده ومقاييسه وطبيعته عن عالم اليقظة فتسقط حواجز الزمان والمكان، فالعين ترى والأذن تسمع واللسان ينطق لكن الجسد ساكن أشبه بحالة الممات.
وإذا كان اليوناييون القدماء قد اعتقدوا أن الأحلام بمثابة رسائل مصدرها قوة خارقة، فإن العالم الأمريكى (فرانسيس كريك) الحائز على جائزة نوبل والعالم البريطانى (جرايم ميشيل) عضو مجلس البحوث الطبية البريطانية جاءا بنظرية جديدة ومختلفة تماماً عما سبق ذكره. فقد قالا أن الأحلام لا تعمل فحسب على عرض صور فى دماغ الإنسان لكنها أيضاً تعمل على إلغاء ومحو الذكريات ما كان منها فائضاً أو غريباً أو لا جدوى منها ، ولا تحتفظ الرأس سوى بالمفيد منها ، وتخفف من الضغوط التى يتعرض لها الإنسان.
وقد شرق المحللون وغربوا بحثاً عن أسبابها وماهيتها، و رغم أن الإنسان يقضي ساعتين في الأحلام كل ليلة، أي ما يعادل حوالي ستة أعوام خلال حياته، إلا أن عالم الأحلام ما زال من أكثر الأمور غموضاً بالنسبة له… إنه عالم كان وما زال مثار اهتمام الإنسان على مر العصور والأزمان.
نظريات الأحلام
- تبنت بعض النظريات أن الأحلام تعالج فينا الصدمات النفسية التي نتلقاها في يقظتنا، وهذا ما ذهب إليه كارل يونج من أن الأحلام تقدم حلولاً لمشكلات الإنسان في محاولة لإعادة التوازن الداخلي، ومثال ذلك أنه إذا نجا الإنسان من حريق فإنه في أغلب الظن سيحلم به في تلك الليلة، وهي وسيلة أودعها الله الإنسان لتعينه على سرعة التشافي والعلاج من صدمات الحياة اليومية والتكيف مع حوادث الدنيا، فتخفف عنا وطأة الصدمات والكوارث حتى لا نفقد عقولنا.
- نظرية أخرى تبنت أن النوم والأحلام طريقة لإعادة ترتيب وتنظيم الملفات في الدماغ وطرح المعلومات التي لا معنى لها، أي بمثابة تنظيف بنك المعلومات في الدماغ، وفيه يتم تنظيم الذاكرة وتقوية الروابط بين المعلومات التي قد نحتاجها مستقبلاً، ويتم التخلص من الذكريات غير المفيدة كي لا يزدحم الدماغ.
- ونظرية ثالثة ترى أن الأحلام تعطي الإنسان الحرية في اختبار وتجربة تصرفات أو مبادرات أو سلوكيات يصعب تجربتها في الواقع، فيقوم الدماغ بالربط بين الأفكار والمشاعر والقيام بهذه التجارب في الأحلام دون الخوف من تبعات هذه المحاولات الجريئة.
- وهناك من ذهب ومنهم فرويد إلى أن من وظائف الأحلام كذلك حراسة النوم ومقاومة أي شيء يؤدي إلى إقلاق النائم وإيقاظه من نومه، فإذا أحس الإنسان بالعطش أثناء النوم مثلاً، فإنه سيرى في منامه أنه يشرب الماء، وبهذا يستمر نائماً ولا يضطر للاستيقاظ لشرب الماء.
إذاً ما تقوم به الأحلام هو بمثابة رسائل من العقل اللاواعي تختفي وراء أفكار أو صور وقصص خيالية، وهكذا يعمل العقل اللاواعي وتحتاج هذه الرسائل لفك رموزها ليفهمها العقل الواعي.
إن النظريات الحديثة ترى أن الأحلام تخدم جميع ما ذكرناه سابقا، كل على حسب احتياج الشخص في تلك الليلة وحالته النفسية والعقلية، فالأحلام والعقل اللاواعي خادمان للعقل الواعي يستجيبان لما يحتاجه الإنسان.
