إن الصدور عن قول أو رأي بعد تروٍ وطول تأمل وتقليب نظر، سمة من سمات أهل العلم والعقلاء، ومن الأناة والتأني الذي يحبه الله تعالى في عباده. فقد ورد في الحديث الشريف، حيث قال لأشج عبد القيس: “إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة”[1]

ويُفهم من ذلك أن المتصف بالتؤدة في دراسة الأمور وتدبرها قلما يتعداه الصواب في تقريراته، بينما تُعد العجلة والتسرع في الحكم والرأي مظنة للأخطاء ومخاطر الزلل والخطل، ودليلًا على الشطط في حرم العلم والفهم. فتظهر خطورة الجرأة والتسرع في الحسم، خاصةً إذا كان الأمر متعلقًا بالمسائل العلمية العميقة التي قد تنشأ عنها أحكام من أجل تبديع وتفسيق أو التكفير.

ولذلك، يجب عدم الخوض في المسائل الكبار والجزم بالحكم فيها إلا بعد السبر والنظر الفاحص في التخريج والتنقيح قبل تحقيق مناط الحكم، كما دأب أهل العلم الثقات قاطبة. وفي هذا الصدد، نجد نصيحة الإمام عثمان الدارمي وتحذيره من التعجل في التبديع، حيث يقول:

” والبدعة أمرها شديد، والمنسوب إليها سيء الحال بين أظهر المسلمين، فلا تعجلوا بالبدعة حتى تستيقنوا… وكيف تستعجلون أن تنسبوا إلى البدعة أقواما في قول قالوه ولا تدرون أنهم أصابوا الحق في قولهم ذلك أم أخطؤوه،… فلا يجوز لرجل أن ينسب رجلا إلى بدعة بقول أو فعل حتى يستيقن”[2]

فلا يجوز نسب شخص إلى البدعة على مجرد الظن أو تبعًا لقول فلان أو تقليد دون التثبت والتيقن، لما يترتب عليه من وسم مسلم بريء بأمر سوء واستحلال عرضه. وعليه، ينبغي مرد قضايا التكفير والتبديع وكبار المسائل إلى كبار العلماء الراسخين في العلم.

ومن المسائل الكبار التي يجب الحذر قربانها وإصدار الحكم فيها: مسائل الأوراد والأذكار والأدعية غير مأثورة، والتي قد لا تظهر شرعيتها وإباحتها إلا بعد بحث وتكرار نظر في شأنها، لما فيها من الشبه وتقارب صورها بالبدعة، وكذا الأمر فيما يسمى بتجاريب الصالحين أو المجربات الشرعية، وفيما يلي عرض لفقرات من أحوال السلف الصالح في هذا الباب.

الأوراد

الأوراد (جمع ورد)، ويقصد بها ما يواظب ويداوم عليه من الأعمال والعبادات والطاعات دون الانقطاع ولو كان شيئا يسيرا.

وقد ورد هذا المعنى من قول رسول الله :” من نام عن حزبه، أو عن شيء منه، فقرأه فيما بين صلاة الفجر، وصلاة الظهر، كتب له كأنما قرأه من الليل”[3]

ومعنى حزبه: ورده من الصلاة أو القرآن الذي كان يعتاده، وفي أثر عن عمر بن الخطاب أنه قال: ” من فاته ورده من الليل… [4] ودل على أن لفظ الورد من الألفاظ الدارجة عند السلف.

كما جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لما سئلت عن رسول الله : هل كان يخص شيئاً من الأيام؟ قالت: “لا، كان عمله ديمة”.[5] تعني عمله مستمر حتى الوفاة.

وقال : “أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل”[6]

وقال لعبد الله بن عمرو: “يا عبد الله لا تكن مثل فلان .. كان يقوم من الليل فترك قيام الليل[7].

