يعرفنا د. محمد بن أحمد أبو زهرة – رحمه الله – عبر كتابه (خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم )على جانب من جوانب السيرة النبوية العطرة : التكامل الإنساني في محمد .

نتقدم بهذا الباب من القول بين يدي المبعث المحمدي، لنتعرف من اختاره الله تعالى من بين خلقه رسولا للعالمين، وكيف قد أدبه الله تعالى بتأديبه الكريم، وخلقه كاملا، لأن رسالته دعوة إلى الكمال، فهو الكمال المطلق فى التكوين البشري، ونحن نريد أن نقدم ما كان من خلق فطري، لم يكسبه من الوحى الإلهي، وإن كان متطابقا مع ما جاء به الوحي، وما أدبه به القران، حتى كان خلقه المتين.

وكان كما قالت عائشة رضى الله تعالى عنها «خلقه القران»، وما كان خلقيا بمقتضى التكوين كان متفقا مع ما جاء به الوحي، وما دعا إلى خلقه، وقاربوا فيه، ولم يصلوا إلى ما وصل إليه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.

جاء فى كتاب الشفاء للقاضي عياض فى مقدمة كلامه في أوصاف محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم إن خصال الجمال والكمال فى البشر نوعان: ضروري دنيوي اقتضته الجبلة، وضرورة الحياة الدنيا، ومكتسب ديني، وهو ما يحمد فاعله، ويقرب إلى الله تعالى زلفي، ثم هي على فئتين أيضا، منها ما يتخلص لأحد الوصفين، وما يتمازج ويتداخل.. فأما الضروري المحض، فما ليس للمرء فيه اختيار، ولا اكتساب، مثل ما كان فى جبلته عليه الصلاة والسلام من كمال خلقته، وجمال صورته، وقوة عقله، وصحة فهمه، وفصاحة لسانه، وكرم أرضه، ويلحق به ما تدعوه ضرورة حياته إليه من غذائه ونومه وملبسه ومسكنه ومنكحه وماله وجاهه.

وأما المكتسبة الآخروية، فسائر الأخلاق العلية والفضائل الشرعية من الدين، والعلم والحلم، والصبر والشكر، والعدل، والزهد، والصمت والتؤدة والوقار والرحمة وحسن الخلق، والمعاشرة وأخواتها، وهى التى جماعها حسن الخلق.

ونرى من هذا أن القاضي عياض قد قسم الأوصاف التى تحلى بها النبى عليه الصلاة والسلام قسمين: أحدهما- كان بالفطرة الإنسانية وهى كمال الفطرة، ويلحق بها أوصافه الجسمية صلى الله تعالى عليه وسلم- وثانيهما ما اكتسبه بمقتضى التعاليم الشرعية، وذكر منها التواضع والحلم، والصبر والشكر، وحسن المعاملة. وبشكل عام ما يتعلق بحسن الأخلاق الذى هو جماع الفضائل الإنسانية، ويذكر أن من هذه الصفات المكتسبة بحكم الشرع الشريف والوحي إليه مما تلتقى فيه الفطرة المستقيمة مع الوحي، فالجود والتواضع والصبر والفصاحة، والتأني، وحسن التأتي للأمور، والرفق فى القول والعمل، ولين الجانب من غير ضعف، والقول الحق من غير عنف، كل هذه الصفات كانت فى محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم. كانت فيه بفطرته المستقيمة، وبتهيئة الله تعالي، قبل الرسالة، إعدادا لهذا المنصب الخطير، وهو رسالة الله تعالى إلى خلقه.

وإنا لنذكر فى هذا الباب ما كان فيه بمقتضى الطبع الإنسانى السامي الذى فطره الله تعالى عليه. وما كان من صفات تتعلق بالمعاملات، والعلاقات الانسانية والمودة والرحمة والرفق، والفصاحة، وغيرها مما كانت مهيئة للرسالة، وتحمل الأعباء، والقيام بحق هذه الرسالة والدعوة إليها بما يزكيها وينميها، وإذا كانت قد استمرت فيه بعد البعثة، فإنها ثمرة الله فى غرسه، وتناول الناس أكله، وإذا كنا نستشهد على هذه الصفات بما جاء من أقوال أصحابه من بعد البعثة، فليس ذلك لأن البعثة هى التى أوجدتها، بل لأنها الأقوال الناطقة المؤيدة لذلك، فقد أوجدها فيه العلى القدير.

وقدمناه على الرسالة لأن الله تعالى أعدها فيه ليكون كاملا، وليقوم بأعبائها.

وفور عقله

لم يتوافر العقل فى إنسان كما توافر فى محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام ولو لم ينزل عليه الوحي ويخاطب من السماء لكان عقله واحده كافيا لأن ينشيء دولة، ويقيم مجتمعا طيبا فاضلا. ولكن أتم الله تعالى عليه نعمته، فجعله نبيا مرسلا، فاجتمع له الكسب الذاتي بالإدراك بالفطرة الإنسانية العالية المكتملة بالتكوين الإنساني والرسالة الإلهية الهادية المرشدة، وكانت الأولى مقدمة للثانية، وما كانت إحداهما لتغنى عن الأخرى. فما كانت الرسالة تجىء لغير عقل كامل، وفكر مدرك، وشخصية كريمة اختارها الله تعالى لموضع رسالته وحمل أمانته. وما كانت الكفاية العقلية فى أسمى علوها بمغنية عن الرسالة، لأن العقل لا يمكن أن يكون واحده كافيا فى تدبير الحاضر والقابل إلى يوم الدين، إنما العقل يدبر ما يحيط به، وهو من غير هداية الوحي لا يفكر فيما بين يديه، ولا يخترق الحجب والأستار إلى ماوراء ما لديه، فلابد من علم الله يمده بعلم القابل، وهو عالم الغيب والشهادة، فمهما تكن قوة العقل، فإنه لا يستطيع أن يصلح غير زمانه، وكل شيء عند ربك بمقدار.

منذ نشأ محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم والعقل المكتمل حليته العليا التى سما بها على الغلمان أترابه، فمنذ استوى غلاما، والعقل يزينه، ولقد بدا ذلك لجده عبد المطلب الذى أخذه ليعوده أخلاق الرجال المكتملين.

ولما ذهب إلى بيت عمه أبى طالب بعد وفاة جده القريب، كان الغلام الرزين المكتمل وسط أولاد أبى طالب، لا يسبق الأيدى إلى الطعام، ولا يدخل فى زحمة الاغتراف، بل يتريث غير نهم ولا جشع ولا طامع، بل الهاديء الرزين، قد يكتفى بالقليل أو ما دونه حتى يتنبه إليه عمه الشفيق فيقرب إليه ما يبعد، ويخصه بما يكفيه مئونة المزاحمة، حتى إذا بلغ قدرا يستطيع فيه الاكتساب عمل على رعى الأغنام ليأكل من عمل يده، ولينال من خير الدنيا بمقدار ما قدم فيه من نفع غير مؤثل ولا مقصر.

وعقله المدرك لمصيره بقابل حياته فى قابل عمره، فهو يعد نفسه للتجارة عمل قومه، ومكتسب أرزاقهم ومنشط قواهم، فألح على عمه أبى طالب أن يأخذه معه إلى الشام فى قافلة تجارة قريش، ليكون على خبرة بالصفق فى الأسواق، وليتعلم المصادر والموارد، وذلك وهو فى الثانية عشرة من عمره حتى إذا عاد من هذه الرحلة المباركة عاد وقد امتلأ عقله تجربة، فيمارس التجارة صغرت بضاعته أو كبرت، وهو على بينة من أمرها، عليم بأسواقها، والرائج منها والكاسد.

ولكمال عقله كان الشاب التاجر يحضر مجتمعات قريش، فهو يحضر ندوتها فاحصا ما يقال فيها من حق يرضاه، وباطل يجفوه ولا يقره، ويحضر حلف الفضول، ويرى لعقله الكامل المدرك أنه لا يسره به حمر النعم، ولا يرى نصرة للحق أقوى منه، ولو دعى به فى الإسلام بعد أن عم الحق، لأجاب تكريما له وإعلاء لقدره.

وهكذا نراه قد أوتي عقلا مدركا، وعمل على تغذيته بالتجارب والاتصال بالمجتمع ليعرف خيره وشره، ويعمل على علاج أدوائه، إن واتاه الله تعالى بفضل من عنده.

وإننا ونحن نتكلم على قوته العقلية النافذة إلى الحقائق، لا إلى الظاهر نتعرض لنفوره من التقليد من غير دليل، فهو قد نفر من عادات الجاهلية التى كانت تحرم وتحلل من غير بينة ولا علم قائم على الحقائق المقررة الثابتة. فلم نره يسجد لصنم قط، لأن حكم العقل يتقاضاه ألا يسجد لمن لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، ويكره ذكر الأصنام، وعبادتها. فيستحلفه الراهب باللات والعزى فيقول الغلام: ما كرهت شيئا كما كرهتهما.

ويختلف مع تاجر، فيستحلفه التاجر باللات والعزى، فيمتنع، فيسلم له التاجر بحقه من غير حلف لأمانته.

وأي عقل أكمل من أن يرى قومه ينحرفون عن إبراهيم فى حجه، ويذهب فرط حرصهم واعتزازهم بالبيت ألا يقفوا بعرفات فيجيء الرجل العاقل المكتمل محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام ويتعرف مناسك إبراهيم، فيقف بعرفات فى ميقاته، إن ذلك كله لا يكون إلا من رجل عاقل يعمل عقله فى هدأة من غير مجادلة، لأن المجادلة تحدث المنازعة، وحيث كانت المنازعة كان الريب، وتبددت الحقائق بين المتنازعين.

لقد علمت قريش كلها بكمال عقله، وقوة إدراكه، فرضيت به حكما، ساعة أن احتدم الجدل، وكادت السيوف تمتشق، والمعارك أن تنصب، فلما نادته القرعة أن أقدم، وافصل بين الناس بالحق، رضوا بحكمه، لأنه سيكون حكم العقل والحق، وأى شخص غير عاقل وحكيم كان يهتدى إلى الحكم الذى يرضيهم جميعا، فيشركهم جميعا فى فضل حمل الحجر الأسود إلى موضعه من غير مشاحة ولا خصومة ولا تفاضل بينهم. ويحمله هو بيده ابتداء فلا ينازعونه لفضل عقله، ثم يحمله هو واحده انتهاء ويضعه فى موضعه بيديه الكريمتين، فيرضون ما يفعل.

ولكمال عقله لم يخض مع الخائضين فى العصبية الجاهلية، فلم ينطق بها، ولم يجادل حولها، وكان يحب الوئام والسلام، ولا يحب الحرب والخصام، ولذلك لم يشارك فى حرب الفجار، إلا بتنضيل السهام عن أعمامه حماية لهم ورحمة بهم، بموجب الرحم الواصلة، لا بموجب الحرب التى أحلت فيها الحرمات والأشهر الحرم.

وإنه من المؤكد أن محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام كبح جماح هواه طول حياته قبل البعثة، فلم يفعل ما يفعله الغلمان وهو غلام، ولا ما يفعله الشبان فى باكورة شبابه ولا بعد أن صار رجلا سويا. اكتملت أخلاقه كما اكتمل جسمه، فكان القوى الذى يسيطر على أهوائه، فلا ينحرف مع هوى ولا تجمح به شهوة، وأنه إذا ضعف سلطان الهوى قوى سلطان الحق، وإذا قلت حدة الشهوة، استقام حكم العقل، فالعقل حكمه يناقض حكم الهوى والشهوة، والعاقل السيد هو الذى يسيطر على أهوائه وشهواته ويكون عقله هو المسيطر، وما تضل العقول إلا إذا داخلت النفوس الأهواء وعكرت صفاءها، فمحمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان أعقل قريش لأنه هو الذى لم يسيطر عليه هوى كسائر سادات مكة.

وقد قال القاضي عياض فى فضل عقله عليه الصلاة والسلام، واثاره فى الإسلام: “وأما وفور عقله، وذكاء لبه، وقوة حواسه، وفصاحة لسانه، واعتدال حركاته، وحسن شمائله، فلا مرية أنه كان أعقل الناس وأذكاهم، ومن تأمل تدبيره أمر بواطن الخلق وظواهرهم، وسياسة العامة والخاصة، مع عجيب شمائله، وبديع سيره، فضلا عما أفاضه من العلم وقرره من الشرع، دون تعلم سبق، ولا ممارسة تقدمت، ولا مطالعة للكتب منه، لم يمتر فى رجحان عقله، وثقوب فهمه، لأول بديهة، وهذا مما لا يحتاج إلى تقريره لتحققه.. ولقد قال وهب بن منبه: قرأت فى أحد وسبعين كتابا، فوجدت فى جميعها أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أرجح الناس عقلا، وأفضلهم رأيا. وفى رواية أخرى: فوجدت فى جميعها أن الله لم يعط جميع الناس من بدء الدنيا إلى انقضائها من العقل فى جنب عقله صلى الله تعالى عليه وسلم إلا كحبة رمل من بين رمال الدنيا (1) .

يقول ابن كثير: «معلوم لكل ذى لب أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم من أعقل خلق الله تعالي، بل أعقلهم وأكملهم على الإطلاق فى نفس الأمر (2) .

وإن مظاهر عقله بدت واضحة بعد البعثة فى سياسة رعيته، فقد كان الله يوحى إليه بالأحكام الشرعية، وما يجب من الرفق بالرعية، والأخذ على يد الظالم، وحماية الحق من الباطل، ويترك الرسول عليه الصلاة والسلام أن ينفذ الحق فى رعيته، بالمسلك الذى يسلكه مختارا، مسددا، فإن تبين خطأ نبهه سبحانه وتعالى عليه إذا كان أمرا متصلا ببيان الشريعة وأحكامها.

وإنه فى الأمر الذى تركه سبحانه وتعالى له بدا عقل النبى عليه الصلاة والسلام فى إحكام التدبير وكياسة الحكيم.

اشتد أمر النفاق والمنافقين، وكثرت أضرارهم، فطلب عمر رضى الله تعالى عنه من محمد ابن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يقتلهم، فقال عليه الصلاة والسلام «لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه» ثم اشتد النفاق، حتى هم أهل كل بيت فيه منافق أن يقتله، فقال عليه الصلاة والسلام: أين عمر، لو قتلتهم حين رأى قتلهم لأرعدت لهم أنوف هى اليوم تريد قتلهم.

فبهذا العقل الحكيم استقبل رسالة ربه، وبهذا العقل الحكيم أدار المدينة الفاضلة التى قامت على حكم الله تعالى وأمره ونهيه، ونفذت فيها النظم الاسلامية.