والأحلام قد تكون قصيرة جداً لا تتجاوز الثواني وقد تصل إلى نصف ساعة، والنائمون يكونون أكثر قدرة على تذكر أحلامهم إذا تم إيقاظهم من نومهم أثناء مرحلة حركة العين السريعة، بل يكونون قادرين على تذكر طول الحلم بدقة، والإنسان العادى يرى ما بين 3 – 5 أحلام في الليلة، ومنهم من يصل إلى 7 أحلام، لكن الإنسان ينسى 95% منها.
ووجد كذلك أن هناك فئة من الناس لديهم قدرة أعلى على تذكر أحلامهم كل ليلة.
منطقة الأحلام في المخ
في دراسة نشرت في 19 فبراير 2014 في مجلة نيورو سايكو فارماكولوجي وجد أن المنطقة الأمامية في الدماغ عند هؤلاء تكون أكثر نشاطا وهي المسؤولة عن الإدراك والوعي، وبذلك يكون نومهم خفيفا ويستيقظون مراراً أثناء الليل.
وبتكرار استيقاظهم ليلاً تتوفر للدماغ فرصة نقل صور الحلم من الباهتة إلى مراكز الذاكرة الأطول مدى وتخزينها، فالدماغ النائم لا يستطيع استحداث خلايا ذاكرة جديدة.
وهناك ظاهرة تسمى بظاهرة (الحلم الجلي) أو (صافي التفكير) وفيه يدرك الإنسان أنه يحلم ، ويمكنه كذلك توجيه حلمه والسيطرة والتحكم فيه واتخاذ قرارات واعية لما يرغب النائم فعله، وقد وجد أن الجزء الأمامي من الدماغ كذلك وهو المسئول عن التخطيط والإدراك والوعي يكون مفعلاً ونشطاً بخلاف الأحلام الأخرى.
وقد توصل فريق من علماء الأعصاب السويسريين في مستشفى جامعة زيورخ إلى تحديد مركز منشأ الأحلام في الدماغ، وهي المنطقة العميقة في النصف الخلفي من الدماغ والمسئولة عن رؤية الوجوه والعلامات المميزة والمشاعر والذاكرة البصرية.
أنواع الأحلام
بعد تحاليل العلماء الدقيقة التى أجروها على الأحلام وجد أنها إما أن تكون سلبية أو إيجابية.
ففى الأحلام الإيجابية يشترك الحالم نفسه فى بعض الأنشطة كمباراة كرة القدم أو مشاهدتها، بينما فى الأحلام السلبية يدور الحلم فيها حول التأمل والتفكير فى شيء ما، أو التطلع فى شيء بعينه مثل النظر إلى باب أو شخص ثابت.
وقد وجد أنه كلما كان الحلم إيجابيا كلما زادت سرعة خلجات العين.
لماذا تتحرك العين أثناء الأحلام؟
لوحظ أيضا أن النائم يتحرك من عشرين لأربعين مرة فى الليلة. ومما هو جدير بالذكر فى هذا الشأن أن هناك نشاطات عضلية أيضا تحدث خلال الحلم مثل النشاطات العضلية فى الساقين والذارعين بل قد تشمل الجسم كله.
وأجدنى مضطرا إلى طرح سؤال فى هذا الشأن وهو: هل لحركة العينيين السريعة التى تحدث أثناء الحلم أي ارتباط بالحلم نفسه؟ والإجابة بالإثبات إذ يبدو كما لو أن العينين تتحركان لتشاهد الأحداث التى فى الحلم.
ففي إحدى الحالات كانت عينا أحد النائمين تتحرك من جانب لأخر أثناء فترة الحلم ، كما لو كان يشاهد مباراة تنس وعندما أوقظ قال أنه كان يحلم أنه كان بمشاهدة شخصين يقذفان بعضهما بحبات من الطماطم.
وفى حالات أخرى كانت العينين تتحركان إلى أعلى وإلى أسفل عندما كان الشخص يحلم بتسلق عدة سلالم أو بالتطلع لإلقاء الكرة فى شبكة السلة ثم النظر إلى أسفل لالتقاط الكرة مرة ثانية.
