يرتبط شهر رمضان الكريم بطقوس عدة تميزه عن غيره من الشهور، ومن أبرزها “المسحراتي” الذي يعتبر من أهم مكونات الثقافة الرمضانية والشخصيات التاريخية التي أحبها العرب والمسلمون، فشهر رمضان كان مرتبطا بنداء المسحراتي منذ الليلة الأولى. فمن أين جاءت هذه الفكرة وكيف تطورت عبر العصور، وما علاقة هذه الشخصية برمضان وبالسحور بل وما علاقتها بالطبلة؟
يمثل المسحراتي صورة لا يكتمل شهر رمضان بدونها، فهو يرتبط ارتباطا وثيقا بالتقاليد الشعبية الرمضانية، فقبل الإمساك بساعتين يبدأ المسحراتي جولته الليلية في القرى والمدن والأحياء الشعبية موقظا أهاليها.
ولكن الآن ومع تطور المجتمع، تراجعت الحاجة إليه، لكثرة وتنوع وسائل الإيقاظ، ولم يعد المسلمون اليوم في حاجة للمسحراتي لإيقاظهم للسحور فحسب، ولكن ﻻستنهاض الهمم، والتحلي بروح وأخلاق رمضان، وتأليف القلوب، ومواجهة التحديات، واستعادة مجد اﻻجداد.
“المسحراتي” في التاريخ الإسلامي
في غياب مراجع تاريخية موثقة وموثوقة، فإنّه يُجهل تاريخ بداية “مهنة” المسحراتي في بلاد المسلمين، ولكن الذاكرة الجماعية تقول أنّ الصحابي الجليل بلال بن رباح كان أول مسحراتي في التاريخ الإسلامي.
يقول الدكتور عبد الله أبو علم في كتابه “رياض المعرفة” عن مهنة المسحراتى، أن “أول مسحراتي في العهد الإسلامي هو الصحابي بلال بن رباح، وتميز بلال بصوته العذب، لذا طلب منه النبس ومعه ابن أم مكتوم أن يقومان بمهمة إيقاظ الناس للسحور. وتعود مهمة المسحراتى الى عهد الرسول صلى الله عليه الصلاة والسلام ، فقد كان بلال وابن أم كلثوم ، يقومان بمهمة إيقاظ المسلمين للسحور.، فبلال كان يؤذّن اﻵذان الأول فيتناولوا السحور، وابن أم كلثوم يؤذن بعد ذلك اﻵذان الثاني فيمتنعوا عن تناول الطعام.
أما مهنة المسحراتي فظهرت بشكل رسمي في عهد الحاكم بأمر الله الفاطمي، حيث كان قد أصدر أمرا بأن ينام الناس مبكرا بعد صلاة التراويح، وكان جنوده يمرون على البيوت ويوقظون الناس لتناول السحور.
وفي عصر الدولة العباسية يعتبر عتبة بن إسحاق أول الولاة، وكان واليا على مصر، أول من كانوا يسحرون الناس، فكان يخرج بنفسه سيرا على قدميه لإيقاظ الناس مرددا “يا عباد الله تسحروا، فإن في السحور بركة”.
المصريون وابتكار الطبلة
تطورت ظاهرة المسحراتي على أيدي المصريين، وابتكروا الطبلة التي يحملها المسحراتي ويردد أسماء أطفال الحي وبعض الأشعار الشعبية.
ويقول المؤرخون إن “عتبة بن اسحاق” والي مصر عام 238هـ ، هو أول من قام بمهنة “المسحراتى” بشكلها الموجود حتى عصرنا هذا، حيث لاحظ أن الناس لا ينتبهون الي وقت السحور، ولا يوجد من يقوم بهذه المهمة آنذاك، فتطوع هو بنفسه لهذه المهمة، فكان يطوف شوارع القاهرة ليلا لإيقاظ أهلها وقت السحور، وكان يطوف علي قدميه سيرا من مدينة العسكر بالفسطاط إلى جامع عمرو بن العاص وكان ينادي في طريقه للسحور “عباد الله تسحروا فإن في السحور بركة.
ويعتبر أول من أيقظ المسلمين على الطّبلة هم المصريون، أما أهل بعض البلاد العربية كاليمن والمغرب فقد كانوا يدقون الأبواب بالنبابيت، وأهل الشام كانوا يطوفون على البيوت ويعزفون على العيدان والطنابير وينشدون أناشيد خاصة برمضان.
وتطورت بعد ذلك ظاهرة “التسحير” علي يد أهل مصر، حيث ابتكروا الطبلة ليحملها المسحراتي ليدق عليها بدلا من استخدام العصا، هذه الطبلة كانت تسمي “بازة” وهي صغيرة الحجم يدق عليها المسحراتي دقات منتظمة، ثم تطورت مظاهر المهنة فاستعان المسحراتي بالطبلة الكبيرة التي يدق عليها أثناء تجوله بالأحياء وهو يشدو بأشعار شعبية وزجل خاص بهذه المناسبة، تم تطور الأمر الي عدة أشخاص معهم طبل بلدي وصاجات برئاسة المسحراتي، ويقومون بغناء أغان خفيفة حيث شارك المسحراتي الشعراء في تأليف الأغاني التي ينادون بها كل ليلة.
واتخذت مهنة المسحراتي بعدا فنيا على يد الشاعر فؤاد حداد والموسيقار سيد مكاوي ، وفي عام 1964 انطلق مسحراتي الإذاعة، ومع انتشار التلفزيون أبدع مكاوي في مزج فن التسحير بالوعظ والإنشاد في حب الوطن.
