إن البيان القرآني المعجز المحكم العميق في بيانه ومعانيه وقراءاته، يستوقفنا لتدبره، وتأمل آياته.

يقول تعالى  : { وَلَوۡ تَرَىٰۤ إِذۡ وُقِفُوا۟ عَلَى ٱلنَّارِ فَقَالُوا۟ یَـٰلَیۡتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِـَٔایَـٰتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ} [سورة الأنعام :27]

ففي هذا السياق نلحظ التحول إلى النصب في الفعلين (ولا نكذبَ … ونكونَ) … ولو مضى السياق على نسق واحد من الحركة الإعرابية لكان (ولا نكذِّبُ … ونكونُ) بالرفع؛ لكونهما معطوفين على الفعل المرفوع (نُردُّ). وهي قراءة نافع وأبي عمرو وابن كثير ، والنصب قراءة حمزة وحفص عن عاصم.

ويبرز التحول عن الرفع إلى النصب في قراءة حمزة وحفص، ولكي ندرك سر هذا التحول على هذا الوجه من القراءة، ينبغي أن نعرف أولاً المعنى بمقتضى قراءة الرفع التي جرت على نسق المطابقة في السياق، ثم نفسر التحول عن المطابقة وما يضفيه من دلالة في ذلك.

فقراءة الرفع تخرج على وجهين: الأول: أنها على عطف الفعلين على (نُرَدُّ) فيكون المعنى حينئذ أن الكفار تمنوا هذه الأمور الثلاثة: الرد، وعدم التكذيب بآيات ربهم، وكونهم من المؤمنين.

والوجه الثاني: “أن يكون الفعلان مستأنفين، على معنى أنهم تمنوا الرَّدَّ وحده، ثم قالوا: ولا نُكذِّبُ ونكونُ من المؤمنين، رُدِدْنا أم لم نرد.

وقد علل سيبويه الوجهين في الرفع في هذه الآية بقوله: “فالرفع على وجهين: فأحدهما أن يشْركَ الآخِرُ الأوًّل، والآخر على قولك: دَعْني، ولا أَعُودُ، أي: فإنِّي ممن لا يعود، فإنّما يسألُ الترك وقد أوجب نفسه أن لا عودة له البتَّة، ترك أو لم يترك، ولم يرد أن يسأل أن يجتمع لـه الترك وأن لا يعودَ”، ويكون معنى الآية على الوجه الثاني أنهم “أخبروا أنهم لا يكذبون بآيات ربهم، وأنهم يكونون من المؤمنين على كل حال، رُدُّوا أو لم يُردُّوا”.

وعلى قراءة النصب التي نحن معنيون بمعرفة سر التحول فيها، يكون المعنى: أنهم تمنوا الرَّدَّ مع عدم التكذيب، وكونهم مؤمنين، لذلك عقب المولى- عزوجل – على قولهم هذا بقوله: { بَلۡ بَدَا لَهُم مَّا كَانُوا۟ یُخۡفُونَ مِن قَبۡلُۖ وَلَوۡ رُدُّوا۟ لَعَادُوا۟ لِمَا نُهُوا۟ عَنۡهُ وَإِنَّهُمۡ لَكَـٰذِبُونَ } فيكون الفعلان منصوبين بإضمار “أن” بعد الواو التي بمعنى “مع” كقولك: ليت لي مالاً وأتصدَّقَ منه.

ومعنى القراءة على نصب الفعلين أنهم تمنوا الرَّدَّ على أن يكونوا في حالة الرَّدِّ غير مكذبين ومن المؤمنين كذلك.

وألمح من هذا السياق، بتعدد أوجه الإعراب المختلفة له، أن الكفار كانت لهم عند مشاهدة العذاب عدة أمنيات، وليست أمنية واحدة، وقد أخبر القرآن عنها كلها.

فكأنهم عندما شاهدوا العذاب ابتداء فزعوا فتمنوا الرَّدَّ إلى الدنيا، وهم في لحظة الفزع والذهول قد آمنوا بما شاهدوا ولم يعودوا من المكذبين بآيات ربهم، سواء رُدُّوا أم لم يُرَدوا، فلا علاقة للردِّ حينئذ بإيمانهم. وهذا ما توحي به قراءة الرفع في أحد وجهيها (وهو الاستئناف)، في قولـه تعالى: { یَـٰلَیۡتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبُ بِـَٔایَـٰتِ رَبِّنَا وَنَكُونُ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ }

ثم تمنوا الرَّدَّ مصطحبين في معيتهم هذه القناعة التي رسخت لديهم من المشاهدة والعيان ليعملوا بها في الدنيا، وهو ما أشار إليه القرآن في موضع آخر بقوله تعالى : { وَلَوۡ تَرَىٰۤ إِذِ ٱلۡمُجۡرِمُونَ نَاكِسُوا۟ رُءُوسِهِمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ رَبَّنَاۤ أَبۡصَرۡنَا وَسَمِعۡنَا فَٱرۡجِعۡنَا نَعۡمَلۡ صَـٰلِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ }

وهو ما توحي به قراءة النصب (على المعية) بقوله تعالى: {یَـٰلَیۡتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِـَٔایَـٰتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ }

ثم عندما يئسوا من الرجوع إلى الدنيا، وأن ذلك يستحيل، لهجوا بالحسرة والندامة متمنين ثلاثة أمور: الرد إلى الدنيا، وأنهم ما كانوا كذّبوا بآيات ربهم، وأنهم كانوا مؤمنين، وهو ما توحي به قراءة الرفع على الوجه الآخر (وهو العطف)، فكل وجه من وجوه الإعراب دل على معنى جديد لا يؤديه سواه، وهذه الأوجه بمجموعها تتكامل في وصف مشهد الحسرة والعذاب.