ربما لم يكن مستغربا أن نجد الظلم في الحياة الاجتماعية، من أجل الوصول إلى منصب، أو الحصول على مال، أو حتى المنافسة والتنافس بين الأقران، بل يصل الظلم بين الإخوة فيما بينهم وهم أبناء نسب واحد، فكل هذا مشاهد في دنيا الناس. لكن الأغرب والأعجب أن يمتد ذلك إلى صراع العلماء، بحكم أن الواجب عليهم حماية الناس من شرور أنفسهم من خلال الدعوة والدلالة على عواقب الظلم الوخيمة، فنجدهم يمنع بعضهم بعضا من نشر مذهبه مستقويا بحظوة من السلطان، أو بنفوذ من الملك، أو يشي بعضهم على بعض؛ ليمنع أخاه العالم خيرا يصله، حتى وإن لم يتحصل هو على ذلك الخير. فهذا هو الذي لا ينقضي منه الاستغراب والعجب.
لكنه للأسف، موجود في دنيا العلماء، وقد يتصور أنه أمر حادث، وأن العلماء السابقين ما كان بينهم مثل الذي يدور الآن بين بعض العلماء، لكن المتتبع لتاريخ الأمة ليجد في عصور خلفها مثل هذه المشاحنات والوشايات، والوقوف على بعض آثارها فيه عبرة للعلماء المعاصرين، أن يتجنبوا ما بينهم من شقاق، وأن ينظروا العهد الذي أخذه الله تعالى عليهم من نصرة الدين، بدلا من الانشغال في خصومة فارغة.
الظلم والعجز
ومما يروى في مشاحنة وصراع العلماء فيما بينهم ما قاله الفقيه الحنبلي ابن عقيل – رحمه الله- : “رأيت الناس لا يعصمهم من الظلم إلا العجز، ولا أقول: العوام، بل العلماء!
فابن عقيل يذهب إلى أنه لا يمنع العلماء من ظلم بعضهم بعضا إلا أنهم عاجزون عن الظلم، فليس معهم من النفوذ والسلطان ما يتمكنون به من ظلم غيرهم، فإذا زال عجزهم، وأُعطوا القوة والقدرة إذا بهم يبغون في الأرض بغير الحق.
صور من صراع العلماء
ولاشك أن أي نوع من الصراع في حياة البشر له صور متنوعة، وقد تختلف تلك الصور بين طائفة وأخرى، وقد تكون هناك صور مشتركة بين بني البشر. ومن أهم تلك الصور في صراع العلماء ما يلي:
– الانتصار للمذهب: من أهم صور الصراع بين العلماء وبغيهم على بعض الانتصار للمذهب والاستقواء بالسلطة في سبيل ذلك، فقد كان ابن يونس أشهر فقهاء الحنابلة في عصره- وزيرا للخليفة الناصر لدين الله، فكان الحنابلة يستقوون بمكانة وزيرهم عند الخليفة على فقهاء الشافعية، فمنعوهم من نشر مذهب الشافعية، بل بل حتى منعوهم من ممارسة مذهبهم، حتى منعوهم من الجهر بالبسملة، والقُنوت في صلاة الفجر، كما روى ذلك ابن عقيل.
– هدم مسجد المخالفين: بل وصل ظلم العلماء والتعصب بين المذاهب إلى حد إحراق مسجد المذهب الآخر، فتروي كتب التاريخ تذكر أن الشافعية بنوا بمَرْو جامعًا مشرفًا على جامع الحنفية، فتعصب شيخ الإسلام بمَرْو، وهو مقدَّم الحنابلة بها، قديم الرياسة، وجمع الأوباش فأحرقه.
– التسبب في سجن المخالفين: ومن صور ظلم العلماء أن يتسبب بعضهم في سجن بعض، فإنه لما أحرق الحنابلة مسجد الشافعية و دالت الأيام، و جاء وزير متعصب للشافعية ، وهو نظام الملك وزير السلطان خُوارزمشاه تكش، استطال أصحاب الشافعي على الحنابلة استطالة السلاطين الظلمة ، فاستعدَوا بالسجن، وآذَوا العوام بالسعايات، والفقهاء بالنبذ بالتجسيم.
قال ابن عقيل: فتدبرت أمر الفريقين، فإذا بهم لم يعمل فيهم آداب العلم، وهل هذه إلا أفعال الأجناد، يَصُوْلُون في دولتهم، ويلزمون المساجد في بطالتهم”.[1].