وقال القاسم بن محمد: “وكانت عائشة إذا عملت العمل لزمته ” [8]

وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن فاطمة عليها السلام أتت النبي تسأله خادما فقال: ألا أخبرك ما هو خير لك منه؟ تسبحين الله عند منامك ثلاثا وثلاثين، وتحمدين الله ثلاثا وثلاثين، وتكبرين الله أربعا وثلاثين” ثم قال سفيان: إحداهن أربع وثلاثون، فما تركتها بعد. قيل: ولا ليلة صفين؟ قال: ولا ليلة صفين”[9]

المقصود هنا أن المحافظة على أي عمل صالح، سواء قل أو كثر، فاضل أو مفضول، هو الورد والحزب

 وقال الحسن البصري: “إن الله لم يجعل لعمل المؤمن أجلا دون الموت ثم قرأ قوله عز وجل: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} (الحجر 99).[10]

ومن هذه الأوراد ما كانت مشروعية وغير مشروعية لكنها جائزة.

الأوراد المشروعة

الأوراد المشروعة هي المأثورات من الأدعية والأذكار ونحوهما سواء من الكتاب والسنة، وتنقسم المأثورات إلى قسمين:

الأوراد المطلقة

وهي التي لم يجعل لها الشرع وقتا أو مكانا معينا، وإنما حث على الاكثار منها مطلقا والمحافظة عليها بالاستمرار، كما قال عليه الصلاة والسلام:” لا يزال لسانك رطباً بذكر الله”[11] ويشمل ذلك التسبيح والتكبير والتهليل والحوقلة والحمدلة والاستغفار والتوبة وغيرها، ليلا كان أو نهارا، قياما أو قعودا. وذكرت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي كان يذكر الله على كل أحيانه.

الأوراد المقيدة

وهي الأوراد التي وردت مقيدة بالوقت أو بالمكان أو بالعدد أو بالهيئة، بدءا من عند الاستيقاظ والقيام من النوم، وصولاً إلى أذكار النوم في الليل، وما يتخلل ذلك من أذكار الخلاء، واللباس، والأكل والشرب، والخروج من المنزل والرجوع إليه، والصباح والمساء، ودخول المسجد والخروج منه، وما يقال في أثناء وعقب الصلوات المكتوبة من الذكر والدعاء، وغيرها من عمل الليل والنهار، أو ما يقال في بعض المواسم والأحوال الخاصة. وللعلماء كتب مؤلفة في تتبع جميع هذه الأذكار والأدعية المقيدة، ومن أشهرها كتاب الأذكار للإمام النووي رحمه الله تعالى.   

الأوراد الجائزة

أما الأوراد الجائزة فهي التي لم يرد دليل لا من الكتاب ولا من السنة الصحيحة إما بلفظها أو معناها أو تقييدها، لكن ليس فيها ما يخالف الشرع، كما في عموم الأدعية التي يدعو بها الإنسان لنفسه حسب أحواله وحاجاته وقد قال عليه الصلاة والسلام: “ليتخير أحدكم من الدعاء أعجبه إليه فليدع الله عز وجل”[12] ويقاس على ذلك كل ما يتخذه الناس من العبادات والقربات كحزب أو ورد يداومون عليه ويجعلونه من برامج حياتهم.

يقول أبو العباس ابن تيمية: ” وأما محافظة الإنسان على أوراد له من الصلاة، أو القراءة، أو الذكر، أو الدعاء طرفي النهار وزلفا من الليل، وغير ذلك. فهذا سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والصالحين من عباد الله قديما وحديثا “[13]

ويقصد بسنة رسول الله سنة الالتزام والمداومة على مطلق الورد، كما في قوله :”أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل”.

