الحديث عن صيام منتصف شعبان وإحياء ليلته حديث ذو شجون بين أهل العلم قديما وحديثا فمن منكر ومن مجيز، ومرد ذلك كله إلى تجاذب النظر بين الآثار المروية صحة وضعفا من جهة، وبين دراية ودلالة من جهة أخرى، وقد انتهى تحقيق الإمام ابن رجب في هذا المجلس إلى الأمور الآتية:
القول في حديث “إذا انتصف شعبان فلا تصوموا حتى رمضان” رواية ودلالة
أ- أما من حيث الرواية: وإنه حديث منكر، وبه قال أكبر أئمة المحدثين، منهم الرحمن بن المهدي والإمام أحمد وأبو زرعة الرازي والأثرم.
ب – وأما من حيث دلالته والعمل به:
1- قال الطحاوي: هو منسوخ، وحكى الإجماع على ترك العمل به، وأكثر العلماء على أنه لا يعمل به.
2- وقد أخذ آخرون منهم الشافعي وأصحابه، ونهو عن ابتداء التطوع بالصيام بعد نصف شعبان لمن ليس له عادة.
ثم اختلفوا في علة النهي:
أ- فمنهم من قال: خشية أن يزاد في شهر رمضان ما ليس منه، وهذا بعيد جدا فيما بعد النصف، وإنما يحتمل هذا في التقديم بيوم أو يومين.
ب- ومنهم من قال: النهي للتقوي على صيام رمضان شفقة أن يضعفه ذلك عن صيام رمضان، ويرد هذا صيام النبي ﷺ شعبان كله أو أكثره ووصله برمضان هذا كله بالصيام بعد نصف شعبان.
– وصيام يوم النصف من شعبان فغير منهي عنه فإنه من جملة أيام البيض الغر المندوب إلى صيامها من كل شهر
ماهو فضل ليلة نصف شعبان؟
وفي حديث عبد الله بن عمرو عن النبي ﷺ قال: “إن الله ليطلع إلى خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لعباده إلا اثنين مشاحن أو قاتل نفس” وفي حديث آخر “إذا كان ليلة النصف من شعبان نادى مناد: هل من مستغفر فأغفر له هل من سائل فأعطيه فلا يسأل أحد شيئا إلا أعطيه إلا زانية بفرجها أو مشركا
– نشأة تخصيص ليلة نصف شعبان بالعبادة
كان التابعون من أهل الشام كخالد بن معدان ومكحول ولقمان بن عامر وغيرهم يعظمون ليلة نصف شعبان ويجتهدون فيها في العبادة، وعنهم أخذ الناس فضلها وتعظيمها، وقد قيل أنه بلغهم في ذلك آثار إسرائيلية.
– موقف علماء السلف من تعظيم نصف ليلة شعبان
فلما اشتهر تعظيم ليلة نصف شعبان عن أهل الشام في البلدان، اختلف الناس في ذلك:
1- فمنهم من قبله، منهم وافقهم على تعظيمها، منهم طائفة من عباد أهل البصرة وغيرهم.
2- وأنكر ذلك أكثر علماء الحجاز، منهم عطاء وابن أبي مليكة، ونقله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن فقهاء أهل المدينة، وهو قول أصحاب مالك وغيرهم وقالوا: ذلك كله بدعة.
ماهي صفة إحياء ليلة نصف شعبان؟
أحدهما: أنه يستحب إحياؤها جماعة في المساجد، كان خالد بن معدان ولقمان بن عامر وغيرهما يلبسون فيها أحسن ثيابهم، ويتبخرون ويكتحلون ويقومون في المسجد ليلتهم تلك، ووافقهم إسحاق بن راهوية على ذلك، وقال في قيامها في المساجد جماعة: ليس ببدعة نقله عنه حرب الكرماني في مسائله.
والثاني: أنه يكره الإجتماع فيها في المساجد للصلاة والقصص والدعاء، ولا يكره أن يصلي الرجل فيها لخاصة نفسه، وهذا قول الأوزاعي إمام أهل الشام وفقيههم وعالمهم وهذا هو الأقرب إن شاء الله تعالى.
وقال الشافعي رضي الله عنه: بلغنا أن الدعاء يستجاب في خمس ليال: ليلة الجمعة والعيدين وأول رجب ونصف شعبان قال: وأستحب كل ما حكيت في هذه الليالي.
