سبعة قرون مرت على وفاة شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – (ت728هـ) أحد القمم الشوامخ في سلسلة جبال العلم.

انصرمت مئات السنين ولا تزال أضواء علمه ساطعة وأنوار معارفه مشرقة، وفي ذلك دلالة -والعلم عند الله- على القبول الذي هو ثمرة الإخلاص وأيضاً الرصانة التي تحلت بها آثاره العلمية التي خلفها لأمة الإسلام، فقد أورث الأمة تراثاً علمياً مستنيراً بكتاب الله وسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -.

تميز الإمام ابن تيمية بصفات فذة جعلته علماً بارزاً، وتتمثل تلك الصفات الفريدة في الجدية العلمية والتمكن المعرفي والموسوعية، ورسوخ القدم وطول الباع في شتى العلوم حتى إن سامعه يظن إذا وجده يتكلم في علم أنه لا يحسن غيره لما يظهر من تمكن وتعمق كما ذكر ذلك معاصروه.

ولقد زكى هذه المعرفة بالإخبات والتأله، فبدا فيه ائتلاف العقل والقلب، ذكاء العقل وزكاء القلب، فجمع بين العلم المكين والدين المتين وبذلك يُظهر صورة للمسلم المثالي في صفاء علمه ونقاء روحه، واتصفت سيرته بالشمولية والتوازن فيرى فيها القارئ ابن تيمية العالم والمجاهد والمحتسب والمصلح الاجتماعي والابن البار والأستاذ الفذ وغيرها من الأدوار التاريخية المشرفة، وقضى حياته الحافلة بالعطاء وهو يحمل هم الأمة في كل ميدان ويقارع أعداء الإسلام على مختلف مشاربهم باللسان والسنان. كان بحق رجل أمة.

فقد كان امرءاً تام الرجولة، وكان للأمة كما يجب أن يكون عظماء الرجال لأممهم.

في الجانب العلمي ثمة جوانب مشرقة تدهش الناظر في سيرة الرجل، فقد كان في صباه طُلَعة، شغوفاً بالعلم، فيه من روح المسؤولية وجِد العقلاء ما يبشر بما يكون له من شأن في ما بعد، صاحب روح متوثبة طامحة و نهم معرفي، ويمتلك منهجاً صلباً فأصبح إماماً في فنون شتى.

ونهمته للعلم وارتياحه النفسي للاشتغال به أمر ظاهر في سيرته كما في قصة مرضه ومنع الأطباء له من الاشتغال بالعلم ورده المقنع عليهم بأنه من المسلم لديهم أن من الأسباب الجالبة للشفاء أن تشتغل النفس بما فيه راحتها.

إن هذا الرجل ذو نفس تواقة، تاقت إلى العلم فتلفعت روحه بأشرف العلوم وتشربت نفسه بالمعارف الإلهية، حتى استحالت وجداناً يخفق وعقلاً ينبض.

“كان ابن تيمية قوياً في تفكيره، وفي جدله بما راض عقله على العلوم العقلية من الحساب والجبر والمقابلة والفرائض، والعلوم العقلية من الفلسفة والكلام وأصول الفقه” (1).

وامتن الله – تعالى – على أحمد ابن تيمية بهذه المواهب العقلية فانصرف بكليته إلى العلم وبدا فيه الإدراك العميق للدور الرسالي المرتقب ممن ينتسب إلى أمة الشهادة على الأمم، أمة الإسلام، فتدرج في العلم وفق منهجية بفضل نشأته في بيت عريق في العلم حتى صار له في كل فن القدح المعلى.

والمتأمل في علم ابن تيمية المتصف بالعمق والاتساع معاً يدرك أن وراء ذلك التوفيق فضل الله، وفي سيرة الشيخ منذ صباه من العبودية لله والتذلل له والانقطاع إليه ما يدل على صلته بالله واستشعاره أن الفضل بيد الله وأن العقلية الفذة والذكاء اللماح والذهن المتقد لا يوصل إلى الحق وإلى رضوان الله إلا عبر الطريق الذي شرعه المولى – جل وعلا -.