 بلاغته

كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قرشيا قد نشأ فى قريش، وهى أفصح اللهجات العربية، وكان يحضر أسواق مكة فى موسم الحج، ويتذوق ما ينشد فيها من شعر، وقد تفصح فى بنى سعد بهوازن، وهوازن من أفصح العرب، فالتقى فى بيانه لغة العقل والحضارة النسبية فى مكة المكرمة، وسذاجة البداوة مع حلاوة اللفظ وسهولته فى لهجة أفصح أهل البادية.

ولذلك كان النبى محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم أفصح الناس منطقا، ينطق بالحكمة وفصل الخطاب، فهو إذا أرشد كانت ألفاظه كالجوهر تنثر بين الناس من غير بهرجة، وفيها جوامع الكلم وفصل الخطاب.

وإذا تحدث فى معاملات الناس وفى سمرهم الذى لا مجون فيه كان كلامه النمير العذب يسرى فى النفوس سريان النسيم العليل، والماء العذب، ينعش القلوب، ويروى ظمأ النفوس.

وقد وصفت حديثه أم معبد بعد البعثة فقالت: «إذا صمت فعليه الوقار، وإذا تكلم سما وعلاه البهاء، حلو المنطق، فصل لا نزر ولا هذر، وكأن منطقه خرزات نظم يتحدرن» .

هذا وصف لكلام النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن بعثه الله تعالي، وهو غاية ما كان منه قبل البعثة، فحال ما قبل البعثة ابتداء، وما بعدها هو الانتهاء، وهو اصطفاء الله تعالى ليكون موضع رسالته، ومبلغ وحيه، كان يجمع بين الإيجاز والوضوح، فألفاظه قليلة، ومعانيه كثيرة من غير تعقيد ولا اعظال، بل هو السهل الذى لا توعر فيه، ترى فى كلامه عليه الصلاة والسلام جمال الألفاظ من غير تكلف، وحلاوة اللفظ من غير تحسين ولا تزيين، فهو الجمال الطبعى الذى لا طراوة فيه، ولا جفوة، ولا خشونة.

وكان فيه معانى الإلهام، وجمله الله تعالى بالصفاء، لأنه خرج من نفس صافية، وقلب مفعم بالإيمان والصدق، فكان صافيا كنفسه، خاليا من الشوائب خلو نفسه منها.

وقد وصفه الجاحظ، فقال: «الكلام الذى قل عدد حروفه، وكثر عدد معانيه، وجل عن الصفة، ونزه عن التكلف، استعمل المبسوط فى موضع البسط، والمقصور فى موضع القصر، وهجر الغريب الوحشي، ورغب عن الهجين السوقي، فلم ينطق إلا عن ميراث حكمة، ولم يتكلم إلا بكلام حف بالعصمة، وشد بالتأييد، ويسر بالتوفيق، وهذا الكلام الذى ألقى الله تعالى المحبة عليه، وغشاه بالقبول، وجمع له بين المهابة والحلاوة، وبين حسن الإلهام، وقلة عدد الكلام، وهو مع استغنائه عن إعادته، وقلة حاجة السامع إلى معاودته. لم تسقط له كلمة، ولا زلت له قدم، ولا بارت له حجة، ولم يقم له خصم، ولا أفحمه خطيب، بل يبدأ الخطب الطوال بالكلام القصير، ولا يلتمس إسكات الخصم إلا بما يعرفه الخصم، ولا يحتج إلا بالصدق، ولا يطلب الفلج إلا بالحق، ولا يستعين بالخلابة، ولا يستعمل المواربة، ولا يهمز ولا يلمز، ولا يبطئ ولا يعجل ولا يهب، ولا يحصر، ثم لم يسمع الناس بكلام قط أتم نفعا، ولا أصدق لفظا، ولا أعدل وزنا، ولا أجمل مذهبا، ولا أكرم مطلبا، ولا أحسن موقعا، ولا أسهل مخرجا، ولا أفصح فى معناه، ولا أبين عن فحواه، من كلامه صلى الله تعالى عليه وسلم» .

وإنه قد اجتمع له عليه الصلاة والسلام مع سلامة المعانى حسن اختيار الألفاظ المناسبة فى الحال المناسبة من غير أن يقرع الأسماع، بكلام له رنين، بل بكلام يدخل على القلوب فى أناة ورفق فينساب فيها انسياب النمير العذب، ويكون ثمة تناسق بين المعنى الكريم، واللفظ الجميل من غير إعنات للأفهام، ولا إرهاق للأسماع.

وكان فى منطقه حلاوة، فيخرج اللفظ من لسان واضح بين، تخرج الحروف من مخرجها، وتقع فى مواضعها، والسامع مشدوه من حلاوة الكلمة، وحلاوة اللفظ، والمعانى الأبكار، فى أسلوب لا توعر فيه، ولا تكلف. ولقد قالت عائشة رضى الله تعالى عنها فى وصف كلامه «ما كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يسرد الكلام كسردكم هذا (3) . ولكن كان يتكلم بكلام بين فصل يحفظه من جلس إليه» .

فكان كلامه صلى الله تعالى عليه وسلم يكون بأناة، غير مندفع فى القول، ولا متابع له فى استعجال، حتى إن عائشة رضى الله تعالى عنها تروى أن حديثه لو عد السامع حروفه عدا لأحصاها.

وإن ذلك هو أفصح النطق، وأبلغ الإلقاء، ذلك لأن الإمهال فى القول يجعل السامع يتذوق جمال الألفاظ، ويتأمل المعاني، ويستحفظ ما قال القائل، ويتابعه فى أفكاره من غير إعنات لنفسه، ولا ملال، وإن الملل يعترى السامع، إذا فاته تتبع المعانى، وإدراك المرامى والغايات.

 ومنطق النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان خاليا من الفأفأة والتمتمة، وكل عيوب الكلام فى صوت هاديء عميق يجمله الصدق ويدخله فى مداخل النفس، ويوجه الرشد إلى الحق، ونغمات صوته هادئه قوية فى صوت غير أجش، ولا جفوة، ولكن التقى فيه عمق النغم الفطرى بجمال الصوت، وجهارته فى غير ضجيج ولا صخب.

ولقد روى أن الحسن بن على أحد السبطين الكريمين قد سأل هند بن أبى هالة ربيب النبى عليه الصلاة والسلام من خديجة أم المؤمنين، وكان هند رجلا وصافا، سأله حب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: قلت صف لى منطقه، قال: «كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، متواصل الأحزان، دائم الفكر ليس له راحة، ولا يتكلم فى غير حاجة، طويل السكوت، يفتتح الكلام ويختتمه بأشداقه (4) . ويتكلم بجوامع الكلم، فضلا، لا فضول فيه، ولا تقصير، دمثا ليس بالجافى ولا المهين. يعظم النعمة وإن دقت، لا يذم شيئا، لم يكن يذم، ولا يمدحه، ولا يقام لغضبه إذا تعرض أحد للحق بشىء حتى ينتصر له، إذا أشار فبكفه كلها، وإذا تعجب قلبها، وإذا تحدث اتصل بها فضرب بإبهامه اليمنى راحته اليسري، وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه، جل ضحكه التبسم، ويفتر عن مثل حب الغمام» .

وإنه مهما يقل الرواة فى بلاغة كلمه، وفصاحة لفظه وجمال نطقه، لا نصل إلى حقيقة بلاغته، فإن المأثور الذى نقرؤه، نجد فيه العلم المجتمع، والعبارات التى يستطيبها كل مستمع، يجد فيها نفاذ الإلهام، وتناسق الألفاظ، وترى فيه الحكم، وحسن المأخذ، والجمع بين الأطراف فى لين ويسر، فلا لفظ جاف، ولا معنى مستخف بل كل الكلام فى معناه وخواطره، وماخذه، يدخل إلى القلوب، فيجد مساكنه، وإن المستشهد بقوله يردده أمام العامة، فليقفونه، وأمام الخاصة فيهضمونه، يفهمه كل إنسان مهما تكن طاقته، لا يتخير غريبا لغرابته ولا لفظا لحلاوته، ولكن كل ذلك يجىء فى رفق، بل هى السليقة الكاملة تنطق، والفصاحة الفطرية تتكلم، وليس ذلك قولنا للمحبة فقط، ولكن للحقيقة وحق علينا أن نقول مقالة الجاحظ بعد وصف كلامه، وخشى على نفسه أن يقال أنه انبعث من المحبة، فقد قال: ولعل من لم يتسع فى العلم، ولم يعرف مقادير الكلام يظن أننا تكلفنا له من الامتداح والتشريف ومن التزيين والتجويد ما ليس عنده، ولا يبلغه قدره، كلا والذى حرم التزيد عند العلماء، وقبح التكلف عند الحكماء، وبهرج الكذابين عند الفقهاء، لا يظن هذا إلا من ظل سعيه.

كبرت كلمة من يقول أننا تجاوزنا الحد فى وصفنا لبلاغة خطاب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وكمال تحديثه، وبلوغه من البيان الإنسانى أعلى مراتبه الذى لا يبلغ شأوه أحد، بل هو الحق الذى لا امتراء فيه، إننا لم تتجاوز الحد، ولكن لم نبلغه ولم نصل إليه.

وأنه من الحق علينا أن ننقل إلى القارئ ما قاله القاضى عياض فى وصف فصاحة محمد عليه الصلاة والسلام وبلاغته، فقد قال رضى الله تعالى عنه: «وأما فصاحة اللسان وبلاغة القول، فقد كان صلى الله تعالى عليه وسلم من ذلك بالمحل الأفضل، والموضع الذى لا يجهل، سلامة طبع، وبراعة منزع، وإيجاز مقطع، ونصاعة لفظ، وجزالة قول، وصحة معان، وقلة تكلف، أوتى جوامع الكلم، وخص ببدائع الحكم، وعلم ألسنة العرب، فكان يخاطب كل أمة بلسانها، ويحاورها بلغتها، ويباريها فى منزع بلاغتها، حتى كان كثير من أصحابه يسألونه فى موطن عن شرح كلامه وتفسير قوله … ومن تأمل حديثه وسيره علم ذلك وتحققه، وليس مع قريش والأنصار وأهل الحجاز، ونجد كلامه مع وطيفة الهندى وقطن بن حارثة العليمى والأشعث بن قيس، ووائل بن حجر الكندى وغيرهم من أقيال حمير، وملوك اليمن» (5) .

وإن هذا يدل على أنه عليه الصلاة والسلام كان يعلم كل لهجات العرب، وقد أتاه ذلك من إقامته بمكة المكرمة التى كان يلتقى فيها بقبائل العرب، فى موسم الحج، مع حرص على تعرفها، وذكاء

مدرك لها، وتحصيل واع لكل ما يسمع، وحفظ لكل ما يجرى حوله. ولقد ذكر بعض الرواة أنه كان يعرف ألفاظا كثيرة من الفارسية، والرومانية، وإن لذلك شاهدا من كتبه للرومان، فقد جاء فى ذلك الكتاب:أسلم تسلم، وإلا فعليك إثم البريسيين» ، وهذا لفظ رومانى استعمل فى معناه الدقيق، وهم العامة والزراع وغيرهم من الدهماء.

وإن تعلمه لهجات العرب وفوارق لغاتهم يدل على أن الله تعالى كان يعده لهذه الرسالة الإلهية العامة، ولقد ساق القاضى عياض شواهد من كتبه عليه الصلاة والسلام إلى همذان، ووائل بن حجر، ووازنها بكلام قريش فى الصدقات.

ثم يقول القاضي عياض فى الشفاء: «وأما كلامه المعتاد وفصاحته المعلومة، وحكمه المأثورة، فقد ألفت فيها الكتب، ومنها ما لا يوازى فصاحة، ولا يبارى بلاغة كقوله: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم» ، وقوله: «الناس كأسنان المشط» . «والمرء مع من أحب» . «ولا خير فى صحبة من لا يرى لك ما ترى له» ، «الناس معادن» «وما هلك امرؤ عرف قدره» . «والمستشار مؤتمن» .. «. وقوله: «ولعله كان لا يتكلم بما لا يعنيه، ولا يبخل بما لا يغنيه» وقوله: «ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيها» ، ونهيه عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال، ومنع وهات، وعقوق الأمهات، ووأد البنات» وقوله: «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن» ، و «خير الأمور أوسطها» ، وقوله: «أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما» وقوله: «الظلم ظلمات يوم القيامة» ، وقوله فى بعض دعائه: «اللهم إنى أسألك رحمة من عندك تهدى بها قلبى وتجمع بها أمرى، وتلم بها شعثى، وتصلح بها غائبي، وترفع بها شاهدى، وتزكى بها عملي، وتلهمنى بها رشدي، وترد بها ألفتي، وتعصمنى بها من كل سوء، اللهم إنى أسألك الفوز عند القضاء، ونزل الشهداء، وعيش السعداء، والنصر على الأعداء» . هذا ما روته الكافة عن الكافة من مقاماته ومحاضراته، وخطبه، وأدعيته ومخاطباته» (6)  .

ولقد ذكر من بعد ذلك القاضى عياض عهوده عليه الصلاة والسلام التى كان يعاهد بها القبائل، والهدنات التى يهادن بها، فإنها بلغت من إحكام المواثيق، ودقة الشروط ما لا يصل إليها تحرير كاتب، ولا توثيق معاقد، فإنها بلغت مرتبة لا يقاس عليها، ولا تحاكي، وسبق فيها سبقا بعيدا لا يقدر قدره.

ذكر أن لمحمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام عبارات لم يسبق بها، فقال رضى الله تعالى عنه: وقد جمعت من كلماته التى لم يسبق إليها، ولا قدر أحد أن يفرغ فى قالبه عليها، كقوله: حمى الوطيس، ومات حتف أنفه، ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، السعيد من وعظ بغيره» (7) .

وهكذا يثبت القاضى عياض فصاحة الكلم النبوي، والبلاغة المحمدية، بما ساق من عبارات جامعة، ومعان رائعة، وألفاظ ينبثق منها النور، وتضبط بها حقائق هذا الوجود.

وإننا إن تركنا أقوال الذين شاهدوا وعاينوا من صحابته والذين رووا المنقول فى سيرته، وعمدنا إلى الأحاديث المدونة الصادقة النسبة، والتى رواها العدول طبقة بعد طبقة، وأردنا أن نتعرف نسق بيانه من عباراتها، ومحكم معانيها من ألفاظها، لو جدنا من بعض ما يتبين فى ذلك النسق:

  • أن اللفظ يجيء سهلا، نجد فيه الجمال الطبعي، نجد الألفاظ متناسقة يأخذ بعضها بحجز بعض، مع الإيجاز، وإحكام المعني، والاتجاه إلى مقصد القول، وتصوره، أحيانا بالحقيقة، ويكون لها جمال كجمال الطبيعة، اقرأ إن شئت قوله عليه الصلاة والسلام، فى الدعوة إلى القناعة، والرضا بالقليل، وعدم اللجاجة التى تؤذى. «ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس» وقوله فى الدعوة إلى ضبط النفس: «ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب» وهكذا التعبير السهل العميق فى معناه يسرى فى كلام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى كل توجيهاته، ولذلك سرعان ما تحفظ، فهو كلام يقال ليحفظ.