من صور الأوراد الجائزة

تحديد الورد لعدد ركعات الصلاة : قد التزم بعض السلف الصالح بعدد معين من الصلاة يقومون بها في كل يوم وليلة على الدوام:

  • ذكر في مرآة الجنان: أن الأسود بن يزيد النخعي التابعي الجليل، الكوفي، الفقيه، العابد، كان يصلي في اليوم والليلة سبع مائة ركعة.[14]
  • وعن عبد الله بن الإمام أحمد قال: ” كان أبي يصلي في كل يوم وليلة ثلاثمائة ركعة، (300 ركعة) فلما مرض من تلك الأسواط أضعفته، فكان يصلي في كل يوم وليلة مائة وخمسين ركعة وكان قرب الثمانين.[15]
  • وتبع الإمام عبد الغني المقدسي الإمام أحمد في ذلك، وكان يصلي بنفس العدد (300 ركعة) كل يوم وليلة، وكان يقرأ في الركعتين بالفاتحة والمعوذتين كما ذكره عنه الإمام الذهبي في كتابه [16]

تحديد الورد للقرآن الكريم: قال ابن قتيبة: الحزب من القرآن الورد، وهو شيء يفرضه الإنسان على نفسه يقرؤه كل يوم. وقد مضت سنة الصحابة الكرام على الالتزام بتحزيب القرآن الكريم ومقدر الورد اليومي.

قال أوس: فسألت أصحاب رسول الله ـ ـ كيف تحزبون القرآن؟ قالوا: ثلاث وخمس وسبع وتسع وإحدى عشرة وثلاث عشرة وحزب المفصل “[17]

وغالب الأوراد القرآنية عند السلف من الصحابة وغيرهم على هذا التقسيم:

  • منهم ما كان ورد ختمهم في كل أربع، كأبى الدرداء
  • منهم من يختم في كل خمس وست، كعلقمة والأسود
  • وكثير منهم من جعل ختمه في كل سبع، كعثمان وابن مسعود وتميم الداري وعروة.

وقال الحافظ ابن كثير: “وقد كره غير واحد من السلف قراءة القرآن في أقل من ثلاث” كما هو مذهب أبي عبيدة وإسحاق بن راهويه وغيرهما من الخلف.[18].

وقال أبو العباس ابن تمية: “فالصحيح عندهم أنه أمره – أي عبد الله بن عمرو بن العاص – ابتداءً بقراءته في الشهر، فجعل الحد ما بين الشهر إلى الأسبوع.. ولا يلزم إذا شرع فعل ذلك أحياناً – التثليث – لبعض الناس أن تكون المداومة على ذلك مستحبة، ولهذا لم يُعلم من الصحابة على عهده مَن دوام على ذلك؛ أعني على قراءته دائماً فيما دون السبع؛ ولهذا كان الإمام أحمد – رحمه الله – يقرؤه في كل سبع”.[19]

تحديد الورد للأذكار: كان تحزيب الأذكار من ضمن برنامج يومي لدى السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، حيث كانوا يحزبون بعض الأذكار بالرقم المعين.

قال سعيد بن عبد العزيز لأبي الدرداء: أرى لسانك لا يفتر من ذكر الله عز وجل، فكم تسبح في كل يوم؟ قال: مائتي ألف مرة إلا أن تخطئ الأصابع “[20]

وكان لأبي هريرة رضي الله تعالى عنه خيط فيه ألف عقدة فلا ينام حتّى يسبّح به.

كذلك ورد عنه أنه قال:” إني لأستغفر الله وأتوب إليه كل يوم اثني عشر ألف مرة وذلك على قدر ذنبي”[21]

وكان خالد بن معدان -التابعي الجليل- يسبّح كلّ يوم أربعين ألف تسبيحة[22]

وكذا كانت عادة عمير بن هاني أنه كان يسبح ألف تسبيحة.[23]

الناظر في هذه الأوراد السابق الذكر يجد أنها ليست مأثورة بهذا الشكل المرتب، لا من الكتاب ولا من السنة فإنما هو تحزيب محدث وورد خصصه هؤلاء الأفاضل لأنفسهم دون غيرهم تنشيطا للهمم، ومضيا للعزائم الصادقة في الطاعة الدائمة.