– بغي المعتزلة : وكذلك فعل المعتزلة بخصومهم رغم دعواهم حرية الرأي، فإنه لما دالت لهم دولة العلم أيام المأمون ماذا جرى منهم مع من لم يقل بمشربهم ولم يستجب لدعوتهم؟ فقد ضربت أئمة وأهينوا وسجنوا الأعوام وأوذوا مما دونه التاريخ وأحصاه على هؤلاء المتعصبين.
وكان نقطة سوداء في تاريخ حياتهم، وإن كانوا يزعمون مقاومة الحشو والجمود وتنوير الأذهان بعلوم الأوائل مما أخذوا بتعريبه وجهدوا في نشره إلا أن الغلو كان رائدهم والبطش قائدهم.
– الاستقواء بالسلطة على صحة الرأي: ومن أعجب صور الصراع بين العلماء أن يستقوي أحدهم بسلطة الدولة في صحة رأيه، حتى لا يخالفه في ذلك أحد، يقول القاسمي :
تقرأ في ترجمة علاء الدين العطار تلميذ الإمام النووي، أنه مع زمانته، وكونه صار حِلْس بيته، يتأبط دَائِمًا وثيقة أحد القضاة بصحة إيمانه وبراءته من كل ما يُكَفِّرُهُ، ولقد أريقت دماءٌ مُحَرَّمَةٌ، وعذبت أبرياء بالسجون والنفي والإهانات باسم الدين، وروعت شيوخ وشبان أَعْوَامًا وسنين..[2]
– حمل الناس على الإفتاء برأي المذهب: ومن صور التعصب بين العلماء أن يحمل العلماء الذين لهم سلطة علماء المذاهب الأخرى على الإفتاء برأيهم هم، فقد حمل قاضي مكة سليمان بن حرب على الحجر على بعض علماء الرأي من الفتوى، وما ذلك إلا من سلطة دولة الأثريين وقتئذ، وقيامهم بالتشديد ضد غيرهم، ونبذ التسامح الذي كان عليه الصحابة والتابعون في أن يفتي كل بما يراه بعد بذل جهده في مسألة دون تعنيف أو اضطهاد.
– تشويه الصورة والسب على المنابر: بل وصل الاستعلاء والخصومة إلى حد السب المنهي عنه شرعا، بل والأعجب أنه سب على المنابر!!
ومثال هذا التعصب ما وقع بين الحنفية الماتريدية والشافعية الأشعرية من فتن وبلاء، فقد حصلت فتنة، فر من أجلها إمام الحرمين من العراق إلى الحجاز حينما دالت دولة الحنفية وثارت عصبيتهم على الشافعية والأشعرية.
قال التاج السبكي في طبقاته، في ترجمة الإمام أبي سهل الشافعي: إنه لما بلغ من سمو المقام أن أرسل إليه السلطان الخلع، وظهر له القبول عند الخاص والعام حسده الأكابر وخاصموه فكان يخصمهم ويتسلط عليهم.
(قال): فبدا له خصوم واستظهروا بالسلطان عليه وعلى أصحابه.
(قال): وصارت الأشعرية مقصودين بالإهانة والمنع عن الوعظ والتدريس وعزلوا من خطابة المجامع.
(قال) وتبع من الحنفية طائفة أشربوا في قلوبهم الاعتزال والتشبع، فخيلوا إلى أولي الأمر الإزراء بمذهب الشافعي عموماً، وبالأشعرية خصوصاً.
قال: وهذه الفتنة طار شررها وطال ضررها وعظم خطبها وقام في سب أهل السنة خطيبها، قال: فإن هذا الأمر أدى إلى التصريح بلعن أهل السنة في الجُمع، وتوظيف سبهم على المنابر، وصار لأبي الحسن الأشعري بها أسوة بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، واستعلى أولئك في المجامع، فقام أبو سهل في نطر السنة قياماً مأزواً، وتردد إلى العسكر في ذلك ولم يفد، وجاء الأمر من قبل السلطان (طغر لبك) بالقبض على الرئيس الفراتي والأستاذ أبي القاسم القشيري، وإمام الحرمين وأبي سهل بن الموفق ونفيهم ومنعهم عن المحافل.
وقد نشأ عن هذا الخلاف الطعن بالتفكير والتضليل، واستمر ذلك إلى أن اشتد أزره فى القرن الثامن للجهرة.
علماء ربانيون
غير أن سوق مثل هذه الأمثلة لا يعني أن هذه تمثل عموم الصورة بين العلماء، فلم تخل الأمة من علماء ربانيين، ظلموا فسامحوا، وقدروا فغفروا، فقد شهد التاريخ من أدَّبهم العلم وانتفعوا به وارتفعوا على هذه الرواسب النفسية، فكانوا من العلماء العاملين.
فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية يقول بعدما تعرض له من مظالم، معظها راجع إلى حسد بعض العلماء له، يقول ، وقد حانت له فرصة الانتقام ممن ظلمه، يقول: أخرج السلطان من جيبه فَتَاوَى لبَعض الْحَاضِرين فِي قَتله واستفتاه فِي قتل بَعضهم.
قَالَ: ففهمت مَقْصُوده وَأَن عِنْده حنقا شَدِيدا عَلَيْهِم لما خلعوه وَبَايَعُوا الْملك المظفر ركن الدّين بيبرس الجاشنكير.
فشرعت فِي مدحهم وَالثنَاء عَلَيْهِم وشكرهم وَأَن هَؤُلَاءِ لَو ذَهَبُوا لم تَجِد مثلهم فِي دولتك، أما أَنا فهم فِي حل من حَقي وَمن جهتي، وسكَّنت مَا عِنْده عَلَيْهِم.
فكان القاضي زيد الدين ابن مخلوف قاضي المالكية يقول بعد ذلك ما رأينا أتقى من ابن تيمية لم نبق ممكنا في السعي فيه ولما قدر علينا عفا عنا.[3]
ويحكي شرف الدين عن ابن تيمية أيضا فيقول : إن جماعة بجامع مصر قد تعصبوا على ابن تيمية وتفردوا به وضربوه،
فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل.
وكان بعض أصحاب الشيخ جالسا عند شرف الدين قال فقمت من عنده وجئت إلى مصر فوجدت خلقا كثيرا من الحسينية وغيرها رجالا وفرسانا يسألون عن الشيخ، فجئت فوجدته بمسجد الفخر كاتب المماليك على البحر واجتمع عنده جماعة وتتابع الناس، وقال له بعضهم :يا سيدي قد جاء خلق من الحسينية ولو أمرتهم أن يهدموا مصر كلها لفعلوا!
فقال لهم ابن تيمية: لأي شيء؟
قال: لأجلك!
فقال لهم: هذا ما يحق!
فقالوا: نحن نذهب إلى بيوت هؤلاء الذين آذوك فنقتلهم ونخرب دورهم؛ فإنهم شوشوا على الخلق، وأثاروا هذه الفتنة على الناس.
فقال لهم : هذا ما يحل.
فقالوا: فهذا الذي قد فعلوه معك يحل! هذا شيء لا نصبر عليه ولا بد أن نروح إليهم ونقاتلهم على ما فعلوا.
والشيخ ينهاهم ويزجرهم، فلما أكثروا في القول، قال لهم: إما أن يكون الحق لي، أو لكم، أو لله.
فإن كان الحق لي فهم في حل منه، وإن كان لكم فإن لم تسمعوا مني ولا تستفتوني فافعلوا ما شئتم.
وإن كان الحق لله فالله يأخذ حقه إن شاء كما يشاء.
قالوا: فهذا الذي فعلوه معك هو حلال لهم؟
قال: هذا الذي فعلوه قد يكونون مثابين عليه مأجورين فيه!
قالوا:فتكون أنت على الباطل وهم على الحق، فإذا كنت تقول إنهم مأجورون فاسمع منهم ووافقهم على قولهم.
فقال لهم: ما الأمر كما تزعمون فإنهم قد يكونون مجتهدين مخطئين ففعلوا ذلك باجتهادهم والمجتهد المخطىء له أجر.[4]
الخلاصة
العلم وحده غير كاف في عصمة الإنسان من الخطأ والوقوع في الظلم، كما قال تعالى: :”وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ”
والمعنى أن اختلاف هؤلاء، لم يكن بسبب نقص في العلم، بل كان عندهم من العلم ما يهديهم للوفاق، ولكن السبب الذي أدى إلى اختلافهم وشقاقهم هو الحسد والبغي.
وأولئك العلماء الذين بغى بعضهم على بعض، لم يكن يعوزهم العلم، بل كان ينقصهم الانتفاع بعلمهم، والعمل به!
فما أحوج علماء اليوم إلى الأخلاق قبل العلم، وإلى تقوى الله تعالى ووعظ أنفسهم قبل وعظ الناس، وما ضاعت الأمة يوم ضاعت إلا حين ترك علماؤها العمل بما علموا، ولن تعود الأمة إلى بعودة العلماء إلى منهج الله تعالى وسنة رسوله ﷺ.
[1] – انظر : حاشية الخلوتي على منتهى الإرادات (1/ 418)
[2] – جمال الدين القاسمي (رسالة الجرح والتعديل) ص 40.
[3] – العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية (ص: 299)
[4] – العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية (ص: 303)