وللأحلام وظائف أخرى، فكما قال الكاتب “وبرت لويس ستيفنسون” أن معظم مكائد قصصه كانت تأتيه فى الأحلام.
ويقول الدكتور ( جورج لندسى جونسون ) انه أجرى عملية جراحية فى عيني فتاة فى التاسعة عشرة من عمرها ، ولم تكن قط رأت شيئا البتة ولكنها لما شفيت ورفعت الأربطة تبيت شكل كل فرد فى الحجرة وملبسه واستطاعت أن تميز بين الألوان المختلفة مما يؤكد أن روحها كانت تنطلق فى منامها فترى ما لم تستطيع أن تراه بعينها.
وقد أورد الأستاذ / عبد الرازق نوفل فى كتابه ” القرآن والعلم الحديث ” ما يلى : وقرر كثيرون أنهم قاموا بأروع أعمالهم عندما شاهدوها فى أحلامهم، مثل الموسيقار/ آرثر سيمور سوليفان… الذي ألف أغنيته المشهورة (النور الساطع) فى نومه ، ” وجوثيب تارثينى ” الذي يقول أنه سمع فى نومه كأن الشيطان يغنى فما أن صحا من نومه حتى كتب اللحن وسماه ” أغنية الشيطان”. والرياضي ” هنري بوانكاريه ” رأى معادلات جبرية أدت إلى استكشافه قانونا هاما رياضيا ( أنظر كتاب القرآن والعلم الحديث ص97-98).
النساء يفضلونها ملونة
ويبدو أن النساء يتذكرن أحلامهن أفضل من الرجال رغم أن الرجال يستمتعون بأحلامهم عموما أكثر من النساء ، كما تزداد الكوابيس فى أحلام النساء عنها فى الرجال. وتشيع أحلام القلق وكذلك الأحلام التى تدور حول البحار لدى النساء عنها لدى الرجال (40% مقابل 27 % للرجال).
أما الأحلام الملونة فتحدث لدى النساء أكثر مما تحدث لدى الرجال. وهناك كثير من الأحلام يستحيل تذكرها عند الصباح.
كذلك فإن الشخص يحلم من ثلاثة إلى خمسة أحلام فى الليلة الواحدة وربما أكثر. ومن المنطقي أن نتوقع أنه إذا حلم المرء عددا من المرات فى الليلة الواحدة فإن هذه الأحلام سترتبط ببعضها وكذلك بأحداث اليوم السابق.
وقد جرت الدراسات لمعرفة مدى سيطرة الحالم على نفسه جسمانيا. فعرض الدكتور ” ريخنتشاف ” مكافآت مالية للمفحوصين لكي يطيلوا الوقت الذي يحلمون فيه فلم يستطع أحد منهم ذلك إطلاقا ،ويبدو من ذلك أن دورة الأحلام مستقلة عن أي تحكم شعوري.
أعطني خيالا واسعا.. أعطك أحلاما مفصلة
ويبدو أيضا أن المنبهات الخارجية ليست وحدها هي التى تؤثر على محتوى الحلم ، بل أيضا المنبهات الداخلية.
فقد منع الماء والسوائل عن بعض المفحوصين ليوم كامل ، كما أطعموا الفول السوداني المملح قبل النوم كي يزدادوا عطشا إلا أن أحد منهم لم يحلم مباشرة بشرة الماء ، وإنما حلموا برؤية آخرين يشربون الماء، وبعضهم حلم برؤية سوائل كاللبن وغيره.
ويزعم بعض الناس أنهم لا يحلمون أبدا ، إلا أن التجارب الدقيقة قد بينت أنهم يحلمون ولكن القدرة على تذكر الأحلام هي التى تختلف بدرجة كبيرة من شخص لآخر.
وقد تبين أن الأشخاص الذين يميلون إلى التفكير بطريقة منطقية وقليل من الخيال تكون قدرتهم على استرجاع الأحلام ضعيفة حتى ولو أو أيقظوا خلال الحلم (عند ظهور اختلاجات العين السريعة).