  • وإن من خصائص البلاغة النبوية أنها لا تعلو على العقول الفطرية، فهى تدركها فى أيسر كلفة مع جلال المعنى وعمقه وقوة نفوذه فى النفوس، والخاصة يجدون فيه علم ما لم يعلموا، انظر إلى قوله عليه الصلاة والسلام فى بيان واحدة الأمة الإسلامية وما ينبغى لتعاونها: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» وقوله: «مثل المؤمنين فى توادهم وتراحمهم، كمثل الجسد إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» واقرأ قوله عليه الصلاة والسلام فى المعاهدات التى تعهد والنفوس على أحقادها ولا تستل منها سخائمها: «هدنة على دخن» فإن كل إنسان يفهم أن القلوب فاسدة، وأن الصلح الظاهرى لا يصيب الأحقاد التى طويت عليها القلوب. ومثل قوله عليه الصلاة والسلام فى فضل العمل، وأن يكفى كل إنسان مئونة نفسه، ويستعد لمعونة غيره للاستعانة به «اليد العليا خير من اليد السفلى» وقوله فى الأمر لا يختلف فيه «ولا ينطح فيه عنزان» وقوله عليه الصلاة والسلام فى توزيع خيرات الله تعالى فى أرض الله، كل أرض بحصتها من الرزق: «كل أرض بسمائها» وقوله فى الرفق بالنساء وقد سار السائق يسوق رحالهن بعنف: «رويدك رفقا بالقوارير» . وإن هذه التعابير جلها جديد فى العربية لم يسبق بها فى قول قائل، وهى واضحة المعنى بينة المقصد، لا تعلو على العامة، ولا تجفو عنها اذان الخاصة، بل كل الناس يجد فيها علما لم يكونوا به عالمين.

  • أن كلامه عليه الصلاة والسلام من جوامع الكلم، فيه حكمة، وفيه ألفاظ قليلة ومعان جديدة لم تكن معروفة. انظر إلى قوله عليه الصلاة والسلام، وقد سئل: أنحاسب على ما تنطق به ألسنتنا. فقد قال عليه الصلاة والسلام مجيبا، «وهل يكب الناس على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم» وقوله فى صلة الرحم عند المنابذة والقطيعة: «ليس الواصل بالمكافيء، إنما الواصل من يصل رحمه عند القطيعة» ، ومثل قوله: «رحم الله عبدا قال فغنم أو سكت فسلم» .

  • وإنه من الظواهر العامة فى كلامه عليه الصلاة والسلام أنه يخاطب العقل والوجدان من غير استكراه للألفاظ أو تكلف فى المعاني، بل كل ذلك يجرى سهلا طيبا قيما. فيه إرشاد وتوجيه، اقرأ قوله عليه الصلاة والسلام يدعو المؤمنين إلى أن يكونوا إيجابيين فى أقوالهم وأفعالهم، لا يتبعون من غير تفكير: «لا يكن أحدكم إمعة يقول إن أحسن الناس أحسنت وإن أساؤا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس تحسنوا، وإن أساؤا فتجنبوا الإساءة» .

  • خلو كلامه عليه الصلاة والسلام من الصناعة البديعية، فهو بديع فى ذاته من غير صناعة، وقد يجيء أحيانا فى كلام الرسول بعض السجع، ولكنه سجع غير مقصود، بل هو من إحكام القول، فمثلا قوله عليه الصلاة والسلام: «رحم الله عبدا قال فغنم أو سكت فسلم» لا شك أن فيه سجعا، أو ما يقرب منه، ولكن التكلف غير موجود، وإن كل لفظ منه موضوع فى معناه، لو أردت أن تغيره ما طاوعك المعني، فهل يمكن تغيير كلمة غنم مع ما فيها من ثروة فى المعانى بغيرها يؤدى مؤداها، ويكون فى إيجازها، ونسقها، وكذلك الأمر إذا أردت استبدال سلم مع ما يرمى إليه من سلامة العرض واللسان عن لغوه، وتوفير العقل، والابتعاد عن لجاجة القول، فهو عليه الصلاة والسلام، لا يقول إلا حكما، ولا ينطق إلا فصلا، وتلك غاية قوله، فإن كانت حلية، فهى الحلية التى لا تكلف فيها، ولا استكراه فى نسقها، أو محاولة الصناعة التى تغطى الكلام الفطري، وتغشاه بغواش من ضجيج الأوزان. وإن الجمال الفطري فى القول، والحسن اللفظي من غير تحسين، بل السجع الذى يكون كسجع الحمام. يأتى من غير إعمال ولا قصد إليه، حتى فى بيان الحقائق الشرعية، ودقيق المعانى الفقهية، ففى بيان الشروط الباطلة المقترنة بالعقود، وأساس البطلان فيها، يقول عليه الصلاة والسلام «ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست فى كتاب الله. ما كان من شرط ليس فى كتاب الله تعالى فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله حق، وشرط الله تعالى أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق» . ألا ترى أنه كلام جميل جاء فى نسق محكم، والحسن فيه باد من غير تحسين، والجمال فيه بارز من غير تجميل، وهو مع كل هذا فقه عميق، يدرك مغزاه الفقهاء، ويعرف معناه من لم يبلغوا فى الفقه شأوا. وإنه لواضح كل الوضوح أنه جاء عفو الخاطر، ولم يكن بإجهاد فكر، وتجميع ألفاظ وتنسيق كلمات، إنما كان المعنى الجيد القاصد فى اللفظ المحكم المصور الواضح.

  • وإنه أحيانا يجيء كلامه القصصى الذى يحكى قصة فى أسلوب تصويري، تنطق فيه حقائق القصة وأبواب العبرة فى كلام مرسل سهل، يمكن القارىء أو السامع من أن يصل إلى غايتها، ويدرك معانى هدفها الصادق من غير إسراف فى اللفظ، ولا نقص فى الأداء، ولكن وفاء وكمال فى غير حشو، ولا لغو، وإليك قصة أصحاب الغار، كما روى البخارى وغيره: «بينما ثلاثة نفر يمشون فأخذهم المطر، فاووا إلى غار فى جبل، فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل، فانطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالا عملتموها صالحة لله، فادعوا الله تعالى بها لعل الله يفرجها عنكم، فقال أحدهم. اللهم إنه كان لى والدان شيخان كبيران، وامرأتي، ولى صبية صغار أرعى عليهم، فإذا رحت عليهم حلبت فبدأت بوالدىّ فسقيتهما قبل بني، وإنه نأى بى ذات يوم الشجر، فلم ات حتى أمسيت فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحلب فجئت بالحلاب، فقمت عند رؤسهما، أكره أن أوقظهما من نومهما، وأكره أن أسقى الصبية قبلهما والصبية يتضاغون عند قدمى، فلم يزل ذلك دأبى ودأبهم حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أنى فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج لنا منها فرجة نرى منها السماء. ففرج الله منها فرجة، فرأوا منها السماء. وقال الاخر اللهم إنه كانت لى ابنة عم أحببتها كأشد ما يحب الرجال النساء، وطلبتها فأبت، حتى اتيها بمائة دينار فتعبت حتى جمعت لها مائة دينار فجئتها بها، فلما وقعت بين رجليها قالت يا عبد الله اتق الله، ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقمت عنها، فإن كنت تعلم أنى فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج لنا منها فرجة، ففرج لهم.
  • وقال الثالث: اللهم إنى كنت استأجرت أجيرا بفرق أرز (8) ، فلما قضى قال أعطنى حقي، فعرضت عليه فرقه، فرغب عنه، فلم أزل أزرعه، حتى جمعت منه بقرا ورعاءها، فقال: اتق الله تعالي، ولا تظلمنى حقى. قلت: اذهب إلى تلك البقر ورعائها، فخذها، فقال: أتهزأ بي، اتق الله ولا تستهزىء بى فقلت انى لا أستهزيء بك خذ ذلك البقر ورعاءها، فأخذه فذهب. فإن كنت تعلم أنى فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فرج لنا ما بقي، ففرج الله ما بقي.

وإننا نقف عند القصة الصادقة، فإنا نجد العبارات السهلة المستقيمة، وبجوارها التصوير للأفعال التى تنبعث من القلوب، ويقصد بها فاعلها وجه الله تعالي، والحديث واضح فيه مع صدق القصة العبر والمعانى التى ذكرها الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ومنها يبرز:

أولا: أن الأعمال بالنيات، وأن الله تعالى لا يقبل إلا الطيب من الأعمال، ولا يكون العمل طيبا إلا إذا قصد به وجه الله، وابتغاء ما عنده لا يريد جاها، ولا شرفا ولا مالا، إنما يريد الله تعالى، كما قال عليه الصلاة والسلام: «لا يؤمن أحدكم، حتى يحب الشئ، لا يحبه إلا الله» .

وثانيا: أن قدر الله تعالى يسير على نظام محكم فى عمله، وبحكمة بالغة يقدرها، وأنه سبحانه وتعالى ينزل الفرج، لمن يتجه إليه، وأنه يجيب دعوة المكروب، لخير قدمه، ولإخلاص قلبه، وابتغاء ما عند ربه، كما قال سبحانه وتعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ } (9)

ويدل ثالثا: على أن الله سبحانه وتعالى يجازى المؤمن بالفعال التى يتجه فيها إلى العمل الإيجابى الذى ينفع الناس، وخصوصا الأقربين، كما رأيت فى الخبر الذى قدمه الرجل الأول، من إحسان إلى أبويه، وتقديمهما على أولاده الصبية الصغار، وتركهم يتضاغون، ولا يزعج أبويه، وأن ذلك الإيثار لأن الأولاد قطعة منه فتقديمهم تقديم لنفسه، فتقديمهم أثرة، وتقديم أبويه إيثار، فهو ممن ينطبق عليه قول الله تعالى { وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ } (10) .

ويدل رابعا: على أن الكف عن الشر بعد أن تتوافر دواعيه وتهجم أسبابه هو من الأعمال الإيجابية التى يثاب عليها المرء، فالفضيلة إيجابية، وليست سلبية.

ويدل خامسا: على أن الوفاء بالحق فضيلة الإسلام، وأنه ليس بقريب من الله من أكل حقوق غيره، وأقرب الناس من أعطى كل ذى حق حقه، وتدل القصة فى ضمن ذلك على أن أجر العامل يجب أن يوفي، وأن يعطى العامل أجره قبل أن يجف عرقه، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا.

  • هذا وإن إحكام القول ليبلغ فى الأخلاق والمعاهدات التى عقدها النبى عليه الصلاة والسلام أعلى البلاغة، فهو يعقد المعاهدات، لا يترك فيها حقا إلا سجله فى عبارات واضحة مانعة من الجهالة التى تفضى إلى نزاع فى فهمها، ولا يترك فيها واجبا عليه إلا دونه فى عبارات صريحة لا التواء فيها ولا تحيف، بل هى صريحة كاملة الشروط، لأن مقاطع الحقوق عند الشروط.

ولو أن ساسة هذا العصر درسوا مخلصين وثائق المعاهدات التى أملاها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وأرادوا متجهين إلى الحق أن يحرروا معاهدات خالصة لوجه الحق، لا يجدون ثروة يأخذون منها إلا معاهدات النبى الأمى، وسيكون لذلك فضل من الكلام عند التعرض لسياسته إن شاء الله سبحانه وتعالى.

الخلق الكامل

  • الرفق :قال الله سبحانه وتعالي لنبيه الكريم: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ولقد قال صلي الله تعالي عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد في مسنده: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» ولقد قال عليه الصلاة والسلام: «أدبنى ربى فأحسن تأديبى» .

وكمال الخلق لفظ قصير يتناول في معناه كثيرا، فهو يشمل حب الفضيلة والتمسك بها والقيام بحقها، ويشمل حسن العشرة ولطف المودة، ويشمل صلة الرحم والإحسان إلي الجار القريب والبعيد، ويشمل حب الناس والرفق بهم، ويشمل التواضع، وتوطئة الكنف لهم، ويشمل البشر، ولقاء الناس به، ويشمل الأناة والحلم، ومنع الجفوة، ويشمل كظم النفس واجتناب الغيظ، ويشمل الحياء وإقراء السلام علي من عرف ومن لم يعرف، ويشمل الجود بما عنده، والزهد فيما ليس عنده، ويمنع الغلظ والفظاظة، ويشمل العفو عن المسىء، وإقالة عثرته، ويشمل الرد علي المسيء بالإحسان، ويشمل تخليص القلب من الإحن، ويشمل الإعراض عن الجاهلية، وترك المهاترة، والمماراة والمجادلة، ويشمل التيسير، وترك التعسير، والتبشير، دون التنفير.

وفى الجملة الخلق الحسن يشمل تهذيب النفس، وتربية الوجدان، والتالف مع الناس، والقرب إليهم، وتوطيء الكنف لهم، والتواضع، والرفق بالضعفاء، والقرب منهم، والألم لالامهم، والسرور لسرورهم، والاندماج فيهم من غير تأثم، ولا تجانف لإثم.

وإن الخلق الحسن يؤثر فى الدعوة إلى الحق، بما لا يؤثر البرهان وضروب الأقيسة.

وإنه من أوصاف النبوة، ولقد قال الله تعالى فى ثمرات الخلق المحمدى فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ، وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ، فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ، فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (11) .

  • العفو: ولقد هيأ الله تعالى محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم ليكون الهادى إلى الحق، وإلى صراط مستقيم، فوهبه الخلق الكامل، الذى يؤلف القلوب، ويجمع النفوس، إلا من طغى واستكبر، واثر الهوى على الحق، وكان قبل البعثة يحب العشير، ويقرب الصديق، ولا يعنت أحدا بعداوة، بل كان الملاك الطاهر بينهم، يعف عن قول الخنا وفعله، ويبتعد عن الهوى وجموحه، لا يعادى، ولا يصخب، ولا يفحش فى قول أو عمل، وهو الصادق، وهو الأمين، وهو الذى يعين الكل، ويغيث الضعيف، ويعين على نوائب الدهر، يعفو عمن ظلمه إلا أن يكون فى ذلك انتهاك لحرمة من حرمات الله، أو اعتداء على فضيلة.