فينبغي للمؤمن أن يتفرغ في تلك الليلة لذكر الله تعالى ودعائه بغفران الذنوب، وستر العيوب، وتفريج الكروب، وأن يقدم على ذلك التوبة، فإن الله تعالى يتوب فيها على من يتوب
فقم ليلة النصف الشريف مصليا ... فأشرف هذا الشهر ليلة نصفه
فكم من فتى قد بات في النصف آمنا ... وقد نسخت فيه صحيفة حتفه
فبادر بفعل الخير قبل انقضائه ... وحاذر هجوم الموت فيه بصرفه
وصم يومها لله وأحسن رجاءه ... لتظفر عند الكرب منه بلطفه
الذنوب المانعة من المغفرة في ليلة النصف من شعبان
يتعين على المسلم أن يجتنب الذنوب التي تمنع من المغفرة وقبول الدعاء في تلك الليلة وهي أربعة: الشرك، وقتل النفس، والزنا، والشحناء.
1- أما الشرك: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72]
2- وأما القتل: فلو اجتمع أهل السموات وأهل الأرض على قتل رجل مسلم بغير حق لأكبهم الله جميعا في النار.
3- وأما الزنا: فحذار حذار من التعرض لسخط الجبار، الخلق كلهم عبيد الله وإماؤه، والله يغار لا أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، فمن أجل ذلك حرم الفواحش وأمر بغض الأبصار
وهذه الثلاثة أعظم الذنوب عند الله كما في حديث ابن مسعود المتفق على صحته أنه سأل النبي ﷺ: أي الذنب أعظم؟ قال “أن تجعل لله ندا وهو خلقك” قال: ثم أي؟ قال: “أن تقتل ولدك خسية أن يطعم معك” قال: ثم أي؟ قال: “أن تزاني حليلة جارك” فأنزل الله تعالى ذلك: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان: 68] الآية.
4- وأما الشحناء، فيا من أضمر لأخيه السوء وقصد له الإضرار: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [42] . يكفيك حرمان المغفرة في أوقات مغفرة الأوزار.
– أنواع الشحناء
1- الشحناء بمعنى حقد المسلم على أخيه بغضا له لهوى نفسه، وذلك يمنع من المغفرة في أكثر أوقات المغفرة والرحمة، كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: “تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين والخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال: انظروا هذين حتى يصطلحا.
2- وقد فسر الأوزاعي الشحناء المذكورة في الحديث بالذي في قلبه شحناء لأصحاب النبي ﷺ، ولا ريب أن هذه الشحناء أعظم جرما من مشاحنة الأقران بعضهم بعضا.
3- وعنه أيضا أنه قال: المشاحن كل صاحب بدعة فارق عليها الأمة، وكذا قال ابن ثوبان: المشاحن هو التارك لسنة النبي ﷺ الطاعن على أمته السافك دماءهم، وهذا الشحناء أعني شحناء البدعة توجب الطعن على جماعة المسلمين واستحلال دمائهم وأموالهم وأعراضهم كبدع الخوارج والروافض ونحوهم.
– سلامة الصدر من الشحناء درجات
1- فأفضل الأعمال سلامة الصدر من أنواع الشحناء كلها، وأفضلها السلامة من شحناء أهل الأهواء والبدع التي تقتضي الطعن على سلف الأمة وبغضهم والحقد عليهم واعتقاد تكفيرهم أو تبديعهم وتضليلهم.
2- ثم يلي ذلك سلامة القلب من الشحناء لعموم المسلمين وإرادة الخير لهم ونصيحتهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه، وقد وصف الله تعالى المؤمنين عموما بأنهم يقولون: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10] .
قال بعض السلف: أفضل الأعمال سلامة الصدور وسخاوة النفوس. والنصحة للأمة وبهذه الخصال بلغ من بلغ لا بكثرة الإجتهاد في الصوم والصلاة.
– النصيحة للإخوة في هذه المناسبة
إخواني اجتنبوا الذنوب التي تحرم العبد مغفرة مولاه الغفار في مواسم الرحمة والتوبة والإستغفار.
وهذا هو بيت القصيد في هذا المجلس من كتاب لطائف المعارف لابن رجب، فمحصله أنه لا مانع من مواصلة صيام شعبان إلى قبيل نهاية الشهر، والأدلة الواردة في فضيلة ليلة نصف شعبان لا تسلم من العلة على التحقيق، لكن لا ينكر على من عظمها وأقامها مراعة لخلاف السلف القائم وإن كان الأولى تركها أو إحيائها في خاصة نفسه.