وفى مقابل ذلك فإن من لديهم خيال واسع أفضل بكثير من ناحية استرجاع الحلم. ويمكن أن نعزو ذلك الفرق فى القدرة على الاسترجاع إلى قمع أصحاب التفكير المنطقي لأحلامهم ، ولأن هذا الكبت يعزز قدرتهم على البناء المنطقي على حساب التفكير الخيالي المفتوح.
ومن المعتقد أن الحلم يحدث فقط عند انخفاض درجة حرارة الجسم عادة بين منتصف الليل والثانية صباحا.
وهذا يعنى أن الحرمان من الأحلام سيحدث عندما يكون المرء عاملا بالليل إذ أن درجة حرارة الجسم ستكون مرتفعة أثناء النهار عندما ينام مثل هذا الشخص.
الرؤيا المنامية
وهي ما نعبر عنها عادة بالأحلام حيث يقتصر العمل على ما يقوم به العقل الباطن الذي ينشط عند ضعف السيطرة على الجوارح.
وتتصدر سورة يوسف جميع سور القرآن من حيث عدد الآيات التي ورد فيها ذكر الرؤى المنامية والتي نذكر منها ثلاث نصوص، تكرر التعبير فيها عن الحدث بلفظ: ( رأى ).
الآية الرابعة من سورة يوسف، قال تعالى : { إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ }
الآية السادسة والثلاثون من سورة يوسف، قال تعالى : { وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجۡنَ فَتَيَانِۖ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّيٓ أَرَىٰنِيٓ أَعۡصِرُ خَمۡرٗاۖ وَقَالَ ٱلۡأٓخَرُ إِنِّيٓ أَرَىٰنِيٓ أَحۡمِلُ فَوۡقَ رَأۡسِي خُبۡزٗا تَأۡكُلُ ٱلطَّيۡرُ مِنۡهُۖ نَبِّئۡنَا بِتَأۡوِيلِهِۦٓۖ إِنَّا نَرَىٰكَ مِنَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ }
الآية الثالثة والأربعون من سورة يوسف، قال تعالى: { قَالَ ٱلۡمَلِكُ إِنِّيٓ أَرَىٰ سَبۡعَ بَقَرَٰتٖ سِمَانٖ يَأۡكُلُهُنَّ سَبۡعٌ عِجَافٞ وَسَبۡعَ سُنۢبُلَٰتٍ خُضۡرٖ وَأُخَرَ يَابِسَٰتٖۖ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمَلَأُ أَفۡتُونِي فِي رُءۡيَٰيَ إِن كُنتُمۡ لِلرُّءۡيَا تَعۡبُرُونَ }
وفي سورة أخرى هي سورة الصافات تقص علينا الآية الثانية بعد المئة موقف خليل الله إبراهيم مع ابنه، قال تعالى : { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ }
ففي هذه النصوص القرآنية كلها كما في غيرها من النصوص التي تتحدث عن الأحلام كان استعمال لفظ رأى تعبيراً دقيقاً عن حقيقة الأحلام بوصفها استحضاراً لمشاهد قديمة مختزنة في الذاكرة وإعادة مشاهدتها بواسطة مركز الرؤية في المخ دون حاجة إلى عضو النظر… لأن كل مشاهد الأحلام إنما هي مرئيات مجردة ليس لها كيان مادي مجسم يمكن النظر إليه، ومن ثم ألغيت عملية النظر وبالتالي لا يحدث إبصار…
لأنه كما قلنا فان الأحلام تتم باستحضار مشاهد قديمة مختزنة في الذاكرة وإعادة مشاهدتها.
بعض ما يراه النائم
إن ما يراه النائم من رؤى وأحلام هي من الحقائق التي لا ينكرها أحد إذ أنها مما يراه الناس كلهم صغيرهم وكبيرهم حتى أنه يمكننا أن نقول بأنها من خصائص الإنسان والصفات الملازمة له.
ما زالت الرؤى والأحلام من التحديات التي يواجهها العلماء والأطباء في كل مكان… فالنائم مغمض العينين ولكنه يرى ويميز الألوان ويحدد التفاصيل ويفرق بين الصغير والكبير والبعيد والقريب سمعه معطل عما حوله في دنيا المحسوسات فلا يستطيع أن يسمع من يتحدثون حوله في نفس الغرفة ولكنه يسمع أشياء لا يسمعها من حوله ولا يسمعها غيره ويعي ما يسمعه ويفكر فيه ويبقى في ذاكرته حتى بعد أن يستيقظ من نومه.