المجربات

تشير المجربات إلى الانتفاع بالقرآن أو ببعض سوره أو آياته استشفاء أو اتقاء من أي أنواع الأدواء الروحية والعضوية أو غير ذلك مما اصطلح عليه بخواص القرآن الكريم، فإنه مندرج تحت مسمى المجربات التي يحصل بها التأثير إما من حيث جلب المصلحة والمنفعة أو دفع المفسدة والمضرة، سواء بالقرآن الكريم أو بالأذكار والأدعية المأثورة وغير المأثورة.

والأصل في المجربات الشرعية قصة أبي سعيد الخدري الشهيرة الصحيحة المروية في الصحيحين وغيرهما في الرجل الملدوغ الذي رقاه أبو سعيد بسورة الفاتحة بمقابل جعل من الغنم، رقاه بها فبرأ الرجل، ثم أخبر أبو سعيد رسول الله بما صنع فقال:” وما يدريك أنها رقية؟” هذا يدل على أنه اجتهاد من أبى سعيد خدري لا عن التوقيف، ثم قال :” قد أصبتم، اقسموا، واضربوا لي معكم سهما، فضحك رسول الله [24] مبالغة في الإقرار على صواب اجتهاد أبى سعيد الخدري رضي الله عنه.

قال الشوكاني:” وفي الحديث دليل على جواز الرقية بكتاب الله تعالى ويلتحق بما كان بالذكر والدعاء المأثور وكذا غير المأثور مما لا يخالف ما في المأثور.[25]

وعن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله دخل عليها وامرأة تعالجها أو ترقيها، فقال: “عالجيها بكتاب الله”[26]

بل ورد في الموطأ أن أبا بكر الصديق دخل على عائشة وهي تشتكي ويهودية ترقيها، فقال أبو بكر ارقيها بكتاب الله.[27]

أمثلة من تجريبات السلف والخلف

من أكثر الناس -من أئمة أهل السنة والجماعة- نقولا عن المجربات هما الشيخان ابن القيم وشيخه أبو العباس، فكتبهما طافحة بذكر تجارب وخواص القرآن الكريم، إما في جانب روحي أو جانب حسي كما ستأتي في الأمثلة القادمة.

المجربات في الجانب الروحي.

تأثير ذكر “يا حي يا قيوم” على حياة القلب والعقل

قال ابن القيم:” ومن تجريبات السالكين التي جربوها فألفوها صحيحة: أن من أدمن قول: ياحي! ياقيوم! لا إله إلا أنت؛ أورثه ذلك حياة القلب والعقل”.[28]

وجاء في كتاب أحوال الإمام الزاهد أبي عمر محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة بن نصر المقدسي: أنه كان يقول بين صلاة سنة الفجر والفرض، أربعين مرة يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت”[29]

ويقول ابن القيم:” كان شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه شديد اللهج بها جدا. وقال لي يوما: لهذا الاسمين ـ وهما الحي القيوم ـ تأثير عظيم في حياة القلب. وكان يشير إلى أنهما الاسم الأعظم. وسمعته يقول: من واظب على أربعين مرة كل يوم بين سنة الفجر وصلاة الفجر: يا حي! يا قيوم! لا إله إلا أنت، برحمتك أستغيث؛ حصلت له حياة القلب، ولم يمت قلبه.[30]

الذكر الذي يسهل فهم المسائل المغلقة

حكى ابن القيم عن حال أبي العباس ابن تيمية عند المسائل المستصعبة: ” وكان شيخنا كثير الدعاء..، وكان إذا أشكلت عليه المسائل يقول ” يا معلم إبراهيم علمني “[31]

ويقول أبو العباس ابن تيمية عن نفسه:ربما طالعت على الآية الواحدة نحو مائة تفسير، ثم أسأل الله الفهم وأقول يا معلم آدم وابراهيم علمني، وكنت أذهب إلى المساجد المهجورة ونحوها، وأمرغ وجهي في التراب وأسأل الله وأقول: يا معلم إبراهيم فهمني[32]

وقال ابن القيم:” وكان بعضهم يقرأ الفاتحة، وجربنا نحن ذلك فرأيناه أقوى أسباب الإصابة”[33].