واذا كان المسيح عيسى بن مريم قد كان خلقه السماحة يعفو عن المسيء كذلك خلق النبيين عامة، وخلق محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم خاصة، وكان ذلك إيجابيا، وليس سلبيا، يفعل الخير ويجتنب الشر، وكان التاجر السمح الصبور، حتى إنه يروى بعض القرشيين أنه بايع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بياعة قبل البعثة، وبقى شيء لم يأخذه من محمد، فانتظره النبى عليه الصلاة والسلام ثلاث ليال، وكان يذهب فيقيم فى مكانه الذى غادره فيه، حتى لا يضل فلا يهتدى إليه، فيضيع حقه الثابت له.

ولقد امتدت هذه الأخلاق إلى ما بعد النبوة، فكانت دعامة الدعوة، فسار بسنة العفو عن الإساءة، والإعراض عن الجاهلية استجابة لقوله سبحانه وتعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (12) ، وقد كان ذلك الخلق يجذب الناس إلى الايمان من غير دليل ولا برهان، وإن كان الحق واضحا فى ذاته، وزاده وضوحا خلق النبى الكريم صلى الله تعالى عليه وسلم، ولنذكر واقعة كان العفو فيها داعية الإسلام.

تصدى غورث بن الحارث ليفتك برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو نائم تحت شجرة قائلا، والناس قائلون، فلم ينتبه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلا وهو قائم، والسيف مصلت على رأسه فى يد الرجل، وهو يقول: من يمنعك منى؟. فقال عليه الصلاة والسلام بقلب مؤمن ولسان صادق: «الله» ، فسقط السيف من يد الرجل. فأخذه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وقال: «من يمنعك منى» ، قال: كن خير اخذ، فتركه وعفا عنه. فدنا قلب الرجل بعد نفور، وصار داعية لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن كان يريد قتله، فقد ذهب الرجل إلى قومه يحببهم فى محمد عليه الصلاة والسلام ودينه، يقول: «جئتكم من عند خير الناس» . ولقد قال فى مجمل أقواله هند بن أبى هالة، وهو ابن أم المؤمنين خديجة من غير النبي.

كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «يخزن لسانه. إلا بما يعنيهم ويؤلفهم ولا ينفرهم، ويكرم كريم كل قوم، ويوليه عليهم، ويحذر الناس، ويحترس منهم، من غير أن يطوى عن أحد منهم بشره، ويتفقد أصحابه، ويسأل الناس عما فى الناس، وبحسن الحسن ويقويه، ويقبح القبح ويوهيه، معتدل الأمر غير مختلف، لا يغافل مخافة أن يغافلوا أو يميلوا، لكل حال عنده عتاد، لا يقصر عن الحق، ولا يجوزه، الذين يلونه من الناس خيارهم، أفضلهم عنده أعمهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة (13) .

وقال هند هذا فى مجلسه: كان إذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهى به المجلس، ويأمر بذلك، ويعطى كل جلسائه نصيبه، لا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه، من جالسه، أو قاوله فى حاجة، صابره، حتى يكون هو المنصرف. ومن سأله حاجة لم يرد إلا بها أو بميسور القول، وقد وسع الناس بسطه وخلقه، وصاروا عنده فى الحق سواء.

مجلسه مجلس حكم وحياء وصبر وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبن فيه الحرم، ولا تغشى فيه فلتاته، متعادلين يتفاضلون بالتقوى، متواضعين يوقرون فيه الكبير، ويرحمون الصغير، يؤثرون ذا الحاجة، ويحفظون الغريب (14) .

ويقول: «كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، دائم البشر سهل الخلق لين الجانب ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب ولا فحاش ولا عياب ولا ممزاح، يتغافل عما لا نشتهى، ولا يوئس منه راجيه، ولا يخيب فيه. قد ترك نفسه من ثلاث: المراء والإكثار وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحدا، ولا يعيره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثواب، إذا تكلم أطرق جلساؤه، كأنما على رؤوسهم الطير، فإذا سكت تكلموا ولا يتنازعون عنده، يضحك مما يضحكون منه، ويتعجب مما يتعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة فى منطقه ومسألته، حتى أن أصحابه يستحلمونه فى المنطق (15) . إذا رأيتم طالب حاجة فارفدوه، ولا يقبل الثناء إلا من مكافيء، ولا يقطع على أحد حديثه، حتى يجوز، فيقطعه بانتهاء أو قيام.. ويقول: كان سكوته على أربع: الحلم، والحذر، والتقدير، والتفكر. فأما تقديره، ففى تسويته النظر والاستماع بين الناس، وأما تفكره، ففيما يبقى ويفنى، وجمع له الحلم والصبر، فكان لا يغضبه شىء ولا يستفزه.

  • أخلاقه خارقة للعادة: ولنقف وقفة فى تجزئة ذلك القول البليغ، ودلالته على ما وراءه مما ينبغى أن تكون عليه أخلاق الداعى إلى الحق، وصاحب الرسالة التى حمله الله تعالى إياها، وأثر هذه فى الإجابة.

لقد قال بعض الكتاب معددا الخوارق التى صاحبت الدعوة المحمدية، قال إن من أعظم الخوارق التى كانت لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم أخلاقه، فكانت فى ذاتها أمرا خارقا للعادة بين بنى الإنسان، فهى أعلى من أخلاق الملائكة، لأن الملائكة حسنت أخلاقهم بمقتضى كونهم: «لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون» (16) وليس فيه روحانية عيسى عليه السلام المجردة بل كانت فيه الروحانية الإنسانية، بما فى الإنسان من مطالب الجسم، وتجرد الروح، فمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم بين الناس الإنسان الذى تتجلى فيه الإنسانية الكاملة، وفى طبعه روحانية إرادية، فكل ما فيه من أخلاق للتربية والإرادة دخل فى تكوينه، فهو ليس حصورا، ولكنه عفيف لم يتدل إلى خنا قط، ففضيلته كف الشر، وتجنب له، والعفة من حصور، ليست كالعفة ممن له شهوات تغالبه، وأهواء تعانده، وبمعركة بين القوتين تكون النصرة للعفة، والغلب للفضيلة، وما يكون الوصول إليه بغلاب يكون أعلى وأنفس، مما يجيء رخيصا سهلا.

وإن من أول صفات محمد بن عبد الله الذى ذكره ربيبه هند، أنه يخزن لسانه، أى يكون لسانه كأنه فى خزانة قد ستر لا يظهر إلا لخير يرتجيه. فلا يشجع على نفرة، بل إنه لا ينطق إلا فيما يعنى الذين يخاطبهم، ويفيدهم، ويكون فيه تأليف لقلوبهم وتقريب لنفوسهم، وتأنيس غريبهم، ويأمر بإعطاء ذى الحق، ولا يتكلم فى مراء، ولا يذم أحدا ولا يكثر فى قول، خشية سقط اللسان، لا يعيب الحرمات، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يشبع نهمة القول، فإذا تكلم هو كان كلامه فصلا، وكان قوله حكما.

وجملة القول فى ذلك أنه قد استولى على لسانه، فلا يتكلم إلا اذا لزم الكلام لرفع حق، أو خفض باطل، أو تأليف، أو زرع مودة، أو إسداء معروف، فلسانه ليس خارجا على إرادته، ولكنه مكملها، ويسير تحت سلطانها وإرادته للحق.

والصفة الثانية من أخلاقه أنه يتألف مع أصحابه، ويمتزج إحساسه الفاضل بإحساسهم لينساب إلى نفوسهم ويكرم كريمهم، ويرفع خسيسة صغيرهم، حتى يحس بأنه منه، ويوزع محبته بينهم، ويعطى نفسه لكل واحد منهم حتى أنه يظن كل واحد منهم أنه موضع الرعاية منه، وإذا رأى أمرا حسنا أعلن حسنه، وإن رأى قبيحا نبه إليه فى رفق الهادى الأمين الذى يؤلف، ولا ينفر، ويقرب، ولا يبعد، لا يسكت عن باطل. وهو بينهم اليقظ الذى لا يغافل مخافة أن يغافلوا أو يميلوا، لا يطوى نفسه لأحد على شر، وينقذهم، وكان حريصا يحذر من يتوهم منه شرا، ويحترس منه من غير تقطيب وجه، أو غلظة فى قول، بل هو فى كل أحواله الأليف المألوف. يقتح قلبه لهم، ليقول خيارهم ما تنطوى عليه نفوسهم، ويستحيى غيرهم من أن يظهر خبيئة نفسه، بل يبقى حبيسا لا يظهر، وربما خبا فيزول، ويستقيم أمره، فإن بعد الرذيلة عن النور والماء يذبلها، بل يذهبها.

والصفة الثالثة التواضع الكريم الذى لا ضعة فيه ولا ذلة، فهو إذا دخل على جماعة جلس حيث ينتهى المجلس وحث أصحابه على ذلك، ويتطامن لهم فى المجلس؛ ويمسهم بجناح الرحمة، ويسوى بينهم، وبشره مستمر، يلين جانبه لهم، ويغض الطرف عما لا يحسن إلا أن يكون فى السكوت ترك لواجب الإرشاد. وإن أرشد ففى رفق يكتفى بالإشارة. فإن لم يكف كان التعرض، فإن لم يكف كان التنبيه فى تعميم، فإذا رأى بعض الناس يسيء لا يواجهه بالإساءة، بل يقول: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا، ولا شك أنه إذا كان التوبيخ فيه معنى العموم كان ألطف، وكان مع ذلك أفعل، وأبلغ أثرا.

ولا يمزح إلا قليلا، وإن مزح فبعبارة فيها حكمة، ولا تخلو من بيان كقوله لعمته صفية: «لا يدخل الجنة عجوز» فبكت، فقال عليه الصلاة والسلام، تكنّ «كواعب أترابا» ألا ترى فى هذا مداعبة لطيفة تخبر عن حال من أحوال الاخرة.

الصفة الرابعة بعده عن الغلظة والجفوة، ليس بفظ ولا غليظ، ولا عياب، ولا متتبع العورات ولا صخاب ولا فحاش فى القول، وإن كان صادقا فإن النطق بهجر القول، ولو كان وصفا صادقا لمن يرمى به فإنه لا يصح النطق به إلا إذا ترتب عليه ضياع حق أو نصرة باطل، فإنه يذكر موضوعه، ومن غير تخير للفاحش.

الصفة الخامسة: الامتناع عن الذم امتناعا مطلقا، إلا أن يضطره الحق اضطرارا، فإنه يتكلم بالكناية، ولا يرضى للعبارة سترا، وإبعادا عن الفحش فلا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، وما يجلب خيرا للناس.

والصفة السادسة: التى يدل عليها هذا الكلام من ذكر أخلاقه، أنه عليه الصلاة والسلام كان يلتزم السكوت كما أشرنا، ولكن ليس سكوت العيىّ الحصر، بل سكوت من يفكر فى القول قبل أن ينطق، ومن يحذر من أن يشيع عنه ما لا يليق بمثله، وهو يقدر، وقد يكون سكوته حلما وعقلا وإغضاء وعفوا عمن يكون فى قوله سوء.

والصفة السابعة: أنه لا يغضب لشيء يتصل بذاته، ولا يستفزه شيء يتعلق به، بل لا يغضب إلا لله أن تنتهك حرماته، فإذا كان ذلك لا يسكت حتى يقام حد الله.

هذا ما وصفه به هند بن أبى هالة، وقد كان رجلا وصافا للرجال، لا تفوته اللمحات، ولا تخفى عليه النظرات، وتنكشف دخائل النفوس من العبارات، وقد لخصنا لك بعض ما تنبئ عنه الكلمات.

ولننقل بعضا من قول من عاشروه وخالطوه، لتعرف كيف كان عشيرا، وفيا، وذا خلق هنيء، لا جفوة، ولا جفاء.

لقد روى عروة بن الزبير عن خالته أم المؤمنين عائشة، وهى التى عاشرته، وهو يحمل أعباء الإنسانية كلها ويخوض الحروب ويتنقل بين ميادينها- أنها قالت فى أخلاق محمد صلى الله تعالى عليه وسلم: «ما ضرب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بيده خادما قط، ولا امرأة، ولا ضرب بيده شيئا إلا أن يكون إثما، ولا انتقم لنفسه من شىء يؤتى إليه، حتى تنتهك حرمات الله، فينتقم لله عز وجل» .

ولقد وصف أبو هريرة صاحبه، فقال: كان يقبل جميعا، ويدبر جميعا، بأبى وأمى، لم يكن فاحشا ولا متفحشا، ولا صخابا فى الأسواق.

وإن هذا الوصف لذلك الصحابى الجليل، ينبيء عما كان عليه الصلاة والسلام من معاملة للناس، وقد وصفه فى هذا بثلاث صفات:

الصفة الأولى: أنه فى لقائه يقبل بنفسه كلها على من يلقاه، فلا يلقاه لقاء جانبيا أو يكلمه بطرف من لسانه، أو يستقبل استقبال المستهين، بل هو واضح فى إقباله، كما هو واضح فى إدباره، فإن تركه لا يتركه إلا بعد أن يتم حديثه، وعندئذ يتركه، فلا يبقى حديثا لم يستمع إليه، ولم يستمع إليه وهو يولى مدبرا.

والصفة الثانية– أنه لم يكن يجبه الناس بفحش، أو بخروج القول عن جادته، وقد أشرنا إلى هذا فى وصف ربيبه هند بن أبى هالة.

الصفة الثالثة– أنه لا يصخب، ولا يغاضب، ولا يجادل فى الأسواق، بل كان كل شيء فيه على سمت حسن وجلال.

وقد أشرنا إلى أنه عليه الصلاة والسلام كان كما يستفاد من وصف ربيبه له متواضعا أبلغ ما يكون التواضع، ولقد خير عليه الصلاة والسلام بين أن يكون نبيا ملكا، أو نبيا عبدا، فاختار أن يكون نبيا عبدا.

هذا هو النبى صلّى الله عليه وسلّم الذى بعثه الله تعالى رحمة للعالمين، وقد بعثه فى قوم شمس، فيهم عنجهية جاهلية وغطرسة نسبية، يخير نبيهم المبعوث لهم بين جبروت الملك، ورق العبد، فيختار رق العبد، لأنه يريد أن يقرب من النفوس، لا أن يعلو عليها، فالرشاد يجيء من القريب منهم، ويبتعد عمن يستعالى عليهم.

روى أبو أمامة رضى الله تعالى عنه قال: «خرج علينا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم متوكئا على عصا، فقمنا له، فقال: لا تقوموا كما يقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضا، وقال: إنما أنا عبد اكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد».

وقد جاء فى كتاب الشفاء للقاضى عياض: وفى حديث عمر رضى الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «لا تطرونى كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله» . وعن أنس رضى الله عنه أن امرأة كان فى عقلها شيء، جاءته، فقالت: إن لى إليك حاجة. قال «اجلسى يا أم فلان فى أى طرق المدينة شئت أجلس إليك، حتى أقضى حاجتك» (17) .