غائب من عالمنا المحسوس لا يدرك ما يدور حوله ولا يشعر بحواسه المختلفة إلا أنه في عالم آخر يتكلم دون أن يحرك لسانه أو شفتيه ويشعر بالألم دون أن يمس جلده شيء ويجري دون أن يحرك ساقيه ويفكر ويناقش ويجادل ويضحك ويبكي ويصرخ دون أن يسمع صوته أحد أو يشعر بما يحدث له غيره ويستيقظ من نومه فيجد ما كان يراه في نومه محفوراً في ذاكرته كأنه كان واقعاً محسوساً ملموساً.
ويتابع العلماء بأجهزتهم ومراقبتهم الشخصية ما يحدث أثناء النوم فلا ينتهون إلى شيء غير تسجيل بعض التغيير في النشاط الكهربي للدماغ وبعض التغيرات في نبض النائم وتنفسه وبعض عضلاته وغير ذلك مما لا يعطي أدنى فكرة عن طبيعة ما يراه النائم أو أسبابه، ويستمر التحدي….
يقول الله تعالي: ( ولنعلمه من تأويل الأحاديث ) يوسف 21.
يختلف استقبال النائم تماماً عن استقبال المستيقظ إذ أن حواسه بشكلها المعروف لدينا تكون معطلة تماماً ولكن لديه جهاز استقبال خاص ينشط أثناء النوم ويتلقى ما تعجز عن تلقيه الحواس ويقوم بتسجيل ما يستقبله في ذاكرة النائم فلا ينساها حتى بعد أن يستيقظ. وهذا الجهاز مبرمج لاستقبال أحاديث لا يتلقاها غيره ، فالنائمون حتى لو كانوا في مكان واحد فإنهم لا يرون نفس الرؤيا بحال من الأحوال.
ولأن الاستقبال يميز كل إنسان عن غيره فإنه كذلك يستقبل ما يأتي إليه من أوامر قد تكون وحياً أو غير ذلك فهذا إبراهيم عليه الصلاة والسلام يقول لابنه: {يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين } (الصافات 102).
فهو أمر من الله يتلقاه جهاز الاستقبال أثناء النوم فيعيه ويدرك سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام أن ذلك حق ووحي من الله فيسرع بالتنفيذ.
ومن أشهر ما يرويه التاريخ قصة إعادة حفر بئر زمزم على يد جد الرسول ﷺ حيث جاءه الأمر بحفرها وهو نائم وحدد له الهاتف مكانها بدقة، وذلك أنه أتاه آت في منامه فقال له احفر طيبة ثم جاءه الليلة التالية وقال له احفر برة، ثم جاءه الليلة التالية فقال له احفر المضنونة، ثم جاءه الليلة التالية فقال له احفر زمزم فقال له وما زمزم ؟ فقال: لا تنزف أبداً ولا تزم تسقي الحجيج الأعظم وهي بين الفرث والدم عند نقرة الغراب الأعصم عند قرية النمل. ( السيرة النبوية لابن هشام – غزوة أحد ).
وأغلب الظن أن ما تلقته أم موسى كان من هذا القبيل:
{ وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين } (القصص: 7)
فهي تعليمات واضحة صريحة لا لبس فيها ولا غموض حتى يتم تنفيذها كما هي دون نقصان.