قراءة آية معينة عند الدابة الصعبة

وفي كتاب الكلم الطيب لأبي العباس ابن تيمية باب في الدابة الصعبة، أورد فيه قول يونس بن عبيد رحمه الله: ما من رجل يكون على دابة صعبة، فيقول في أذنها: {أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون} (آل عمران: 83)، إلا وقفت بإذن الله تعالى. ثم قال أبو العباس: وقد فعلنا ذلك، فكان كذلك بإذن الله تعالى.[34]

قراءة آيات السكينة عند القلق والاضطراب

يقول ابن القيم وكان شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ إذا اشتدت عليه الأمور: قرأ آيات السكينة ـ يعني الآيات التي وردت فيها لفظ السكينة ـ وسمعته يقول في واقعة عظيمة جرت له في مرضه، تعجز العقول عن حملها ـ من محاربة أرواح شيطانية، ظهرت له إذ ذاك في حال ضعف القوة ـ قال: فلما اشتد علي الأمر، قلت لأقاربي ومن حولي: اقرءوا آيات السكينة، قال: ثم أقلع عني ذلك الحال وجلست وما بي قلبة، وقد جربت أنا أيضا قراءة هذه الآيات عند اضطراب القلب بما يرد عليه، فرأيت لها تأثيرا عظيما في سكونه وطمأنينته.[35]

تجد هذه الأحوال المذكورة أيضا أنها عارية عن الدليل الشرعي الخاص، وإنما هي ناتجة عن التجارب الشخصية المتكررة المثبتة للنفع المرجو.

المجربات في الجانب الحسي

الاستشفاء بالفاتحة: تقدمت تجربة أبى سعيد خدري في الرقية بالفاتحة، وجاءت نحوها عن عم خارجة بن الصلت حيث رقى رجلا معتوه بأم القرآن ثلاثة أيام غدوة وعشية،ثم تفل فكأنما أنشط من عقال، وأقره رسول الله على ذلك.

وقال ابن القيم:” وقد جربت أنا من ذلك في نفسي وفي غيري أمورا عجيبة ولا سيما مدة المقام بمكة، فإنه كان يعرض لي آلام مزعجة بحيث تكاد تقطع الحركة مني، وذلك في أثناء الطواف وغيره، فأبادر إلى قراءة الفاتحة، وأمسح بها على محل الألم، فكأنه حصاة تسقط، جربت ذلك مرارا عديدة، وكنت آخذ قدحا من ماء زمزم فأقرأ عليه الفاتحة مرارا، فأشربه فأجد فيه من النفع والقوة ما لم أعهد مثله في الدواء، والأمر أعظم من ذلك، لكن بحسب قوة الإيمان وصحة اليقين والله المستعان. [36]

وقال في زاد المعاد[37]ولقد مر بي وقت بمكة سقمت فيه، وفقدت الطبيب والدواء، فكنت أتعالج بها آخذ شربة من ماء زمزم وأقرؤها – يعنى الفاتحة – عليها مرارا، ثم أشربه فوجدت بذلك البرء التام، ثم صرت أعتمد ذلك عند كثير من الأوجاع فأنتفع بها غاية الانتفاع

علاج السحر: عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت لا ترى بأسا أن يعوذ في الماء ثم يصب على المريض[38]

وروى ابن أبي حاتم في تفسيره عن ليث بن أبي سليم قال:”بلغني أن هؤلاء الآيات شفاء من السحر بإذن الله تقرأ في إناء فيه ماء ثم يصب على رأس المسحور.

