مما شاع عند كثير من المشايخ والعلماء والمفتين والباحثين والدعاة والوعاظ أن الإمام ابن تيمية – رحمه الله- هو من انفرد بفتوى أن الطلاق الثلاث باللفظ الواحد يقع واحدة، حتى إن من يخالف هذا الرأي يدعي أن الإمام ابن تيمية وحده قد خالف جماهير الفقهاء.

ومن المقرر فقها أن القول بوقوع الطلاق الثلاث ثلاثا هو قول المذاهب الأربعة وجمهور السلف والخلف، كما   قال الصنعاني: (الثاني: أنَّه يقَعُ به الثَّلاثُ، وإليه ذهب عُمَرُ وابنُ عَبَّاسٍ وعائِشةُ، وروايةٌ عن عليٍّ والفُقَهاءِ الأربعةِ، وجُمهورِ السَّلَفِ والخَلَفِ، واستدلُّوا بآيات الطَّلاقِ، وأنَّها لم تُفَرِّقْ بين واحدةٍ ولا ثلاثٍ). (سبل السلام (2/256).

على أن المسالة خلافية بين السلف والخلف، كما جاء عن ابن القيم في «إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان» (1/ 564): ” أن أبا الحسن علي بن عبد الله بن إبراهيم اللَّخمي المتيطي، صاحب كتاب «الوثائق الكبير»، الذي لم يُصنَّف في الوثائق مثله، حكى الخلاف فيها عن السلف والخلف، حتى عن المالكية أنفسهم.

وممن حكى الخلاف قبله الفقيه الحنفي أبو جعفر الطحاوي في شرح معاني الآثار (3/ 55)، وكذلك أبو الوليد هشام بن عبد الله بن هشام الأزدي القُرْطُبي صاحب كتاب «مفيد الحكام فيما يعرض لهم من النوازل والأحكام» ذكر الخلاف بين السلف والخلف في هذه المسألة، وغيرهم كثير.

والقصد هنا التأكيد على أن من طلق ثلاثا بلفظ واحد هل يقع ثلاثا أم واحدة مسألة خلافية منذ زمن الصحابة إلى يومنا هذا، ولم يخل عصر من العصور إلا وقد وجد فيه من قال إنه يقع طلقة واحدة.

حتى بعد قضاء عمر – رضي الله عنه- لم يرتفع الخلاف، بل ظل الخلاف موجودا في طبقة الصحابة كما صح عن الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف، وظهر الخلاف أكثر في زمن التابعين وتابعي التابعين وأتباع تابعي التابعين وفي زمن الخلف كما كان في زمن السلف، وسيظل الخلاف باقيا إلى أن يقوم الناس لرب العالمين.

من سبق ابن تيمية في وقوع الطلاق بلفظ ثلاثا واحدة؟

من الصحابة:

فمن الصحابة قال بذلك:

1 – عبد الرحمن بن عوف: توفي سنة: 32هـ

2 – ورواية عن عبد الله بن مسعود: توفي سنة: 32ه

3 – وهو رأي الزبير بن العوام : توفي سنة: 36ه

4 – ورواية عن علي بن أبي طالب: توفي سنة 40 هـ

5 – وهو أحد رأيي ابن عباس. توفي سنة: 68 هـ

من التابعين:

ومن التابعين:

1 – التابعي عكرمة البربري، توفي سنة: 80هـ

2 – سعيد بن جبير: توفي سنة: 95هـ

3 – خلاس بن عمرو الهجري البصري: في حدود 91 إلى 100 هـ

4 – عطاء بن يسار ( 19 – 103هـ )

5 – أبو الشعثاء: جابر بن زيد ( 21 – 93 وقيل 103 هـ )

6 – التابعي طاووس بن كيسان: توفي سنة: 106هـ

7 – الحسن البصري ( 21 – 110 هـ )

8 – محمد الباقر بن علي بن الحسين ( 56 – 114 هـ )

طبقة تابعي التابعين:

1 – الحارث بن يزيد العكلي من فقهاء الكوفة، توفي: 111هـ

2 – عمرو بن دينار ( 46 – 126هـ )

3 – جعفر بن محمد ( جعفر الصادق) ( 80 – 148 هـ )

4 – محمد بن إسحاق: 80-151هـ

5 – وهي رواية عن مالك بن أنس: توفي: 179هـ

 أتباع تابعي التابعين:

وممن قال بهذا الرأي من أتباع تابعي التابعين:

1 – ابن أبي شيبة  159 هـ – 235 هـ

2 – يحيى بن معين:    – 233هـ

3 – إسحاق بن راهويه ( 161 – 238 هـ )

4 – سحنون   240 هـ

5 – محمد بن مقاتل الرازي ، من الطبقة الثانية من أصحاب أبي حنيفة ، توفي: 242هـ

6 – داود بن علي الظاهري (201 – 270هـ) وعلى رأيه أغلب أصحابه من الظاهرية.