ولقد كان رسول الله عليه الصلاة والسلام فى أهله موطأ الكنف، يعين أهله فى مهنة البيت، ولا يستنكف، يغسل ثوبه ويحلب شاته، ويرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويخدم نفسه، ويعقل البعير، ويعلف ناضحه، وبأكل مع الخادم، ويحمل بضاعته.

وكانت الأمة من إماء المدينة إذا احتاجت إلى من يعينها من الرجال، ولقيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أعانها فى حاجتها، حتى تقضيها، ثم ينصرف عنها موفورا غير منقوص.

هيبة

ومع هذا التواضع الكريم غير الذليل، كانت هيبته فى القلوب أشد ما تكون هيبة الرجل الذى اختاره الله تعالى رسولا للعالمين، وما كان تواضعه إلا لما يعلمه من فرط هيبته، فيلطفها بذلك التواضع، بل إنهما نبعا من هيئة واحدة، فهما متاخيتان، بل إنه لا يتواضع هذا التواضع من غير إن يتضع، إلا من يكون قويا فى نفسه، لا يحس بأنه ينزل إلى المهانة فيما يفعل، وفيما يدع.

ولقد وصف الواصفون مجلس النبى عليه الصلاة والسلام بين صحابته بما يدل على عظيم مهابته، وقوة وقاره، وسمته، فقد كان مجلسه عليه الصلاة والسلام يحفه الوقار، لا يتكلمون إلا إذا أذن فى القول، فإذا صمت صمتوا، لا يخرجون عن قوله، ولا يبعدون عن إرادته. ولكن فى تواضع واطمئنان.

وقد كان أحيانا يحرص على أن ينزل ثم ينزل ليقرب منه الذين يحدثهم، ويريد هدايتهم، وأحيانا كان النساء يسترسلن فى القول فى مجلسه من غير أن يكون منه جفاف القول، وهو قادر على إسكاتهم بنظراته، ولكنه لا يرمضهن، ولا يمنعهن.

وقد كان يرشد بعض النسوة، فكن يتسابقن فى سؤاله، فتصايحن عليه، فدخل عمر رضى الله تبارك وتعالى عنه، وهن يتصايحن فى تسابق إلى السؤال، فسكتن: فابتسم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى بدت سنه، فقال عمر: أضحك الله سنك يا رسول الله، ما الذى أضحكك؟

فقال الرسول الكريم الرؤف الرحيم: هؤلاء النسوة كن يتصايحن على، فلما رأينك سكتن، فقال عمر:

أى عدوات أنفسهن أتهبننى ولا تهبن رسول الله. فقالت إحداهن: ولكنك أفظ وأغلظ. فأسكتها الرسول وقال القوى المهيب، نافيا الغلظة عن صاحبه: «لا، إن الشيطان لا يسير فى فج يسير فيه عمر (18) » .

ولم يكن عمر أشد هيبة من النبى بل النبى المهيب المحبوب، ولكنه يتطامن ليصل إلى القلوب، وهو لا يترك هيبته ترهب، ولكنها هيبته ما كانت إلا لترشد، فالإرشاد غايته فى حاليه مهيبا ومتواضعا.

وان أخبار هيبته فى مبدأ البعث لها صور ووقائع، ولكن ما كان عليه الصلاة والسلام يسلط هذه الهيبة التى تفرض صاحبها إلا نادرا، لتكون استجابة الدعوة عن الاقتناع المجرد الذى لا يدخله رهبة ولا ترغيب إلا ما يكون من رضا الله تعالى يوم القيامة.

ولكن إن كانت المواجهة بينه وبين زعماء الشرك وجها لوجه، ورأى فيهم استهزاء مقيتا، وانفرد بهم، بيّن بأس الله تعالى عليهم، وقوته، وما وهبه الله تعالى من هيبة ربانية، ولنذكر من ذلك واقعتين.

إحداهما- أنه يروى عمرو بن العاص أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان يطوف بالبيت، والملأ من قريش جالسون فى فنائه، فكلما مر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم غمزوا بالقول، فيبدو ذلك فى وجهه، وكرروا ذلك حتى أتم الطواف سبعا، ثم التفت إليهم، ووقف وقال لهم فى قوة المؤمن، وعزمة الصادق، وهيبة القائل: يا معشر قريش شاهت الوجوه، وأرغم الله هذه المعاطس؛ لقد جئتكم بالذبح، أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فراعهم قوله وأفزعهم، فما كان منهم أحد إلا كان يرفوه بأحسن القول، ويقول: اذهب أبا القاسم موفورا. ما علمنا عليك شراقط.

ولا شك أن الهيبة الإنسانية التى منحها إياه رب العالمين كانت هى الفاصلة فى هذا، وما كان النهديد الذى ساقه عليه الصلاة والسلام له الأثر النفسى، إلا لصدوره عن مهيب قوى.

الثانية- أن أشد الناس طغيانا على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عمرو بن هشام الذى سماه التاريخ الإسلامى بحق أبا جهل فقد كان فاجرا، لا شرف فى القول يقيده، ولا خلق كريم يمنعه، بل كان الحقد الدفين يدفعه، وكان النبى عليه الصلاة والسلام يصابره ليثير عطف الناس على الدعوة المحمدية، يترك هذا الطاغوت فى اندفاعه إلى الشر وصبره له. ولقد كان لبعض العرب دين عليه، فماطله، ثم امتنع عن السداد فرأى أن يستعين ببعض زعماء مكة ممن هم على شاكلته ليستأدوه دينه، فأحالوه تهكما- على محمد بن عبد الله - فذهب إليه الرجل يستعين به، فذهب النبى عليه الصلاة والسلام إلى بيت أبى جهل الطاغية، وطرق الباب، فخرج إليه، وفرائصه ترتعد، من هول العزمة المحمدية، فقال له النبى عليه الصلاة والسلام: أد للرجل دينه، فذل كبرياؤه كبرياء الجاهلية، وأحضر المال وسدد الدين صاغرا، وصار هو أضحوكة الجاهليين أشباهه.

وكان عليه الصلاة والسلام يخفف من جأش من تناله هيبته عليه الصلاة والسلام. دخل عليه رجل، فأصابته من هيبته عليه الصلاة والسلام رعدة، فقال عليه الصلاة والسلام: «هون عليك، فإنى لست بملك، انا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد».

وروى أبو هريرة: دخلت السوق مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فاشترى سراويل، وقال للوزان: وأرجح أى (أوف الميزان) ، فيثب التاجر إلى يد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يقبلها، فجذب يده، وقال: هذا ما يفعله الأعاجم بملوكها، ولست بملك إنما أنا رجل منكم. ثم أخذ السراويل، فذهبت لأحملها، فقال : «صاحب الشيء إحق بشيئه أن يحمله» .

وقليل من الناس من يلتقى فيه التواضع والهيبة، وإن محمد بن عبد الله قد وصل إلى أسمى درجات الهيبة، ونزل من التواضع إلى درجة يقرب فيها من كل ذى حاجة وذى ضعف، يأنس به الضعيف ويرجوه ذو الحاجة فى حاجته.

إن أكثر الذين يستكبرون ممن يحسون يضعف فى نفوسهم، ولا يجدون فى أنفسهم قدرة شخصية تفرض هيبتهم فيستعينون بالكبرياء وغمط الناس والتسامى عليهم، ليعوضوا النقص، ويخففوا الضعف، أو يخلقوا هيبة صناعية: مصدرها مال، إن ذهب فقد ذهبوا، أو منصب يتعالون به إذا ألقوا عنه أصيبوا بالصغار والضياع، أما ذو الشخصية المهيبة بتكوين الله تعالى، وبما منحه الله تعالى من علم وفضيلة وقوة نفس. فإنها لا تحتاج إلى المهابة الصناعية والغطرسة والاستعلاء بها على الناس، والاستهانة بهم، واستصغار أمورهم.

والمهابة الفطرية التكوينية المستمدة من العلم والخلق والفضيلة هى والتواضع صنوان ينبعان من معين واحد، فهما لا يفترقان، لأن المهابة الفطرية ليست فى حاجة إلى غذاء صناعى، بل إن المهابة توجب التواضع ليكون التالف والتكامل الجماعى.

العفو والتسامح

ينبعان من قلب سليم وخلق كريم، ولقد قالت عائشة رضى الله تبارك وتعالى عنها وعن أبيها فى خلق النبى : «كان خلقه القران» ، فهو يأخذ بهديه، ويتبع منهاجه من غير عوج، ولا التواء، والله تعالى يأمره بقوله: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (20) واستمع إلى قوله تعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (21) .

وقد هيأه الله تعالى قبل البعثة، ليكون العفوّ عن هفوات الناس، المتجاوز عن أخطائهم، وإن العفو والسماحة لا يسكنان إلا قلبا خاليا من الأحقاد والأضغان، ومن يعمل ليقود الخلق إلى الحق لابد أن يكون نظره إلى ما هو أمامه ولا ينظر إلى الوراء، والأحقاد والأضغان، ومحاسبة كل امريء عليه ما كان منه، إنما هى تشد صاحبها إلى الوراء، فلا يكون تفكيره إلى ما يجب عليه القيام به فى المستقبل، بل يكون تفكيره فى شفاء غيظ من أسقامه التى كانت فى الماضى، ومن يأتى برسالة داعيا إلى الحق، لا يكون دبرى النفس يشغله الماضى عن الحاضر، بل يكون عاملا للمستقبل.

محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام الذى أدبه ربه فأحسن تأديبه، والذى خلقه ليحمل أقوى رسالة، وأعظم هداية، رباه ربه على الصفح الجميل، ليكون قلبه متجها دائما إلى ما هيأه الله تعالى له، من حمل الدعوة إلى الحق، متفرغا لها، فما كان من إحن يضعها دبر أذنه، وما كان من واجب تفرغ له ليبلغ الرسالة على أكمل وجه، فلا يشغل نفسه حقد، ولا تملؤها إحن، فحسك الصدور يشغل عن العمل، ويفسد الصلات، ويغرى بالعداوة، ونبى الله تعالى فوق أن يشغله ضغن.

ولقد كان النبى عليه الصلاة والسلام كذلك قبل أن يبعثه الله تعالى، فلم يعلم فى تاريخ حياته أنه شغل نفسه بأحقاد الجاهلية وما كانت تبثه من عداوات، بل إنه فى اخر الرسالة يعلن الصفح الكامل، فيقول في قوة ذى العزم من الرسل، «ألا إن دم الجاهلية موضوع، وأول دم أبدأ به دم عمى الحارث بن عبد المطلب» .

ولقد كان بعد البعثة حريصا على سد كل مسام الأحقاد والأضغان، وذلك بمنع النميمة، ولو كان ما ينقل صدقا، فقد ثبت فى الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال «لا يبلغنى أحد عن أحد شيئا إنى أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر (22) » .

ولمحبته للعفو الكريم والصفح الكريم ما كان يوجه لوما على عمل عمل مادام يخص نفسه، يقول أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «والله ما قال لى لشيء صنعته لم صنعت هكذا، ولا لشيء لم أصنعه لم لم تصنع»

ويقول ذلك العشير الذى خدمه فى السفر والحضر: «كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من أحسن الناس خلقا، أرسلنى لحاجة، فقلت: – لا أذهب- وفى نفسى أن أذهب لما أمرنى به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فخرجت حتى أمر على صبيان، وهم يلعبون فى السوق، فإذا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، قد قبض بقفاى من ورائى قال: فنظرت إليه وهو يضحك، فقال يا أنس، ذهبت حيث أمرتك؛. فقلت: نعم أنا أذهب يا رسول الله» ومضى أنس خادم رسول الله إلى حيث أمره أو طلب إليه من حاجة (23)» .

هذا خبر يبدو صغيرا فى مقام أخبار النبوة المحمدية، ولكنه كبير فى مغزاه، وفى معناه، وقد بدت السماحة وسماحة الأخلاق، أولا- فى أنه عفا وسامح خادمه وهو يعانده، ويرد قوله ظاهرا، فما لامه، ولا عتب عليه، ولا احتسبها عليه، ولكنه تركه لتقديره، وقبل ألا يذهب إلا مختارا غير مأمور.

وثانيا: تتبعه ليعرف ماذا أجدى الصفح الجميل، وعلاج شماس النفوس بالتسامح والتساهل، والإخاء من غير إعنات ولا استكراه فى إغلاق وإغضاب، أو مغاضبة.

وثالثا: لم يكتف بألا يغضب، بل إنه يداعبه مع ذلك، فيقبض عليه من قفاه، ثم يناديه مداعبا ضاحكا يا أنيس، يد لله بتصغيره، وهو الذى عانده، ورد إرادته.

ثم يقول معلنا انتصار السماحة والعفو، وعدم المؤاخذة على ظواهر الأفعال «ذهبت حيث أمرتك» هذا كمال النبوة وخلق النبى الذى يدعو النفوس الشاردة فيروضها على الحق، ويؤنسها فى عفو وسماحة، وصفح جميل، بل إن الإشارة لا تعلو قط، حتى تكون أمرا.

وقال أنس هذا «كنت أمشى مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وعليه برد غليظ الحاشية، فأدركه أعرابى فجبذ بردائه جبذا شديدا، حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله . فإذا به قد أثرت فيه حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: «يا محمد مر لى من مال الله تعالى الذى عندك» فالتفت إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فضحك، ثم أمر له بعطاء» .

وإن هذه السماحة، وذلك العفو خلقه قبل البعثة، وكان خلقه عندما اشتد الأذى، فهو يعالج عنف قريش بالرفق فى القول، ويعالج الإيذاء بالصفح الجميل، الذى لا يمن به، ولكنه يهدى به من شاء الله تعالى، ولو لم يكن العفو أساسا، لطلب من الله تعالى كما قال تعالى عن نبيه نوح: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ، دَيَّاراً. إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً «١» ولكن الله فضل بعض النبيين على بعض، ولكل أمة رسول تكون أخلاقه على ما يكون سبيلا لهدايتها ولإرشادها.

روى أنه لما كذبت قريش النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وبالغت فى الأذى، ولما لجأ إلى ثقيف فى الطائف وأغروا سفهاءهم. أتاه جبريل عليه السلام فقال له: «إن الله تعالى قد سمع قول قومك لك، وما ردوا به عليك، وقد أمر ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم- فناداه ملك الجبال وسلم عليه وقال:

مرنى بما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين (الجبلين اللذين يحيطان بمكة المكرمة) قال النبى السمح الكريم «الهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون» .