“درس ابن تيمية كل ما عرف في عصره من نحل ومذاهب دراسة واسعة وعميقة، تحدوه إلى ذلك رغبة حارة في الوقوف على كنه هذه المذاهب وإدراك حقائقها. قرأ الفلسفة ووقف على دقائقها، وكان يعرف الفلسفة اليونانية القديمة بدليل ما ينقله من آراء أفلاطون وأرسطو ومقارنته بينهما، وكذلك عرف المنطق الأرسطي ونقده رغم انتفاعه به كثيراً في مناقشته للفرق المختلفة” (2).

وأوتي ابن تيمية مهارات أعانته في ميدان البحث والمناظرة، تتمثل في شدة العارضة وحدة الذكاء وقوة الذاكرة أدت إلى قطع حجج خصومه، وبسبب ما يتميز به طرحه العلمي من تماسك معرفي وأدلة قوية واستنباطات صحيحة فقد تأثر بأقواله بعض دارسي تراثه كما في حالة (آية الله العظمى) أبو الفضل البرقعي الذي ما أن قرأ كتابه “منهاج السنة” حتى تبين له الحق فألف كتاباً سماه “كسر الصنم” ويعني بالصنم كتاب “الكافي” للكليني.

وترك عقيدة الرفض، وآخرين أرادوا قراءته من منطلق نقدي لمخالفتهم له، فانقلبوا معجبين ومتفقين معه كما في قصة العلامة الشيخ محمد خليل هراس – أستاذ التوحيد والمنطق الأزهري رحمه الله ..

وفي سياق الرد على مخالفيه فإن الجدية العلمية والمنهجية المعرفية والقيم الأخلاقية العالية التي اتسم بها شيخ الإسلام ابن تيمية جعلته يتحرى الدقة العلمية في نسبة الأقوال وعزوها إلى أصحابها وحكاية المذاهب كما هي.

“وبهذه المناسبة يجدر بنا أن ننبه على شيء واضح الوضوح كله في آراء ابن تيمية وألوان حواره، وذلك أنه لا يذكر رأياً عن شخص إلا بمشافهة أو بنقل من كتاب عرفه.

وفي مجموعة الرسائل والمسائل كثير من محاوراته مع أصحاب البدع والمذاهب الضالة وكثير من أساليبه التي فيها شيء من الجدة والطرافة في مناقشة المبتدعين من خصومه على نحو من الإلزام لا يعرف إلا لابن تيمية من رجال عصره.

وطبيعي أن يجعل هذا النحو من الاتصال الشخصي أو القراءة الموثوق بها ابن تيمية (بمنأى) من الطعن عليه بجهل أو خطأ أو ضلال أو تضليل ” (3).

ولذا فإن من أبرز صفاته العدل والإنصاف مع المخالفين وذكر محاسن المناوئين وعدم بخسهم حقوقهم حتى قال تلميذه ابن القيم: ” ليت أنا نكون لأصحابنا كما يكون لأعدائه! “.

وفي مسألة المنهج فإن منهج ابن تيمية يرتكز على الاعتصام بالكتاب والسنة وتعظيم الوحي، والدوران مع الأثر، والأخذ بفهم السلف والدلالة على علمهم المبارك.

ومن ثم فتراثه ظاهر فيه فقه الأثر وعمق النظر واستصحاب مقاصد الشرع الحكيم.

ويجدر بأهل عصرنا الاستفادة من مدرسة ابن تيمية – رحمه الله – الثقة بالمنهج وأخذ الكتاب بقوة ووضوح الجادة وعدم الاضطراب أمام المناهج الوافدة وامتلاك مهارات النقد والمحاكمة بإيجابية فكرية واعتزاز معرفي.

إن ابن تيمية بسبب نضوجه ورؤيته الواضحة كان متصفاً بالرشد الفكري.