‌7 – محمد ‌بن ‌عبد ‌السلام ‌الخشني القرطبي الحافظ من ولد أبي ثعلبة توفي 286

8 – والإمام محمد بن وضّاح  (199 هـ – 287 هـ) محدّث أندلسي

ومن فقهاء القرن الرابع الهجري:

أحمد ‌بن ‌بقى ‌بن ‌مخلد: قاضى القضاة بالأندلس. ‌توفى سنة 324هـ

ومن فقهاء القرن الخامس الهجري:

‌1 – أحمد ‌بن ‌مغيث ‌الطليطلي المالكي (ت 459 هـ)

2 – محمد بن زنباع من فقهاء الأندلس بقرطبة، ولم أقف على ترجمة له.

3 – أصبغ بن الحباب، ولم أقف على ترجمة له.

ومن فقهاء القرن السابع الهجري:

المجد ابن تيمية الجد: (590هـ) و توفي (652هـ) .

ومن فقهاء القرن الثامن الهجري:

1 – ابن تيمية: ( 661 – 728 هـ )

2 – ابن القيم: ( 691 – 751 هـ ).

ونقل هذا الرأي داخل المذاهب الفقهية ، فقد قال به بعض الحنفية وبعض المالكية وبعض الحنابلة. ولم أقف على من قال به من الشافعية.

الآثار في وقوع الطلاق بلفظ الثلاث واحدا

الأثر عن ابن عباس:

ما رواه أبو داود وغيره من حديث حَمّاد بن زَيد، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: إذا قال أنت طالق ثلاثًا بفمٍ واحد فهي واحدة.

وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن أيوب، قال: دخل الحَكَمُ بن عُتيبة على الزهري بمكة، وأنا معهم، فسألوه عن البِكْر تُطَلَّق ثلاثًا، فقال: سُئل عن ذلك ابنُ عباس، وأبو هريرة، وعبد الله بن عَمرو، فكلّهم قالوا: لا تَحِلّ له حتى تنكح زوجًا غيره، قال: فخرج الحكمُ وأنا معه، فأتى طاوسًا وهو في المسجد، فأكبَّ عليه فسأله عن قول ابن عباس فيها، وأخبره بقول الزهري، قال: فرأيت طاوسًا رفع يديه تَعَجُّبًا من ذلك، وقال: والله ما كان ابنُ عباس يجعلها إلا واحدةً. مصنف عبد الرزاق (6/ 335) وهذا الإسناد على شرط البخاري»

الأثر عن طاووس وعطاء:

قال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جُريج، عن ابن طاوس، عن أبيه: أنه كان لا يرى طلاقًا ما خالف وجهَ الطلاق، ووجه العِدّة، وأنه كان يقول: يُطلقها واحدة، ثم يَدَعُها حتى تنقضي عدتها. ( مصنف عبد الرزاق (6/ 302)، وصحّحه المصنف في الصواعق (2/ 628)

وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا إسماعيل بن عُلَيّةَ، عن ليثٍ، عن طاوس وعطاء، أنهما قالا: إذا طلق الرجل امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها فهي واحدة. ( مصنف ابن أبي شيبة (4/ 69)، ورواه عبد الرزاق (6/ 336) )

فى «الموطأ» (1181): عن النعمان بن أبي عَيّاش عن عطاء بن يسار، قال: جاء رجل يستفتي عبد الله بن عَمرو بن العاص عن رجل طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يَمَسّها، قال عطاء: فقلت: إنما طلاقُ البكر واحدة، فقال لي عبد الله: إنما أنت قاصّ! الواحدة تبينها، والثلاث تُحرِّمها، حتى تنكح زَوجًا غيره. والأثر مروي في مصنف عبد الرزاق (6/ 334).

الأثر عن محمد بن إسحاق:

أن هذا مذهب محمد بن إسحاق، عن داود بن الحُصين، حكاه عنه الإمام أحمد في رواية الأثرم.