عجز العلماء
وقد عجز العلماء ووقف الفلاسفة حائرين وأسسوا الجمعيات المختلفة التي تبحث فيما وراء إدراك الحواس ومن أشهرها وأقدمها جمعية المباحث الروحية بلندن في إنجلترا والتي تأسست عام 1882 ميلادية وكثير من معاهد البارابسيكولوجي parapsychology في أمريكا وفي أوروبا حيث اختاروا ذلك اللفظ المركب للتعبير عن نوعية الدراسات في تلك المعاهد، فقد قاموا بدراسة ما أطلقوا عليه ظواهر انتقال الفكر أو الاتصال الفكري على البعد Telepathy والاستشفاف أو الجلاء البصري أي الإحساس بالحوادث التي تحدث على مسافات بعيدة وأطلقوا لقب الإدراك خارج الحواس على هاتين الظاهرتين
إن ما يراه الإنسان النائم ـمؤمناً أو غير مؤمن من مرائي وما يأتيه من أخبار وأوامر تعتبر من الألغاز القديمة والتحديات الباقية للعقل البشري ولكل ما أوتي الإنسان من وسائل المعرفة والبحث وصدق الله العظيم : { وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً } (الإسراء: 85).
نظرة الإسلام للرؤي والأحلام
أما عن نظرة الإسلام للأحلام، فهو يراها على أنها واحدة من ثلاثة.
قال رسول الله ﷺ ” إذا اقترب الزمان لم تكد تكذب رؤيا المؤمن، ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة، وما كان من النبوة فإنه لا يكذب. قال محمد: وأنا أقول هذه. قال: وكان يقال: الرؤيا ثلاث: حديث النفس، وتخويف الشيطان، وبشرى من الله، فمن رأى شيئا يكرهه فلا يقصه على أحد وليقم فليصل. قال: وكان يكره الغل في النوم، وكان يعجبهم القيد، ويقال: القيد ثبات في الدين ” (أخرجه البخاري (7017)، ومسلم (2263)).
إذاً فالرؤيا من الله تبشير نحمد الله عليها، وهي الرؤية الصالحة التي نحدث بها من نحب. والثانية من الشيطان نتعوذ منها وننفث عن يسارنا ثلاثاً ولا نحدث بها أحداً، والثالثة أضغاث أحلام وهي رغبات ومخاوف مكبوتة في العقل الباطن قال عنها الرسول، ﷺ، “ومنها ما يهم به الرجل في يقظته فيراه في منامه” (حديث صحيح أخرجه ابن ماجة (3907 )، والطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (2178 )، وابن حبان (6042 )).
وقد بدأت علاقة النبي بالرؤى في وقت مبكر من عمره. وقد كانت أولى علامات صدق نبوته وبعثته، قالت السيدة عائشة رضي الله عنها “أول ما بدئ به رسول الله ﷺ من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل “فلق الصبح” (صحيح البخاري).
وقد كان النبي حريصاً على الاستماع إلى ما يراه أصحابه في منامهم ويكثر من سؤالهم خصوصاً بعد صلاة الفجر عما رأوه في منامهم، ومنها تلك الرؤى المشهورة التي ذكرت فيها كلمات الأذان المعروفة. وقد اهتم العلماء العرب المسلمون بالرؤى وتفسيرها وأصبح ذلك علماً بحد ذاته عند بعض المفسرين مثل محمد بن سيرين.
وعلم تفسير الأحلام ليس علما مكتسبا لكنه موهبة وعطية وهدية وملكة يجعلها الله في قلب من يشاء من عباده، ويعتمد على مجموعة صفات وخصال يرزقها الله المفسر، منها الفراسة والذكاء والنظر في حالة الرائي، فهو إلى الإلهام أقرب منه إلى العلم.
ومن الخطورة بمكان أن يستوضح صاحب الرؤيا ويطلب تأويلاً لرؤياه من أي أحد، فقد تكون سبباً في الوقوع في ضرر فلا يسأل إلا من يثق في علمه ودينه (الرؤيا تقع على ما تعبر) ومثل ذلك رجل رفع رجله فهو ينتظر متى يضعها، فإذا رأى أحدكم رؤيا فلا يحدث بها إلا ناصحاً أو عالماً.
وقد يختلف تعبير الرؤيا نفسها من شخص لآخر حسب القرائن التي تصحب هذه الرؤيا، فلا يمكن الاعتماد على كتب تفسير الأحلام.
ومن أكرم بالرؤى الصالحة فقد أكرم بما بقي من ميراث النبوة قال ﷺ “لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له” فليحمد الله ولا يبدل فيبدل الله عليه فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.