يقصد هذه الآيات: ﴿مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾ [يونس: 81-82]، (لأعراف: 117 – 122) (طه:69)

تسهيل عسر الولادة: عن ابن عباس، في المرأة يعسر عليها ولدها قال: يكتب في قرطاس ثم تسقى: بسم الله الذي لا إله إلا هو الحكيم الكريم، سبحان الله تعالى رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين، {كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار، بلاغ، فهل يهلك إلا القوم الفاسقون} [الأحقاف: 35] ، {كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها} [النازعات: 46][39]

وكان الإمام أحمد يصنع ذلك إذا تعسرت على المرأة الولادة، وجاءه رجل مرة فقال: يا أبا عبد الله تكتب لامرأة قد عسر عليها ولدها منذ يومين؟ فقال: قل له يجيء بجام واسع وزعفران، ورأيته يكتب لغير واحد.[40]

علاج الحمى: قال عبد الله بن الإمام أحمد:” رأيت أبي يكتب التعاويذ للذي يقرع وللحمى لأهله وقراباته… إلا أنه كان يفعل ذلك عند وقوع البلاء[41]

قال المروزي: بلغ أبا عبد الله أني حممت فكتب لي من الحمى رقعة فيها: بسم الله الرحمن الرحيم بسم الله وبالله محمد رسول الله {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين}. [الأنبياء: 69]اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل اشف صاحب هذا الكتاب بحولك وقوتك وجبروتك إله الحق آمين.[42]

وكان لأبي العباس ابن تيميةكتاب للحمى المثلثة: يكتب على ثلاث ورقات لطاف: بسم الله فرت، بسم الله مرت، بسم الله قلت، ويأخذ كل يوم ورقة، ويجعلها في فمه ويبتلعها بماء.[43]

علاج وجع الضرس: يقول ابن القيم في الزاد واصفا لعلاج وجع الضرس:” يكتب على الخد الذي يلي الوجع: بسم الله الرحمن الرحيم {قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون} [الملك: 23]، وإن شاء كتب {وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم} [الأنعام: 13] [44]

علاج الرعاف: يقول ابن القيم: كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يكتب على جبهته: {وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر} [هود: 44]

وسمعته يقول: كتبتها لغير واحد فبرأ.[45]

قال الشيخ ابن باز: ” أما كتابة الآيات والأدعية الشرعية بالزعفران في صحن نظيف أو أوراق نظيفة ثم يغسل فيشربه المريض فلا حرج في ذلك، وقد فعله كثير من سلف الأمة، كما أوضح ذلك العلامة ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد وغيره، إذا كان القائم بذلك من المعروفين بالخير والاستقامة [46].

والحق أن من لم ينتبه جدا لمسائل المجربات وحالات الناس فيها وكيفية التعامل معها؛ قد يتسرع إلى إلحاق الباب بالبدعة في الدين مباشرة، نظرا لفقدان مستند شرعي واضح مؤيد ظواهر بعض الأمور المجربة كما تراها فيما نقلها ابن القيم عن الإمام أحمد وأبي العباس وغيرهما، فمن الطبيعي أن تلبس هذه الظاهرة لباس البدعة من الوهلة الأولى لأن العبرة بالنصوص لا بالأشخاص، إلا أن سكوت رسول الله عن تجارب بعض الصحابة رضوان الله عليهم مشعر بأن الأصل العام في هذا الباب الإباحة والجواز، يعني أنه إذا ثبت نفع أمر ما بالتجربة والاجتهاد فلا يسمى أمرا محدثا على الصحيح ما لم يرد فيه المنع الشرعي.