وذكر ابن المنكدر أن جبريل عليه السلام قال للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم: «إن الله تعالى أمر السماء والأرض والجبال أن تطيعك، قال: أؤخر عن أمتى، فلعل الله تعالى أن يتوب عليهم» .

وإن سماحته عليه الصلاة والسلام وعفوه ليبدوان فى عفوه عمن عادوه واذوه وقاتلوه، ولم يتركوا بابا من أبواب الأذى والقتل والقتال إلا سلكوه، وما تركوا كيدا إلا كادوه له، ثم ال الأمر إلى أن ينتصر عليهم نصرا مؤزرا.

عندما فتح الله تعالى له مكة المكرمة، نادى الملأ من قريش، ولم يفكر فيما كانوا يصنعون به وبأهل الإيمان إن كان لهم النصر، ولكنه فكر فيما ينبغى لمثله معهم، وتطييب قلوبهم، وإزالة الأحقاد من نفوسهم، فقد قال لهم فى ود راه فى موضعه: ما تظنون أنى فاعل بكم، قالوا أخ كريم وابن أخ كريم، ما نظن إلا خيرا. قال أقول لكم ما قاله أخى يوسف لإخوته: «لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين» اذهبوا فأنتم الطلقاء، وبذلك أنهى الأحقاد، ووضعها دبر أذنه ليستقبلوا عهدا جديدا فى الإسلام.

إن الداعى بدعاية الحق، يجب عليه أن يطهر نفسه من أمرين: أحدهما أدران التألم من الناس لأذى سبقوا به، أو لحسك الصدور، أو لفحش كان منهم، فإنه جاء لهدايتهم، لا لمقابلة إساءة بمثلها، ولا ليشغل نفسه بالنقمة بهم، وإن كانت حقا أو أخذ حق، ولا علاج لذلك إلا بأن يجعل نسيان الماضى، والتسامح، هو السبيل لهذا النسيان، والعفو عما سلف من سيئات هو الذى يمكن الداعى من الخلاص إلا من الحق.

ثانيهما: أن يبعد الأثرة عن نفسه، فلا يفكر فى العمل لنفسه، وذلك يقتضى الإيثار، والفناء فى دعوته التى يدعو إليها، وإن تطهير النفس من الأثرة، إنما يكون بتغليب ترك الحقوق إذا لم يكن فى تركها إقامة لباطل، أو خفض لحق، أو سكوت عن حق عام، فالداعى ينسى حقوقه الشخصية، بل يهملها من غير تهاون، ولا يترك حقا عاما، ولا أمرا من موجبات دعايته فإن تساهل فى حقوقه، فلكى يتفرغ بكله للحقوق العامة.

وإذا كان ذلك ما ينبغى أن يكون عليه دعاة الحق، والناصرون له من الناس، فكيف يكون الشأن ممن هو رسول لرب العالمين، إنه ينسى حقوق نفسه، فيعفو عنها، ويذكر حقوق الناس فلا يفرط فى أى جزء منها.

ولقد قالت عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها فى وصف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم «لم يكن فاحشا، ولا متفحشا، ولا صخابا فى الأسواق، ولا يجزى بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح» .

وفى الجملة ما كان يحمل إلا الخير، وينفى عن نفسه كل ما يثيرها على أحد، فلا يكون منه إلا النفع، ولا يحمل نفسه عناء البغض والكراهة إلا أن يكون لله.

حياؤه

الحياء صفة نفسية يظهر أثرها فى العمل على ألا يفاجيء الشخص الناس بما ينفرهم، أو بما لا يألفون، لا يظهر منه ما يخالف الفضيلة، فلا يعلن رذيلة، ولا أمرا لا يتلقاه الناس بالقبول، ويعمل على إرضاء النفس الجماعية ما لم يكن إثما، وهناك صفات تلتبس مع الحياء. أو يبدو بادى الرأى أنها تعارضه.

فقد ظن بعض الناس أن الحياء ضعف نفسى، وأنه قد يكون السكوت فيه نوع من الرياء، وذلك باطل، لأن الحياء الحقيقى ليس ضعفا، ولا ينشأ عن ضعف، إنما ينشأ عن الكمال لأن من عنده الحياء لا يحب أن يظهر منه إلا ما هو كامل ذاته، وألا يظهر منه ما هو مرذول فى ذاته أو يعده الناس مرذولا، وذلك ليس ضعفا، ولكنه نقاء وصفاء للمجتمع من أن ترنقه مظاهر الانخلاع من القيود الاجتماعية، والتحلل من الروابط الإنسانية التى تربط الاحاد ربطا نفسيا.

والشجاعة والحياء يتلاقيان، بل إن تلاقيهما هو ذروة الكمال، فإن قول الحق فى موضعه، وفى وقته المناسب يتلاءم مع الحياء، والسكوت عن النطق بالحق فى وقت الحاجة إليه، لا يعد حياء، بل إنه استخذاء، والحياء حماية للفضيلة، وتضييق على الرذيلة من أن تظهر، وإذا كان للحياء أثر فى شجاعة قول الحق، فانه يحمل القائل على الدعوة إليه فى رفق من غير عنف، فيكون أجدى، وأشد تثبيتا، وأهدى سبيلا، وإن اقتضى الحق مجاهرة به تأخذ وصف القوة، لا يمنعها الحياء.

ولا يظن أحد أن فى الحياء رياء، إنما الحياء ألا تنطق إلا بالحق، أو لا تغمطه، أو تغمض العين على الباطل، إنما الحياء يمكن صاحبه من أن يسوس الحق سياسة المستمسك من غير هوادة إلا أن تكون رفقا.

ولقد ذكر القاضى عياض فى الشفاء فى بيان الحياء: وأما الحياء والإغضاء، فالحياء رقة تعترى وجه الإنسان، عند فعل يتوقع كراهيته، أو ما يكون تركه خيرا من فعله، والإغضاء هو التغافل عما يكره الإنسان بطبيعته، وكان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أشد الناس حياء، وأكثرهم عن العورات إغضاء. قال الله تعالى إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ، فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ.. (25)» الاية … عن أبى سعيد الخدرى رضى الله تعالى عنه قال: «كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أشد حياء من العذراء فى خدرها» (26)»

وإن مظاهر حياء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تبدو فى عامة أحواله، نذكر بعضا منها يدل على سائرها:

  1. أن بعض أصحابه كانوا لفرط كرمه يتناولون الطعام، ثم يأخذون فى الحديث، فكان هذا يؤذى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وقد يكون منه اضطراب فى بيته، وإقلاق لراحة أهله، وضيق فى ذات نفسه، ولكن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان يستحيى من أن يأمرهم بالخروج، أو يطلبه إليهم، أو يشير به بأي نوع من أنواع الإشارة، حتى تولى الله تعالى تعليم المؤمنين الأدب فى هذا المقام، وأعفى رسوله من أن يخالف قانون حيائه، فقال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ، إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ، وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا، فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ، إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ، وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ، وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ، ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ، وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ، وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً } (27)
  2. ومن مظاهر حيائه، وعدم المجابهة من غير ضياع للحق، أنه إذا كان قد بلغه عن أحد ما يكرهه، لا يجابهه بأنه فعل ما يكره فى الشرع، ولا يجبه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، بل كان يقول: «ما بال أقوام يصنعون كذا أو يقولون كذا.» فينهى عن العمل ويستنكره ولا يسمى فاعله. وإن ذلك فوق أنه مظهر من مظاهر الحياء، فإنه أولا يجعل النهى عاما، والاستنكار شاملا لكل من يحتمل أن يقع منه هذا العمل، وفوق ذلك إن ذلك التعميم على قبح الفعل فى ذاته من غير تعلقه بشخص بعينه، فالاستنكار للفعل من غير نظر إلى فاعله، ومع كل هذا فإن ذلك هو الحكمة، لأن المجابهة للفعل فيه خزيه، وقد يجر تكرار اللوم إلى المجاهرة والاستمرار، وإن تكرار الخزى إعانة للشيطان، كما قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لقوم قالوا لمحدود فى شرب خمر: أخزاك الله، فقال لهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم «لا تعينوا عليه الشيطان» .
  3. ومن مظاهر حيائه صلى الله تعالى عليه وسلم، أن الفعل إذا كان يندر وقوعه، فإذا وقع لا يجابه صاحبه بالنهي، بل يحث أصحابه على أن ينبهوه، دخل عليه مرة رجل عليه ثياب معصفرة زاهية تبهر الأنظار مما رأى أنه لا يليق أن يكون لبسة الكاملين، فلم ينبهه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، بل بعد أن خرج أمر بعض صحابته أن ينبهه، وقد دفع إلى ذلك حياء النبى عليه الصلاة والسلام أولا- والرفق بالرجل من مرارة الإعلان ثانيا، ومنعه من أن يقع عليه خزى ثالثا.
  4. ومن مظاهر حيائه، ولطف مودته عليه الصلاة والسلام أنه كان إذا لقى الرجل بوجه لا يتجه بصفحة وجهه إلى جانب اخر، حتى يكون محدثه هو الذى ينصرف عنه روى أنس خادم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه كان إذا استقبل أحدا بوجهه لا يصرفه عنه حتى يكون الرجل ينصرف عنه.

وروى أنس أيضا أنه كان إذا صافح الرجل أو صافحه لا ينزع يده منه، حتى يكون الرجل هو الذى ينزع يده، وإذا أراد رجل أن يسر إليه حديثا فى أذنه، فيحنى رأسه له، ويستمر حانيا رأسه، حتى يكون الرجل هو الذى ينحيه.

وقد يقول قائل ما للحياء والشمائل النبوية التى من شأنها أن تسهل دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام، إنه أدب شخصى ليس له صلة بالدعاية أو تبليغ الرسالة؟!!

ونقول إن خلق الداعى يجذب إلى موضوع الدعوة، فلو كان الداعى فحاشا، أو صخابا، أو يغلب عليه أن يلوم وتقرع عباراته لنفر منه الناس، وما استجاب له إلا أهل الحق الصرف الذين لا يهمهم لون الدعوة، بمقدار ما يهمهم لبها.

وإذا كان الخلق الطيب يجذب النفوس، ويوجهها نحو الحق، فإن الحياء أشد الأخلاق اجتذابا للنفوس، فإن الحياء، يجعل صاحبه لا يفجأ الناس بما لا يسرهم، بل يجيء إليهم من جانب ما يألفون، فلا تنفر النفوس، ولا تنشعب عن الحق، وإن عنف الداعي، وتفحش قوله يعوق دعوته، ويكون استثقاله مؤديا إلى رده.

وإذا كان مع الحياء لين فى الطبع من غير ضعف، وقوة فى الحق وصل إليه فى مداخل سهلة لينة، ولقد قال فى وصفه على بن أبى طالب أنه كان أوسع الناس صدرا، وأصدق الناس لهجة. وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة.

ولقد كان لالتقاء الخلق الحسن اللطيف المعشر مع الحياء، والاستمساك بالحق مزيج من أخلاق كريمة، جعله لا يترك التنبيه إلى الحق فى رفق، وجعله يصل إلى ما يريد من إيغاله فى القلوب.

ذكر بعض الذين أدركوه قصة تدل على جمع النبى عليه الصلاة والسلام بين لطف العشرة، والحياء، والتأديب اللطيف.

قال ذلك العربي، وهو ابن جبير: نزلت مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مر الظهر، فخرجت من جناني، فإذا نسوة يتحدثن، فأعجبنني، فرجعت، فأخرجت حلة حبرة فلبستها، ثم جلست إليهن، وخرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من قبته، فقال: يا أبا عبد الله ما يجلسك إليهن، فهبت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، جمل لى شرود أبتغى له قيدا، قال:

فمضى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وتبعته فألقى رداءه…. ودخل الأراك فقضى حاجته وتوضأ، ثم جاء فقال يا أبا عبد الله، ما فعل شراد جملك، ثم ارتحلنا، فجعل لا يلحقنى فى منزل إلا قال:

لى السلام عليك يا عبد الله، ما فعل شراد جملك.

فتعجلت إلى المدينة، فاجتنبت المسجد، ومجالسة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فلما طال ذلك تحينت ساعة خلو المسجد، فجعلت أصلي، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من بعض حجره، فجاء صلى لله تعالى عليه وسلم، فصلى ركعتين خفيفتين، ثم جاء فجلس، فطولت رجاء إن يذهب، ويدعني، فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: طول يا أبا عبد الله ما شئت فلست بقائم حتى تنصرف.

فقلت والله لا عتذرت إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولأبردن صدره، قال فانصرفت، فقال: السلام عليك يا أبا عبد الله، ما فعل شراد جملك، فقلت: يا رسول الله والذى بعثك بالحق ما شرد ذلك منذ أسلمت، فقال عليه الصلاة والسلام: رحمك الله مرتين أو ثلاثا، ثم أمسك عنى فلم يعد (28)» .

انظر أيها القاريء الكريم للتأديب النبوى لأصحابه من غير أن يكون فحشا، وفى حياء المؤمن، وأدب الهدى المحمدي، لقد لا حظ رجلا يرى جمعا من النسوة يعجبنه، فيلبس أحسن ثيابه، ويجلس إليهن، فيسأله فيكذب، فيراه يخطئ خطأين:

أولهما- أن يخرق حجاب الحياء فيجلس فى مجلس النساء، وذلك خدش لحيائهن، وتهجم عليهن، واختراق لحجاب الحياء فى ذات نفسه، ثم يكذب على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ويلح النبى ويوميء من طرف خفى إلى أنه لم يقل الحقيقة. فيكرر له ما اعتذر به وقتا بعد اخر بأناة، وذلك ليحمله على التوبة والاستغفار، إنه يريده على التوبة عن أصل ما ارتكب ثم عن الكذب، فأخذ يكرر السؤال فى شبه مداعبة، وهو يقصد اللوم، إنه ما انتهى من تكرار القول. وهو يعرف مداه من القلب، حتى أقر بما ارتكب، وبأنه قد كذب على الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه، والإقرار بالذنب أول أبواب التوبة، وقد ندم على ما فعل بدليل تهربه من مواجهة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.

جوده عليه الصلاة والسلام

الجود إذا لم يقصد به التفاخر، كان بابا من أبواب الخير الذى يكون بالعطاء لذى الحاجة الذى لا يمتن فيه ولا يستكثر، بل يبذل سدا لحاجة محتاج، أو لإعانة مستعين، أو ليتصدق يرجو ما عند الله تعالى، لا يرجو من الناس جزاء ولا شكورا، وهو بهذا خلق جماعى يربط المودة بين احاد الجماعة، ولقد عد الحكماء أن الفضائل أربعة جعلوا منها الحكمة والشجاعة، والعفة والسخاء، فهو فضيلة عامة، لا تصدر إلا عمن يحس بحق الجماعة عليه.