ولفظه: حدثنا سعد بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عِكرمة، عن ابن عباس: أن رُكانة طلق امرأته ثلاثًا، فجعلها النبي – – واحدة. قال أبو عبد الله: «وكان هذا مذهب ابن إسحاق، يقول: خالف السّنة، فَيُرَدّ إلى السنة» «إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان» (1/ 560):

الأثر عن إسحاق بن راهويه:

قال محمد بن نصر المروزي في كتاب «اختلاف العلماء» له: وكان إسحاق يقول: طلاق الثلاث للبكر واحدة، وتأول حديث طاووس عن ابن عباس ــ كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله – – وأبى بكر وعمر يُجعل واحدة ــ على هذا. ( اختلاف العلماء للمروزي، (ص 133)).

مذهب عمرو بن دينار في الطلاق قبل الدخول

قال ابن المنذر في كتابه «الأوسط»: «وكان سعيد بن جُبير، وطاوس، وأبو الشعثاء، وعطاء، وعمرو بن دينار يقولون: من طلق البكر ثلاثًا فهي واحدة» مصنف عبد الرزاق (6/ 335)

الأثر عن الحسن البصري:

عن قتادة، قال: سألتُ الحسن عن الرجل يطلِّق البكر ثلاثًا، فقالت أم الحسن: وما بعد الثلاث؟ فقال: صدقت، وما بعد الثلاث؟ فأفتى الحسن بذلك زمنًا، ثم رجع، وقال: واحدةٌ تبينها، ويخطُبُها. فقاله حياتَهُ.   مصنف عبد الرزاق (6/ 332)

بعض نقول العلماء

الإمام ابن تيمية:

قال: «ومثل ذلك قال الزبير بن العوَّام وعبد الرحمن بن عوف، روينا ذلك كلَّه عن ابن وضّاح. يعني الإمام محمد بن وضّاح الذي يأخذ عن طبقة أحمد بن حنبل وابن أبي شيبة ويحيى بن معين وسحنون ابن سعيد وطبقتهم.

قال: وبه قال شيوخُ قرطبة: ابن زنباع شيخ هدًى، ومحمد بن عبد السلام الخشني فقيه عصرِه، وابن بقيّ بن مخلد، وأصبغ بن الحباب، وجماعة سواهم من فقهاء قرطبة.

قلت: وقد ذكر التلمساني هذا رواية عن مالك، وهو قول محمد بن مقاتل الرازي من أئمة الحنفية، حكاه عنه المازري وغيره، ويفتي بذلك أحيانًا الشيخُ أبو البركات ابنُ تيميةَ. وهو وغيره يحتجون بالحديث الذي رواه مسلم في “صحيحه” وأبو داود وغيرهما عن طاووس عن ابن عباس أنه قال: كان الطلاق على عهد رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحد، فقال عمر بن الخطاب: إنّ الناس قد أستعجلوا في أمرٍ كانت فيه أناة، فلو أمضيْناه عليهم، فأمضاه عليهم. وفي رواية: إن أبا الصهباء قال لابن عباس: هات من هناتك، ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وأبي بكر واحدة؟ قال: قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق، فأمضاه عليهم»  «جامع المسائل – ابن تيمية – ط عطاءات العلم» (1/ 346):

الإمام ابن القيم:

قال:«وكل صحابي من لدن خلافة الصديق إلى ثلاث سنين من خلافة عمر كان على أن الثلاث واحدة فتوى أو إقرارا أو سكوتا، ولهذا ادعى بعض أهل العلم أن هذا إجماع قديم، ولم تجمع الأمة ولله الحمد على خلافه، بل لم يزل فيهم من يفتي به قرنا بعد قرن، وإلى يومنا هذا، فأفتى به حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس كما رواه حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس: ” إذا قال أنت طالق ثلاثا بفم واحدة فهي واحدة ” وأفتى أيضا بالثلاث، أفتى بهذا وهذا.

وأفتى بأنها واحدة ‌الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن ‌عوف، حكاه عنهما ابن وضاح، وعن علي كرم الله وجهه وابن مسعود روايتان كما عن ابن عباس، وأما التابعون فأفتى به عكرمة، رواه إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عنه، وأفتى به طاوس، وأما تابعو التابعين فأفتى به محمد بن إسحاق، حكاه الإمام أحمد وغيره عنه، وأفتى به خلاس بن عمرو والحارث العكلي، وأما أتباع تابعي التابعين فأفتى به داود بن علي وأكثر أصحابه، حكاه عنهم أبو المفلس وابن حزم وغيرهما، وأفتى به بعض أصحاب مالك، حكاه التلمساني في شرح تفريع ابن الجلاب قولا لبعض المالكية.

