الأخلاق في الإسلام عامةً، وفي القرآن خاصةً، مبثوثةٌ وحاضرة في كل جنباته: أصولها وفروعها، كلياتها وجزئياتها، مقاصدها ووسائلها، مأموراتها ومنهياتها، فرائضها وفضائلها…

ولذلك فإن ما تخصصه عادةً كتبُ الحديث الشريف من أبواب لحسن الخلق، وكذلك ما جمعَتْه وشرحته بعض الكتب من محاسن الأخلاق والشمائل، ومساوئ الأخلاق والرذائل، وكذلك الدراسات الأخلاقية القديمة والحديثة، لا تتناول في الغالب إلا ما كان ظاهرا وصريحا ومباشرا في هذا الباب. أما الأخلاق المفصلة الكاملة فأوسع من أن تُستقصَى وتُجمع، لكونها ثاويةً في كل المعاني والمباني الإسلامية. وإذا نظرنا – مثلا – إلى عمل الدكتور محمد عبد الله دراز وحده، وهو عبارة عن أطروحة جامعية محدودة، فسنجد أنه – لكي يبرز لنا (دستور الأخلاق في القرآن) – كاد أن يسرد لنا القرآن كله ويقول: تلكم هي المنظومة الأخلاقية في القرآن الكريم.

فلم يبق أمام بحث قصير محدود – كهذا – سوى الاقتصار على إيراد بعض التعبيرات الجامعة لقسمات المنظومة الأخلاقية ومناحيها وتوجهاتها في القرآن الكريم خاصة، وفي الإسلام عامة.

على أن تقديم صورة مركبة ومركزة للمنظومة الأخلاقية الإسلامية لا ينبغي أن يقتصر ولا أن يعتمد كثيرا على ما صاغه الفلاسفة الإسلاميون قديما، أو بعض أساتذة الفلسفة حديثا؛ لأن هؤلاء في الغالب ينطلقون من التراث الفلسفي اليوناني القديم، أو الأوروبي الحديث. وبعض المتقدمين ينتقون من الحكَم والآداب الفارسية والهندية ما لذ طَعمه وطاب ريحه… ثم يمزجون ذلك بجملة من الآيات والأحاديث والآثار الإسلامية. ولذلك قلما تجد عندهم الصورة الكاملة ولا الخالصة للمنظومة الأخلاقية الإسلامية.

وقد سعى الدكتور محمد عابد الجابري جاهدا إلى وضع اليد على ما يمثل جوهر “الأخلاقَ الإسلامية الحقيقية”، فأطال التطواف والترحال والبحث والفحص، إلى أن حط رحاله ووجد بعض ضالته عند الإمام عز الدين بن عبد السلام وكتابيه (قواعد الأحكام) و (شجرة المعارف والأحوال)

وخلافا للدكتور محمد عبد الله دراز الذي توصل إلى أن خلق “التقوى” هو الخلق المركزي والجوهري في المنظومة الأخلاقية الإسلامية ، فإن الجابري – وبناء على قراءته لعز الدين بن عبد السلام – انتهى إلى أن القيمة الأساسية للأخلاق الإسلامية تتمثل في “العمل الصالح”، أو “أخلاق العمل الصالح” .

نظرية الإحسان عند ابن عبد السلام

الذي يظهر بوضوح ويسر من قراءة كتاب (شجرة المعارف والأحوال) لابن عبد السلام، هو أن جوهر الأخلاق الإسلامية ومحركَها ومعيارَها عنده هو عنصر “الإحسان”. وهذا – في الحقيقة – ليس ببعيد عما قرره الجابري، بل يكاد يكون هو هو، ولكن الدقة والمطابقة لما في الكتاب تقتضيان القول – بدون تردد – بأن مضمون الكتاب كله مَبنيٌّ على عنصر الإحسان ومصطلح الإحسان، وأن ذلك ليس منحصرا في كون “العز بن عبد السلام يخص الإحسانَ باهتمام خاص (160 صفحة)، فيصنفه أصنافا…” .