ولقد كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم جوادا يعطى ما فى يده ولو كان فى حاجة إليه، فهو علم المؤمنين أن يؤثروا على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة.

لقد ذكر ابن عباس فقال: «كان أجود الناس بالخير، وأجود ما يكون فى شهر رمضان، وكان إذا لقيه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة» .

فالجود صفة ملازمة له تعلو ولا تنزل، تعلو فى رمضان، ويسمو علوها فى العشر الأخيرة من رمضان عندما يذاكره جبريل القران.

وقد كان الجود خلقه قبل البعث، كما استمر من بعد البعث، إذ كل شيء فيه قد ازداد خيرا، ولقد قالت له خديجة رضى الله عنها: «إنك تحمل الكل، وتكسب المعدوم» .

وقد جاء فى كتاب الشفاء أنه رد على هوازن سباياها، وكانت ستة الاف، وأعطى إليه العباس من الذهب ما لم يطق حمله، وحمل إليه تسعون ألف درهم، فوضعت على حصير، ثم قام إليها فقسمها.

فكان من كرمه صلى الله تعالى عليه وسلم أن يوزع كل ما يجيء إليه من غنائم، ولا يبقى منها لنفسه شيئا، إلا ما يكفيه.

وما كان يرد طالب حاجة قط، حتى كان يبلغ به الجود (أن يجود بالموجود كله) بل إنه إذا لم يكن الوجود حمل عبء الدين ليسد الحاجات، جاءه رجل يسأله حاجة، فقال: ما عندى شئ، ولكن ابتع على، فإذا جاءنا شيء قضيناه. ولقد قال عمر رضى الله تعالى عنه، وقد رأى محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم يتحمل ثمن البياعات، ليؤديه إذا لم يكن معه- قال له: «ما كلفك الله تعالى ما لا تقدر عليه» فكره النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من صاحبه ووزيره عمر الفاروق ذلك، لأنه لا يريد أن يحول أحد بينه وبين سجيته التى فطره الله تعالى عليها، والتى جعلته فوق الكرماء والأجواد.

ولقد لاحظ ذلك أنصارى كان فى حضرة الرسول وصاحبه فقال يا رسول الله، أنفق ولا تخش من ذى العرش إقلالا، فتبسم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد إذ كره، وعرف البشر فى وجهه، وقال: بهذا أمرت. وذكر الخبر الترمذى.

ولقد كان جوده من فرط اعتماده على الله تعالى مع اتخاذ الأسباب، ولأنه يؤثر على نفسه، ولأنه حمل نفسه سد حاجة أى محتاج، فهو جود من قبيل تحمل الأعباء، لا من قبيل السخاء المجرد، لقد قال عليه الصلاة والسلام، وصدق فعله قوله «من ترك مالا فلورثته، ومن ترك عيالا فإلىّ وعلىّ» .

فمال الناس لأنفسهم إلا ما يفرض من زكوات عليهم، وأما الذين لا يستطيعون أن يعولوا أنفسهم، فهم يكونون فى عياله، وعليه واحده تحمل أعبائهم، ذلك أن الفقراء عيال الله، ويحملهم رسول الله.

يقول أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. «كان رسول الله لا يدخر شيئا» .

عن أبى هريرة أن رجلا جاء يسأل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولم يكن مع الرسول مال فاستلف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.

وإن جود رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليزيد؛ حتى إنه يخلع ثيابه لمن يطلبها، فقد روى الطبرانى عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم رأى صاحب بز، فاشترى منه قميصا بأربعة دراهم، فخرج وهو عليه فإذا رجل من الأنصار، يقول: يا رسول الله اكسنى قميصا، كساك الله تعالى من ثياب الجنة، فنزع القميص فكساه إياه، ثم رجع إلى صاحب الحانوت، فاشترى منه قميصا بأربعة دراهم، وبقى معه درهمان، فاذا بجارية فى الطريق تبكى، فقال: ما يبكيك فقالت يا رسول الله دفع إلى أهلى درهمين أشترى بهما دقيقا فهلكا، فدفع إليها رسول الله الدرهمين الباقيين ثم انقلب، فإذا هى تبكي، فدعاها، فقال لها ما يبكيك، وقد أخذت الدرهمين، فقالت أخاف أن يضربونى فمشى معها إلى أهلها، فسلم فعرفوا صوته … ثم قالوا ما أشخصك بأبينا وأمنا، فقال: أشفقت هذه الجارية أن تضربوها، فقال صاحبها: هى حرة لوجه الله تعالى لمشاك معها، فبشرهم رسول الله بالخير والجنة.

ولقد كانت عشرة دراهم مباركة ذكر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بركتها فقال: «لقد بارك الله تعالى فى العشرة كسا الله نبيه قميصا، ورجلا من الأنصار قميصا، وأعتق الله تعالى منها رقبة، وأحمد الله هو الذى رزقنا بقدرته» «١» .

وكان عليه الصلاة والسلام ينفق ماله، ويحرض الناس على الإنفاق، وكان فى كرمه كثير الاعتماد على الله تعالى فى رزقه، فهو يقول لبلال «أنفق بلال. ولا تخش من ذى العرش إقلالا» ويقول عليه الصلاة والسلام «ما من يوم يصبح إلا وملكان يقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الاخر اللهم أعط ممسكا تلفا» .

وإن ذلك الكرم لم يكن بعد البعثة المحمدية، بل كان قبلها، ويقول فى ذلك ابن كثير: «ثم كان قبل البعثة، وبعدها، وقبل هجرته ملجأ الفقراء والأيتام والضعفاء والمساكين» .

وهنا نقول إن جود محمد بن عبد الله ليس جود من يعرض عن المال فلا يطلبه، أو جود من يجرد نفسه من أسباب الحياة، فلا يترك المال إذا جاء، بل يطلبه من أسبابه الحلال، الطيبة التى لا خبث فيه قط، ولكن ليمر على يده مرورا، ليصل إلى الضعفاء واليتامى والأرامل والمساكين، فهو يعبر من يده الطاهرة الأمينة إليهم.

لقد كان تاجرا يكسب من التجارة لنفسه، ولزوجه الطاهرة الأمينة خديجة وتدر عليه الدر الوفير، وكان يستخدم كل خبرته التجارية التى أفادها من بيئة مكة التجارية، ولكنه ما كان يفعل ذلك لنفسه ولا لزوجه، ولكن ليعطى هو وهى الفقراء والضعفاء كسبهما الطيب الذى لا خبث فيه.

لقد ذكر عن عيسى عليه السلام الزهادة فى المال، وأنه لم يعمل على كسبه، بل تجرد منه، ومحمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يعيش ويكسب ويتجر فى صدر حياته ليحصل على المال، وينفق ما حصل عليه على الضعفاء، فهو قد سخر نفسه عاملا …

وفى كل فضل، ولكن زهادة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم إيجابية، إذ أنها تكسب المال من الكسب الطيب، وذلك الكسب فيه نفع عام، لأنه إما زرع يأكل منه الإنسان، وإما عمل وكدح ينمى ثروة الجماعة، وإما نقل خيرات الأرض التى تفيض من إقليم إلى إقليم اخر بالتجارة، وفى ذلك نفع عميم.

ثم إن الكسب لا يبقى فى يد الجواد، بل يفيض به على غيره، فهى زهادة إيجابية كادحة عاملة.

الشفقة والرأفة والرحمة

وصف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بأنه رؤف رحيم، والرأفة والشفقة متقاربتان فى المؤدى، وقد قال تعالى فى ذلك الوصف: { لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ، حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (30) ، وقال تعالى وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ } (31)»

ونحن فيما كتبنا من بحوث تتصل بهذا المقام قررنا أن الرحمة تكون اثارها عامة، وقد أشار إلى ذلك النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فقد كان صلى الله تعالى عليه وسلم يكثر من الحث على الرحمة، فقال بعض أصحابه: «يا رسول الله أكثرت من ذكر الرحمة ونحن نرحم أزواجنا وذرياتنا. فقال عليه الصلاة والسلام «ما هذا أريد، إنما أريد الرحمة بالكافة» .

والشفقة وأختها الرأفة تكون فى النواحى الخاصة، والنبى عليه الصلاة والسلام كان فيه الرحمة بالكافة، وكان فيه الرأفة الخاصة ما لم تتعارض مع الرحمة بالكافة، وذلك يكون فى الرأفة بالاثمين الظالمين الذين يرتكبون ما يوجب حدا من حدود الله، ولذلك يقول سبحانه وتعالى: { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } (32)»

وإنه عليه الصلاة والسلام كان يعالج النفوس الشاردة بالرأفة التى تؤنس هذه النفوس، فتقرب بعدها، وتستأنس بعد جفوتها.

ويروى فى ذلك أن أعرابيا جاء يطلب منه شيئا، فأعطاه، ثم قال له أأحسنت إليك؟ قال الأعرابي:

ولا أجملت. فغضب الحاضرون من المسلمين، وقاموا إليه، فأشار الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم اليهم أن كفوا، ثم قام عليه الصلاة والسلام ودخل منزله، وأرسل صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الرجل، وزاد شيئا، ثم قال: أأحسنت إليك؟ قال: نعم فجزاك الله تعالى من أهل وعشيرة خيرا، فقال عليه الصلاة والسلام: إنك قلت ما قلت، وفى نفس أصحابى من ذلك شيء، فإن أحببت، فقل أمامهم ما قلته بين يدى، حتى يذهب ما فى صدورهم عليك. قال: نعم، فلما كان الغد أو العشى جاء فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: «إن هذا الأعرابى قال ما قال فزدناه، فزعم أنه رضى بذلك، قال الأعرابى نعم فجزاك الله تعالى من أهل وعشيرة خيرا» . فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم «مثلى ومثل هذا مثل رجل له ناقة شردت عليه، فاتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفورا، فناداهم صاحبها: خلوا بينى وبين ناقتي، فإنى أرفق بها منكم وأعلم، فتوجه لها بين يديها، فأخذها من قمام الأرض، فردها حتى جاءت إليه، واستناخت، وشد عليها رحلها، واستوى عليه. وإنى لو تركتكم، حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار» (33) .

إن ذلك الحديث، ينبيء عن حكمة الدعوة والإرشاد والهداية إلى الحق، يقرب الشارد، ولا يعاقبه، يدنيه إلى الحق، ولا يهلكه، وإنه يسوس النفوس ويتجه إلى الجادة من غير عنف.

وفيه الشفقة الكاملة، وأنها علاج النفوس، وليس العنف علاجا، ولكنه قمع فى غلظة، وقد يؤدى إلى الإصرار على الشر، والامتناع عن الخروج عن دائرته.

وفى ذلك كمال التبليغ للرسالة الإلهية، وتعليم الراعى كيف يسوس الرعية، ويأخذها إلى مواطن الحق، وحمايته.

وإن شفقته الشخصية على المتصلين به لتبدو فى معاملته لأهله من أزواج وأقارب سواء أكانوا أقربين أم كانوا غير ذلك ممن لهم رحم موصولة.

ولقد امتنع عليه النوم عندما أسر عمه العباس بن عبد المطلب فى غزوة بدر، فكان يبكى لأنينه، وهنا فى هذه القضية، يبدو أمران يظهران متناقضين- أولهما- ألمه لأن عمه وحبيبه العباس قد أسر، ويذوق مرارة الأسر يشفق عليه، ويشتد الأسى عليه- وثانيهما- العدالة المقررة الثابتة التى تسوى بين الناس فى النتائج، إذا تساووا فى الأسباب الموجبة لهذه النتائج المؤدية إليها، وإن الجمع بين دواعى الشفقة، وموجبات العدل عسير على محمد عليه الصلاة والسلام.

وإن الشفقة ودواعيها، والحرص على الواجب والعدل، ليتجلى فى أمر زوج ابنته، فإنه كان أسيرا فى غزوة، فلم يعفه من واجب الفداء ورفض أن يفك أسره إلا بفداء، فأرسلت زوجه زينب بنت محمد عليه الصلاة والسلام إلى أبيها تفدى زوجها بحلية عندها كانت أهدتها إليها فى عرسها أمها خديجة أعز النساء على محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، عندئذ التقت أمور كلها تؤثر فى القلب الشفيق فى الرجل العادل، ففيه الشفقة على ابنته، وفيه الذكرى، لأوفى النساء له وأبرهن به، وأحناهن عليه، وأعزهن عنده، وفيه ما يجب عليه من عدل غير مفرق بين أسير وأسير، فهنا التكليف الشاق، والإحساس القوى، فمحمد يبكى من فرط ما جاش فى نفسه من ذكري، وما يدعوه الواجب، فيجمع أصحاب الحق فى الفداء، وهم الغزاة المجاهدون، ويعرض عليهم النظر فى واجبه، والرفق بإحساسه، وما هو بالذى يفرض عليهم الرأى. فيكون الرأى من أصحاب الحق فيه أن يعيدوا الحلية إلى صاحبتها.

وهنا نجد محمدا عليه الصلاة والسلام يجمع بين شفقة الأبوة وذكرى الزوج البارة، الحانية العطوف، والواجب العادل الذى عليه أن يؤديه.

وإن شفقته الأبوية التى لا تتعارض مع الواجب، أولا يعارضها واجب من العدالة، والتسوية بين الناس لتبدو فى شفقته، على ابن زينب، وهو يحتضر، فقد أرسلت إلى أبيها نبى هذه الأمة، ولكن الرجل الشفيق خشى من ضعف الشفقة أن يرى حفيده يحتضر، فأرسل إليها عليه الصلاة والسلام يقول لها:

«إن لله ما أخذ وما أعطي، وكل شيء عنده مسمي، فلنحتسب لنعتبر» ولكنها تصر على أن يحضر، وتقسم عليه، فقام إليها النبى، وقام معه من بحضرته من صحابته، فوضعه عليه الصلاة والسلام فى حجره، ونفسه تخرج، ففاضت عين محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام فقال له سعد بن أبى وقاص:

«ما هذا يا رسول الله، قال الرسول: هذه رحمة وضعها الله فى قلوب من شاء من عباده، ولا يرحم الله من عباده إلا الرحماء» .

ولقد كانت الشفقة مع القيام بالواجب، تتجلى فى موت ولده إبراهيم الذى وهبه الله تعالى على الكبر، ثم استرد الوديعة، فما رؤى رسول الله فى حزن الأبوة، كما رؤى فى وفاة إبراهيم، إذ بكى من عبء ما أصيب به، كان ثقيلا، ولما رأى أسامة بن زيد محمدا يبكى صرخ، فنهاه وقال له يا أسامة: «البكاء من الرحمن، والصراخ من الشيطان» .