إن “رؤيته للعالم تتمتع بتماسك كافٍ يقوم على أسس فلسفية ومنطقية واضحة وصلبة.. وابن تيمية صعب: بسبب تعرضه لقضايا فلسفية عويصة تعكس معرفة هذا الرجل بالتراث الفلسفي السابق عليه، والذي أتى على الأغلب من مصادر عربية إسلامية، والأمر هنا لا يقتصر على مناقشته تلك القضايا فحسب، بل في تبنيه هو لقضايا فلسفية معقدة يريد تأسيسها وتقديمها كبديل عن الخطابات العقلانية السابقة عليه”(4).

لم يعرف ابن تيمية الانهزام الفكري والوقوع تحت سطوة الخطابات التي يظن من لم يتشبع بالعلم أنها مشتملة على الإبداع العقلي بل دل الأنظار على أساس الهدى الذي يستغني به من أخذ به عن كل مورد ،وبين ما في النتاج الفكري البشري من قصور وتناقضات.

عاش ابن تيمية في عصر انتشرت فيه العقائد المنحرفة وسادت فيه الفرق الضالة وتداعى فيه أعداء الإسلام على بلدان المسلمين عبر غزو كاسح، وكان النظام السياسي يعاني من الانقسام والتشرذم فانبرى على كل الأصعدة مصلحاً ما فسد من أمور العقائد والأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأتت كتبه كاستجابة إصلاحية لضرورات اقتضت تسطير تلك المؤلفات، فمؤلفاته تظهر في تناسق معرفي ضمن سياق إصلاحي نهضوي يهدف إلى إقامة ما اعوج من الشعائر التعبدية وإصلاح ما فسد من أمور السياسة والاجتماع والاقتصاد.

وبعد، فإن أبأ العباس فيه من العَلَم (والعَلَم هو الجبل) شموخه، ورسوخه، وثباته، وعظمته، و يزري بنفسه من يناطحه ولمّا يتأهل بعد لقراءته.

ولا يحسن ها هنا أن يقال:

وابن اللبون إذا ما لُز في قرن *** لم يستطع صولة البزل القناعيس

فشتان ما بين البحر والسراب.

بل الأنسب أن يُنشد لهؤلاء الصغار:

قام الحمام على البازي يهدده *** واستيقظت لأسود الغاب أضبعه

أضحى يسد فم الأفعى بأصبعه *** يكفيه ما ستلاقي منه أصبعه

ولا يعني ذلك أن ابن تيمية لا يَرد عليه الخطأ، فذلك أمر مفروغ منه وإنما يجمل بمن يرد عليه أن يحسن القراءة حتى يحسن الكتابة. أما الخيانة العلمية فقادحة فيمن ينتسب إلى العلم، وأما سوء الفهم الناتج عن قصور العلم أو برودة الذهن فما ذنب ابن تيمية حتى يتجنى عليه المنتقد؟!

إن تراث ابن تيمية يتكفل بالرد على نقدته، وكلامه له أهله و ما ينفع الناس فيمكث في الأرض، والله ولي المتقين.


الهوامش:

(1) شيخ المجددين في الإسلام ضمن (فيلسوف العرب والمعلم الثاني) ص 121. مصطفى عبد الرازق ع- 1364ه – 1945م) دار إحياء الكتب العربية – عيسى البابي الحلبي وشركاه.

(2) (باعث النهضة الإسلامية: ابن تيمية السلفي – نقده لمسالك المتكلمين والفلاسفة في الإلهيات) ص 28 محمد خليل هراس – دار الكتب العلمية.

(3) عبد العزيز المراغي نقلاً عن المصدر السابق ص58).

(4) عبد الحكيم أجهر نقلاً عن (الهادي والهاذي: جلاد الحكمة المصلوبة) ص 25 عبد الله بن عبد العزيز الهدلق – الطبعة الأولى – 1429ه – 2008 م – الرياض. بتصرف يسير.