فابن عبد السلام منذ بداية الكتاب يقول: “وبعد، فإن الله فضل الإنسان بالنطق والبيان، والعقل والعرفان، ثم أدبه بالقرآن، وأمره بكل بر وإحسان… “. ثم يضيف: “فانحصر الإحسان في جلب المصالح الخالصة أو الراجحة، وفي دفع المفاسد الخالصة، وانحصرت الإساءة في جلب المفاسد الخالصة أو الراجحة، وفي دفع المصالح الخالصة والراجحة “

وقد جعل البابَ الثاني “في التخلق بصفات الرحمن على حسب الإمكان”، وختمه ولخصه بالقول: “من أفضل التخلقات أن تحسن إلى عباد الله بمثل ما أَحسن به إليك، وأن تُنعم عليهم بمثل ما أَنعم به عليك. قال تعالى:{فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} [الضحى: 9، 10]، أي: عامل السائلَ بمثل ما عاملناك، فإنا وجدناك عائلا فأغنيناك، {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11]، أي: حدثهم بما أنعمنا به عليك من هدايتنا، فإنا وجدناك ضالا فهديناك”
وأما الباب السابع فهو “في الإحسان العام…”.

وقد بدأه بالقول: “كل من أطاع الله فهو محسن إلى نفسه بطاعته، فإن كان في طاعته نفعٌ لغيره فهو محسن إلى نفسه وإلى غيره. وإحسانه إلى غيره قد يكون عاما وقد يكون خاصا. والإحسان عبارة عن جلب مصالح الدارين أو إحداهما،، ودفع مفاسدهما أو إحداهما…”.

وأما الباب الثامن فجعله “في ضروب الإحسان المذكور في كتب الفقه”.

يليه الباب التاسع، وهو “في الإحسان بإسقاط الحقوق”،

فالباب العاشر، “في الإحسان ببذل الأموال”،

ثم الباب الحادي عشر “في الإحسان بالأخلاق والأعمال”،

والباب الثاني عشر “في الإحسان بالأقوال”،

والباب الثالث عشر “في الإحسان بالدعاء القاصر والمتعدي”،

ثم يأتي الباب السابع عشر بعنوان “في الإحسان المتعلق بالجهاد”،

وحتى حين تخلو عناوين بعض الأبواب من كلمة “الإحسان”، فإننا نجدها بكثافة في عناوين الفصول، فضلا عن تفاصيلها.

ومن الواضح أن ابن عبد السلام قد جعل من كتابه هذا تشجيرا بيانيا للآية الكريمة {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون} [النحل: 90].

وهي الآية التي قال عنها الحافظ ابن عبد البر: “وقد قالت العلماء: إن أجمع آية للبر والفضل ومكارم الأخلاق، قولُه عز وجل: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان…)…” .


استقصاءات الشاطبي

نص الشاطبي مرارا على أن معظم ما نزل من القرآن الكريم في العهد المكي كان من الأصول الكلية ذات الطبيعة الأخلاقية، ثم نزلت مكملات لها في العهد المدني. وميزة الشاطبي أنه حين يذكر هذه المبادئ الأخلاقية، فإنه يذكرها باعتبارها شرائع كلية وأصولا تشريعية، وليس باعتبارها مجرد مواعظ ورقائق وآداب.

فمما ذكره من ذلك: أن الله تعالى “أمر بمكارم الأخلاق كلها؛ كالعدل والإحسان، والوفاء بالعهد، وأخذ العفو، والإعراض عن الجاهل، والدفع بالتي هي أحسن، والخوف من الله وحده، والصبر والشكر ونحوها. ونهى عن مساوئ الأخلاق؛ من الفحشاء والمنكر والبغي، والقول بغير علم، والتطفيف في المكيال والميزان، والفساد في الأرض، والزنى والقتل والوأد، وغير ذلك مما كان سائرا في دين الجاهلية. وإنما كانت الجزئيات المشروعات بمكة قليلة والأصول الكلية كانت في النزول والتشريع أكثر.

ثم لما خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة واتسعت خطة الإسلام، كملت هنالك الأصول الكلية على تدريج؛ كإصلاح ذات البين، والوفاء بالعقود، وتحريم المسكرات، وتحديد الحدود التي تحفظ الأمور الضرورية، وما يكملها ويحسنها، ورفع الحرج بالتخفيفات والرخص، وما أشبه ذلك كله، تكميلا للأصول الكلية” .