وأفتى به بعض الحنفية، حكاه أبو بكر الرازي عن محمد بن مقاتل، وأفتى به بعض أصحاب أحمد، حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية عنه، قال: وكان الجد يفتي به أحيانا…. والمقصود أن هذا القول قد دل عليه الكتاب والسنة والقياس والإجماع القديم، ولم يأت بعده إجماع يبطله، ولكن رأى أمير المؤمنين عمر – رضي الله عنه – أن الناس قد استهانوا بأمر الطلاق، وكثر منهم إيقاعه جملة واحدة؛ فرأى من المصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم؛ ليعلموا أن أحدهم إذا أوقعه جملة بانت منه المرأة وحرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره نكاح رغبة يراد للدوام لا نكاح تحليل، فإنه كان من أشد الناس فيه، فإذا علموا ذلك كفوا عن الطلاق المحرم، فرأى عمر أن هذا مصلحة لهم في زمانه. «إعلام الموقعين عن رب العالمين» (3/ 34 – 35 ط العلمية):

المرداوي:

 قال المرداوي: «ثم اختلف أهل العلم بعد إجماعهم على أنه مطلق كم يلزمه من الطلاق؟ فقال علي، وابن مسعود – رضي الله عنهما -: يلزمه طلقة واحدة. وقاله ابن عباس – رضي الله عنهما -. وقال: قوله ” ثلاثا ” لا معنى له، لأنه لم يطلق ثلاث مرات. وقاله ‌الزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن ‌عوف – رضي الله عنهما -. ورويناه عن ابن وضاح. وقال به من شيوخ قرطبة: ابن زنباع، ومحمد بن بقي بن مخلد، ومحمد بن عبد السلام الخشني، فقيه عصره، وأصبغ بن الحباب، وجماعة سواهم. وقد يخرج بقياس من غير ما مسألة من المدونة ما يدل على ذلك وذكره وعلل ذلك بتعاليل جيدة. انتهى.

فوقوع الواحدة في ‌الطلاق ‌الثلاث الذي ذكرناه هنا لكونه طلاق بدعة: لا لكون الثلاث واحدة»

«ثم اختلف أهل العلم بعد إجماعهم على أنه مطلق كم يلزمه من الطلاق؟ فقال علي، وابن مسعود – رضي الله عنهما -: يلزمه طلقة واحدة. وقاله ابن عباس – رضي الله عنهما -. وقال: قوله ” ثلاثا ” لا معنى له، لأنه لم يطلق ثلاث مرات. وقاله ‌الزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن ‌عوف – رضي الله عنهما -. ورويناه عن ابن وضاح. وقال به من شيوخ قرطبة: ابن زنباع، ومحمد بن بقي بن مخلد، ومحمد بن عبد السلام الخشني، فقيه عصره، وأصبغ بن الحباب، وجماعة سواهم. وقد يخرج بقياس من غير ما مسألة من المدونة ما يدل على ذلك وذكره وعلل ذلك بتعاليل جيدة. انتهى.

فوقوع الواحدة في ‌الطلاق ‌الثلاث الذي ذكرناه هنا لكونه طلاق بدعة: لا لكون الثلاث واحدة»

«الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي» (8/ 455 ت الفقي):

الطاهر ابن عاشور:

 قال الطاهر ابن عاشور: «وقال علي بن أبي طالب وابن مسعود وعبد الرحمن ابن عوف والزبير بن العوام ومحمد بن إسحاق وحجاج بن أرطاة وطاووس والظاهرية وجماعة من مالكية الأندلس: منهم محمد بن زنباع، ومحمد بن بقي بن مخلد، ومحمد بن عبد السلام الخشني، فقيه عصره بقرطبة، وأصبغ بن الحباب من فقهاء قرطبة، وأحمد بن مغيث الطليطلي الفقيه الجليل، وقال ابن تيمية من الحنابلة: إن طلاق الثلاث في كلمة واحدة لا يقع إلا طلقة واحدة وهو الأرجح من جهة النظر والأثر» «التحرير والتنوير» (2/ 418)