علاقة البدعة بالأوراد والمجربات

تظهر البدعة في هذا الباب إذا تحقق أحد الشروط التالية:

  1. الاعتقاد بشرعية ما اخترعه الفرد: سواء كان ذلك بتقييد، أو بوضع شروط، أو بتحديد كيفية، أو وقت أو مكان معين ونحو ذلك، فيُعتبر جزءًا من الدين.
  2. الاعتقاد بأن للأوراد أو المجربات غير المأثورة فضلًا خاصًا: وذلك أن يعتقد أن ما أحدثه لنفسه من الأوراد وغيرها له فضل خاص دون أن يدل عليه دليل من الكتاب أو السنة. كما في قول أبي العباس ابن تيمية:” من واظب على أربعين مرة كل يوم بين سنة الفجر وصلاة الفجر: يا حي! يا قيوم! لا إله إلا أنت، برحمتك أستغيث؛ حصلت له حياة القلب، ولم يمت قلبه.” لو قال: من نقص هذا العدد أو زاد عليه لم تحصل له حياة القلب لكان من البدعة الصريحة.  
  3. تفضيل الأوراد أو المجربات غير المأثورة على المأثورة، فإن هذا الاعتقاد بدعة بلا شك، بل قد يؤدى إلى الشرك، لأنه أصبح بمن يرى عقله وتشريعه أفضل بما جاء به الشرع.
  4. دعوة الناس للعمل بتلك الأوراد والمجربات: وعليه فيظن الجاهل أنه أمر مسنون مشروع، أو توهم تصرفات العامل بذلك، أو تكون المواظبة على أمر غير مأثور ذريعة لإيقاع الجهلة في البدعة أو سببا لفتح أبواب الانحراف والزيغ ولو بعد الأمد. 
  5. إحداث أوراد وأدعية لا صلة لها بالشرع: مثل الكلمات والرسومات والأشياء التي تعدّ شركًا صريحًا، كالرقي بأسماء الجن أو النجوم، أو الاستشفاء بالمحرمات أو الاستغاثة بالأموات، أو تكرار كلمات أو أصوات لا دليل لها في الشرع.

الأولى التمسك بالمأثورات

على القول بعدم تضليل أو تبديع الأوراد أو المجربات غير المأثورة إذا سلمت المحاذير الشرعية، لقوله عليه الصلاة والسلام: “لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك”[47] إلا أنه يبقى أن الالتزام بالمأثورات أولى وأسلم من البدع، وأقرب إلى الصواب، وأضمن للنتيجة المرجوة، وأكثر أجرا، إضافة إلى أن فيه مزيد فضل نشر العلم الشرعي وتثقيف الناس وتقريبهم إلى المورد الصافي، وأن الاكتفاء بما جاء من الكتاب والسنة سواء مطلقا كان أو مقيدا، يعني التسليم التام وتفويض الأمر كله للأعلم بالأصلح والأنفع.

قال أبو العباس ابن تيمية:” لا ريب أن الأذكار والدعوات من أفضل العبادات، والعبادات مبناها على التوقيف والاتباع، لا على الهوى والابتداع، فالأدعية والأذكار النبوية هي أفضل ما يتحراه المتحري من الذكر والدعاء”[48]

وقال السفاريني:” ينبغي للعاقل تحري المأثور عن حضرة الرسالة لأن المصطفى أعلم العالم بالله تعالى دون أوراد الأشياخ، فالمصطفى معصوم في أقواله وأفعاله وخواطره ولا كذلك الأشياخ، هذا مع إنا مسئولون عن تمام الاقتداء به صلى الله عليه وآله وسلم بحسب وسعنا، ومن تمام ذلك إيثار المأثور عن جنابه من الأدعية والأوراد على أوراد المشايخ الأمجاد.“[49]

الخلاصة

إن الالتجاء إلى الله تعالى في الرخاء والشدة بما شرع في كتابه الكريم أو في السنة المطهرة هو الخيار الأحب إلى الله، على أن يكون ذلك من خلال ما ثبت من المأثور والمجرب من تجارب سلف الأمة. والاعتماد على ما جاء من الكتاب والسنة هو السبيل الأمثل لتفادي البدع والابتداع، مع تفويض الأمر للأعلم بالأصلح والأنفع.