وفي سياق آخر تطرق الإمام الشاطبي إلى هذه الكليات القرآنية، الأخلاقية التشريعية، فعددها بمزيد من الاستقصاء والتفصيل، فقال: “كالعدل والإحسان، والوفاء بالعهد، وأخذ العفو من الأخلاق، والإعراض عن الجاهل، والصبر، والشكر، ومواساة ذي القربى والمساكين والفقراء، والاقتصاد في الإنفاق والإمساك، والدفع بالتي هي أحسن، والخوف، والرجاء، والانقطاع إلى الله، والتوفية في الكيل والميزان، واتّباع الصراط المستقيم، والذكر لله، وعمل الصالحات، والاستقامة، والاستجابة لله، والخشية، والصفح، وخفض الجناح للمؤمنين، والدعاء إلى سبيل الله، والدعاء للمؤمنين، والإخلاص، والتفويض، والإعراض عن اللغو، وحفظ الأمانة، وقيام الليل، والدعاء، والتضرع، والتوكل، والزهد في الدنيا، وابتغاء الآخرة، والإنابة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتقوى، والتواضع، والافتقار إلى الله، والتزكية، والحكم بالحق، واتباع الأحسن، والتوبة، والإشفاق، والقيام بالشهادة، والاستعاذة عند نزغ الشيطان، والتبتل، وهجر الجاهلين، وتعظيم الله، والتذكر، والتحدث بالنعم، وتلاوة القرآن، والتعاون على الحق، والرهبة، والرغبة، وكذلك الصدق، والمراقبة، وقول المعروف، والمسارعة إلى الخيرات، وكظم الغيظ، وصلة الرحم، والرجوع إلى الله ورسوله عند التنازع، والتسليم لأمر الله، والتثبت في الأمور، والصمت، والاعتصام بالله، وإصلاح ذات البين، والإخبات، والمحبة لله، والشدة على الكفار ، والرحمة للمؤمنين، والصدقة. هذا كله في المأمورات.

وأما المنهيات: فالظلم، والفحش، وأكل مال اليتيم، واتّباع السبل المضلة، والإسراف، والإقتار، والإثم، والغفلة، والاستكبار، والرضى بالدنيا من الآخرة، والأمن من مكر الله، والتفرق في الأهواء شيعا، والبغي، واليأس من رَوْح الله، وكفر النعمة، والفرح بالدنيا، والفخر بها، والحب لها، ونقص المكيال والميزان، والإفساد في الأرض، واتباع الآباء من غير نظر، والطغيان، والركون للظالمين، والإعراض عن الذكر، ونقض العهد، والمنكر، وعقوق الوالدين، والتبذير، واتباع الظنون، والمشي في الأرض مرحا، وطاعة من اتبع هواه، والإشراك في العبادة، واتباع الشهوات، والصد عن سبيل الله، والإجرام، ولهو القلب، والعدوان، وشهادة الزور، والكذب، والغلو في الدين، والقنوط، والخيلاء، والاغترار بالدنيا، واتباع الهوى، والتكلف، والاستهزاء بآيات الله، والاستعجال، وتزكية النفس، والنميمة، والشح، والهلع، والضجر، والمن، والبخل، والهمز، واللمز، والسهو عن الصلاة، والرياء، ومنع الـمَرافق، وكذلك اشتراء الثمن القليل بآيات الله، ولبس الحق بالباطل، وكتم العلم، وقسوة القلب، واتباع خطوات الشيطان، والإلقاء باليد إلى التهلكة، وإتْبَاع الصدقة بالمن والأذى، واتّباع المتشابه، واتخاذ الكافرين أولياء، وحب الحمد بما لم يفعل، والحسد، والترفع عن حكم الله، والرضى بحكم الطاغوت، والوهن للأعداء، والخيانة، ورمي البريء بالذنب وهو البهتان، ومُشاقَّة الله والرسول، واتباع غير سبيل المؤمنين، والميل عن الصراط المستقيم، والجهر بالسوء من القول، والتعاون على الإثم والعدوان، والحكم بغير ما أنزل الله، والارتشاء على إبطال الأحكام، والأمر بالمنكر، والنهي عن المعروف، ونسيان الله، والنفاق، وعبادة الله على حرف، والظن، والتجسس، والغيبة، والحلف الكاذبة، وما أشبه ذلك من الأمور…” .


فمتى يستفاد من هذا التجديد الأصولي الأخلاقي، الذي تميز به الإمامان ابن عبد السلام والشاطبي؟ ومتى يستفاد من أخلاقييتهما الرفيعة منهجا وسلوكا؟