ولقد كان وهو يبكى يقول: «الموت حق. وإن القلب ليحزن، والعين لتدمع، وإنا لفراقك يا إبراهيم المحزونون» وفى هذا اليوم كسفت الشمس، فقال المحبون، إن الشمس كسفت لإبراهيم، ولكن نبى العقيدة الصحيحة البعيدة عن الأوهام، نسى حزنه، أو غلب واجبه على حزنه، كما هو شأنه دائما، فوقف خطيبا، وقال صلوات الله وسلامه عليه.

«إن الشمس والقمر ايتان من ايات الله لا تكسفان لموت أحد، ولا لحياة أحد» . وأم الناس، وصلى بهم صلاة الكسوف.

وهكذا كان محمد بن عبد الله الشفيق الرفيق الودود المحب دائما، ولكن عاطفته الإنسانية لا تتغلب على واجبه، بل الواجب أولي، وأحرى بأن يؤثره على غيره.

وإن شفقته تعم، فتكون رحمة، لا تختص بالاحاد، بل أحيانا يغضب ولا يغضب إلا للحق، ولكن قلبه التقى الخالى من كل سوء بالناس، تغلب عليه الرحمة العامة دائما، فيقول فى ضراعة لربه الرحيم:

«اللهم إنى بشر من البشر، أغضب كما يغضب البشر، فأيما رجل دعوت عليه، فاجعل ذلك له زكاة ورحمة، وصلاة وطهورا، وقربة تقربه إليك، يوم القيامة» .

وإن مظاهر حياته كلها شفقة، فامرأة فى عقلها شيء يقف معها فى جانب من الطريق يستمع إلى حاجتها، ويلقى فى قلبها الطمأنينة.

وجارية يضيع منها ثمن دقيق، فيدفعه لها، وتبكى خشية أن يضربها مالكوها، فيسير معها إليهم ليمنعهم من ضربها، وأحد السبطين يركب على ظهره، وهو ساجد، فيطيل السجود، حتى لا يزعجه، ويستمر مرتحلا ظهر جده الرؤف الرحيم، حتى يتركه.

وكان يسمع بكاء الطفل وهو يصلى فيخفف فى صلاته، ليكون بجوار الطفل من يرحم بكاءه، وهكذا. وقد يقول قائل: إن شفقة النبى عليه الصلاة والسلام أمر ثابت، وهل لهذه الشفقة صلة بالرسالة، وولايته لأمر المؤمنين.

إن شفقة المسيح عليه السلام كانت لروحانيته، وأنه لم يكن منشيء دولة.

ونقول فى الإجابة عن ذلك: إن عيسى عليه السلام كان صاحب رسالة، وكان من مقتضى هذه الرسالة أن يكون بالذين يدعوهم رؤفا، فالشفقة من مقتضيات الرسالة والدعوة فإن الدعوة من الشفيق الرفيق تكون مستجابة من القلوب الطيبة المؤمنة المطمئنة؟ إن الرحمة هى التى تجذب الناس إلى الداعى، وليست القسوة، إن النفوس التى تدعى إلى الحق منها ما يفتح الله قلبه للحق بقوة إيمان الداعى وشفقته، واجتذابه إليه بالحق ومنهم من يحتاج إلى البينات والأدلة، وهؤلاء هم أهل البرهان والدليل ومع الأنبياء معجزاتهم، ومنهم من يكون على قلوبهم غشاوة، وهؤلاء يدعون بالبرهان والحق، وتكرر الدعوة إليهم فإن اعتدوا رد كيدهم فى نحرهم.

وإن من مقتضى الولاية الشفقة، ولقد دعا رسول الله الولاة إلى الرفق بالرعية، ودعا لهم إن رفقوا بها، وأشفقوا ولم يرمضوهم بقسوة أو ظلم أو استكراه، أو إضعاف للنفوس، ولقد قال عليه الصلاة والسلام فى ذلك: «اللهم من ولى من أمر أمتى شيئا فرفق بهم، فارفق به، ومن ولى من أمر أمتى شيئا فشق عليهم فاشقق عليه» .

ولقد أدرك هذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه بهدى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم واتخاذه له قدوة فكان لا يولى إلا من يشعر منه بأنه يكون فى ولايته شفيقا رحيما إلا إذا وجب حد، فإنه لا شفقة، والرحمة بالكافة تقتضى إقامته.

ولقد دخل على عمر رضى الله عنه رجل، وكان عمر قد اعتزم أن يوليه ولاية، فرأى عمر يقبل بعض ولده، فقال الرجل أو تقبل ولدك يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم، وأنت ألا تقبل ولدك؟ قال: لا، فقال الفاروق: وأنا لا أوليك، من لم يرحم ولده لا يرحم رعيته.

صدقه وأمانته وعفته

إن حديث صدق الرسول عليه الصلاة والسلام يعد من نافلة القول فى هذا المقام، وكذلك أمانته وعفته، فهو الصادق الذى عرف بالصدق من منذ أن وعى إلى أن قبضه الله تعالى إليه، فما عرفت عليه كذبة قط فى حياته كلها صلى الله تعالى عليه وسلم.

وإن الكذب لم يكن من أخلاق كبراء العرب، فإن الحرية التى كانت لهم بمقتضى قيامهم فى بلاد لا يسيطر فيها طاغ يتحكم فى عقولهم ونفوسهم، وألسنتهم وتفكيرهم، ولم يكن عندهم الملق الذى يجعلهم يدهنون فى القول رجاء خير يبتغونه، وإنه حيث يحكم الملك العضوض، وتسيطر أهواء الحكام توجد صفتان متلازمتان، إحداهما النفاق، وثانيتهما الكذب، لأن النفاق فى ذاته كذب، والكذب لازمة من لوازمه، ولذا أثر عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «اية المنافق ثلاث إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» ولم يظهر في العرب نفاق أو كذب إلا ما كان يصاقب حواضر البلاد التى يحكمها ملوك أو أمراء كالملوك أو حكام مستبدون بشكل عام، كأراضى العرب التى كانت تجاور النعمان، أو الغساسنة فى الشام، فإنه يجوز أن يكون فيها النفاق والكذب والملق، ووراءهما خيانة الأمانات.

وإن التاريخ ليروى أن أبا سفيان، وقد كان زعيم الشرك فى الوقت الذى جرى فيه حديث بينه وبين هرقل ملك الروم عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد سأله عن نسبه الكريم، فقال إنه من أوسطنا نسبا، وعمن يتبعونه، وعن أسئله كثيرة تتعلق بأخلاق النبى عليه الصلاة والسلام، أجابه بالصدق غير مائن فيما يقول، ولقد قال، وهو محنق من أثر الحقائق التى ذكرها لهرقل: «لولا أنى أخشى أن يحفظ عنى كذبة فى العرب لكذبت» .

فعرب مكة والمدينة ووسط الصحراء لم يكن الكذب سائغا بينهم. وكذلك النفاق، ولم يعرف النفاق فى أوساط المسلمين الذين استجابوا إلا من اليهود ومن يجاورونهم من مشركى المدينة، فقد ظهر فيهم النفاق مقترنا بقوة المسلمين.

إذن لم يكن غريبا أن يكون محمد صلى الله تعالى عليه وسلم صادقا بين الصادقين.

ولكن صدق محمد ليس كصدق غيره من أهل مكة المكرمة ومن حولها، ولكنه صدق من أعده الله تعالى ليكون رسولا للعالمين، فأخلاقه صلى الله تعالى عليه وسلم كانت من إرهاصات النبوة. فلم يكن صلى الله تعالى عليه وسلم صادق القول فقط، بل كان صادق القول، وصادق الحس، وصادق النفس. ونقصد بصدق الحس بأن يكون نظره إلى الأشياء والأشخاص صادقا فى وصفها، مستبطنا من وراء الظاهر، ما يعرف حقائق استبطنها، ثم صادق فى النظر إلى نفسه، فيعرف مواضع الخير، فيفعلها، ويعرف مواضع الشر فيجتنبها، وهو صادق فى مقاصده، وصادق فى غاياته، يخلص فى إدراك الحقائق، والاتجاه اليها اتجاها مستقيما لا عوج فيه. فيستقيم إدراكه، ويصدق فى كل أمر يتصل بالقلب والضمير.

ولأن الإيمان أساسه الإخلاص فى العمل والقول والإذعان، لا يتصور إيمان مع كذب، ولقد سئل من بعد نبوته، أيكون المؤمن جبانا، فقال عليه الصلاة والسلام يجوز، وسئل أيكون بخيلا قال قد يكون بخيلا، وسئل أيكون المؤمن كذابا: قال: لا يكون المؤمن كذابا، إذ الكذب والإخلاص فى الاتجاه والقول والعمل نقيضان لا يجتمعان.

وأما الأمانة فحسبنا أن نعلم أن ذلك أمر رأته قريش كلها، وامنت به، حتى سمى بالأمين، كان يعرف بالأمانة، وينادى بالأمين، وإن الأمانة والصدق صنوان متلازمان، فلا أمانة من غير صدق، والصدق يقتضى كل الفضائل والكذب عش الرذائل.

عفة محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام كانت صيانة من الله تعالى صانه عن أن يلهو، ولا يمكن أن تكون الشهوات وانحرافها، إلا ومعها اللهو بكل ضروبه، وقد صانه الله لا عن الأهواء والشهوات المنحرفة، بل صانه عن مقدماتها، وعن أخذ أسبابها، فصانه عن اللهو ولو كان بريئا.

وقد ذكرنا من قبل كيف انساق وهو غلام إلى الرغبة فى أن يحضر عرسا فيه لهو، فإنه عندما ذهب إليه ضرب الله سبحانه وتعالى على ذاته بنعاس أصابه من غير غم، وما استيقظ من نعاسه حتى أيقظته الشمس فى ضحاها، وكذلك كان الأمر فى ليلة أخرى، حين استوى عوده، وكانت له إرادة مسيطرة على نفسه، كان عزوفه عن اللهو بإرادة مهدية مدركة، ولم يكن بنوم يصيبه الله تعالى به، ولذلك استعصم، ولم يحدث منه قط ما يكون انسياقا وراء هوى جامح، أو شهوة مسيطرة. حتى كان الزواج، فكان الحلال الذى لا مرية فيه.

الوفاء ورعاية العهد

إنه يستدل على سجايا الرجل بمقدار رعايته لمن كان لهم به صلة، وممن كانوا معه على عشرة طيبة، فيوفى بحق هذه العشرة، يرعاها حق رعايتها، يصلها ولا يقطعها، يذكرها ولا ينكرها، فالوفاء خلة الرجل الكريم، وبمقدار وفائه يكون مقدار ما اتاه الله تعالى من خلق سمح، ونفس مؤمنة بالخير، معترفة به لأهله.

وإن وفاء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لمن مضى من معاشريه يسترعى أنظار من قرأوا سيرته الطاهرة:

(أ) وأوضح مثل، وفاؤه لأم المؤمنين خديجة، يود صديقاتها، ويصل صلاتها، يذكرها بالخير والاعتراف بالجميل، حيث جاء ذكرها، حتى إن أم المؤمنين عائشة حبّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تقول: «ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة، لما كنت أسمعه صلى الله تعالى عليه وسلم يذكرها، وإن كان ليذبح الشاة، فيهديها إلى خلائلها. استأذنت عليها أختها فارتاح إليها ودخلت عليه امرأة، فبش لها وأحسن السؤال عنها، فلما خرجت قال: إنها كانت تأتينا أيام خديجة» .

وإن الوفاء لحسن العهد من الإيمان، وناهيك بأعظم من فى الوجود، فلابد أنه كان أوفاهم، ومما يتصل بوفائه لزوجه البارة خديجة أن عائشة من كثرة ثنائه عليها قالت له مرة: هل كانت إلا عجوزا بدلك الله خيرا منها» فقال عليه الصلاة والسلام: لا والله ما أبدلنى خيرا منها … امنت بى إذ كفر الناس، وصدقتنى إذ كذبنى الناس، وواستنى بمالها إذ حرمنى الناس، ورزقنى الله منها الولد دون غيرها من النساء» .

وكان لفرط وفائه إذا رأى أحدا من أولادها من غيره فاض عليه بالعطف والحنان، إذ قد سمع صوت ابنها هالة قد جاء إليه، فخرج إليه مناديا فى لهفة فرح: هالة، هالة.. وأكرمه، وبالغ فى إكرامه.

(ب) ومن أوضح وفائه عليه الصلاة والسلام وعرفانه للجميل ما روى عن أبى قتادة أنه لما جاء وفد النجاشى ملك الحبشة الذى اوى أهل الهجرة إلى الحبشة وأكرمهم- قام النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يخدمهم بنفسه، فقال له أصحابه: نكفيك يا رسول الله خدمتهم. فقال محمد الوفى العارف للجميل: «إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين، وأحب أن أكافئهم» .

نعم إن محمدا عليه الصلاة والسلام يجازى الإحسان بمثله، وإلا ضاع العرف بين الناس، وهو أسوتهم.

(ج) ومن كريم وفائه، ولطف مودته وعدم نسيان من ارتبط معهم برباط من مودة وعشرة مهما يتباعد زمانها، فإن الكريم لا ينسى عشرة من عاشرهم ضعفوا أو علوا، قدم عهداهم، أو قرب، وقد وجد أختا له من الرضاع اسمها الشيماء من سبايا هوازن، فتعرفت له، فلما عرفها، بسط لها رادءه، وقال لها إن أحببت أقمت عندى مكرمة محببة، أو متعتك ورجعت إلى قومك، فاختارت قومها، فأرسلها.

وعن عمرو بن السائب أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان جالسا يوما، فأقبل أبوه من الرضاعة فوضع له بعض ثوبه، فقعد عليه، ثم أقبلت أمه، فوضع لها شق ثوبه من الجانب الاخر فجلست عليه، ثم أقبل أخوه من الرضاعة، فقام صلى الله تعالى عليه وسلم فأجلسه بين يديه.

(د) وأنه ليوفى حتى لمن فرح بولادته، فقد كانت جارية لأبى لهب قد أرضعت النبى عليه الصلاة والسلام أول ولادته، وخرجت فبشرت أبا لهب بالولادة، وأعتقها أبو لهب لهذه البشارة. فكان محمد صلى الله تعالى عليه وسلم يبعث إليها بصلة مستمرة موصولة ما كانت حية، فلما ماتت سأل عمن بقى من ذوى قرابتها، قيل: لا أحد.

ولقد كان فى جملة أخلاقه أنه يصل رحمه، ولو لم يكونوا له نصراء وأولياء، فهو لا يصل رحمه مكافئا، ولكن يصلهم راحما، وقد روى أنه عليه الصلاة والسلام قال عن بعض ذوى رحمه: «ليسوا لى بأولياء غير أن لهم رحما سأبلها ببلالها» (34) .