اصح يا نايم وحد الدايم
“اصح يا نايم وحد الدايم .. رمضان كريم”.. كانت تلك الجملة التى يتميز بها أشهر شخصية فى رمضان، المسحراتى الذي يقوم بإيقاظ المسلمين في ليل شهر رمضان لتناول وجبة السحور.
في عهد الحاكم بأمر الله الفاطمي، وبعدما كان جنوده يقومون بمهمة المسحراتي، تم تخصيص رجل للقيام بمهمة المسحراتي، وكان ينادي: “يا أهل الله قوموا تسحروا”، ويدق علي أبواب المنازل بعصا كان يحملها في يده، واستخدم بعضهم كلمة “وحدوه”، او عبارة “يا فلان، يقصد صاحب المنزل: وحدوا الله.. فإذا رد صاحب المنزل قائلا.. “ﻻ إله إﻻ الله”، فهم المسحراتي، انه استيقظ للسحور، فينادي على غيره، وهكذا.
ومن العبارات المشهورة للمسحّرين قولهم:
يا نايم وحّد الدّايم يـا غافي وحّـد الله
يا نايم وحّد مولاك للي خلقك ما بنساك
قوموا إلى سحوركم جاء رمضان يزوركم
اصحي يا نايم وحد الدايم
وقول نويت بكرة إن حييت
الشهر صايم والفجر قايم
ورمضان كريم
ويقوم بتلحين هذه العبارات بواسطة ضربات فنّية يوجّهها إلى طبلته. وقديماً كان المسحّراتي لا يأخذ أجره، وكان ينتظر حتى أول أيام العيد فيمر بالمنازل منزلاً منزلاً ومعه طبلته المعهودة، فيوالي الضّرب على طبلته نهار العيد لعهده بالأمس في ليالي رمضان، فيهب له النّاس بالمال والهدايا والحلويّات ويبادلونه عبارات التّهنئة بالعيد السّعيد.
ويقول الدكتور حسين مجيب المصري : الشعر الذي كان يستخدمه المسحراتي كان يُسمَّى “فن القوما” ، واشتهر به “ابن نقطة” الذي كان موكولاً إليه إيقاظ الخليفة للسحور ، ولا يُلتزم فيه باللغة العربية. وذكر نموذجًا منه: وذكر أن ظهور فانوس رمضان ارتبط بالمسحراتي ، وكان يُعلَّق بالمآذن ، وشاهده ابن بطوطة في رحلته ورأى في الحرم المكي الاحتفال برمضان ، وقال: كانوا يعلقون قنديلين للسحور ليراهما مَن لم يسمع الأذان ليتسحر.
أسماء متعددة وشخصية واحدة
عادة المسحراتي انتقلت إلى بلدان المغرب العربي الكبير بشمال إفريقيا في عهد الدولة الفاطمية، التي تأسست في العام 300 هجرية الموافق لسنتي 912-913 ميلادية، ولمّا فتح الفاطميون مصر في العام 969 ميلادي، أسسوا مدينة القاهرة، شمال الفسطاط، وجعلوها عاصمتهم السياسية والروحية والثقافية الجديدة، وبقيت كذلك حتّى انهيارها في سنة 1171 ميلادية.
ورغم انهيار الدولة الفاطمية، بقيت شخصية المسحراتي واستمرت في التواجد بالمغرب العربي، محتفظة تقريباً بنفس الوسائل والكلمات لإيقاظ الناس لتناول السحور، مع تغيير اسم “البطل” من منطقة لأخرى.وواصل المسحراتي أداء مهمته حتى في عهد الاستعمار الأوروبي لمنطقة شمال إفريقيا، وذلك إلى أن بدأت هذه الشخصية المميزة في الانسحاب من المشهد الرمضاني شيئاً فشيئاً.
ففي الجزائر مثلاً، يمكن القول إنّ المسحراتي لم يعد موجوداً في المدن الكبيرة وبات نشاطه مقتصراً على القرى الصغيرة، وخاصة بالمناطق الصحراوية بجنوب البلاد، على غرار “وادي سوف” و”بسكرة” و”أدرار”، حيث يُسمى “بوطبيلة”، أي “صاحب الطبل” أو “الدندون”، نسبة لآلة “الدندون” وهي دف كبير وعصا يضرب بها ضرباً خفيفاً يخرج منه صوت غير مزعج.
ويقول “مسحراتي الجزائر” في جولته الليلة خلال الأيام الأولى من شهر رمضان: “اللهم صلّ على النبي”.وفي وسط الشهر الفضيل يقول: “اللهم صلّ وسلم على سيدنا محمد”، في حين يقول في الأيام الأخيرة: “الوداع الوداع يا شهر رمضان قال ليكم سيدي رمضان تبقاو على خير. وبعد قدوم العيد يطرق على أبواب البيوت حيث يقوم السكان بتكريمه بما تيسر منهم من مال.
ويُسمى المسحراتي بتونس بنفس الاسم الذي يُطلق عليه بمعظم جهات الجزائر، أي ” بوطبيلة”، ويقتصر حضوره هو أيضاً ببعض القرى والمدن الصغيرة، ومن أشهر ما ينادي به هو: “يا صايمين قوموا تسحروا”.
أما بالمغرب فيطلق على المسحراتي تسميات مختلفة، على غرار “الطبال” و”النفار” الذي يستعمل في مهمته مزماراً طويلاً يتجاوز طوله متراً، و”الغياط”، الذي يستعمل مزماراً من الحجم الصغير.
وفي ليبيا، يُسمى الشخص المنادي لتناول السحور “المسحراتي” وفي بعض المناطق وخاصة الجنوبية الغربية “النوبادجي”، حيث يتجول بين أزقة الحي، قبل ساعتين من أذان الفجر، مستعملاً طبلاً كبيراً يضرب عليه بعصاتين اثنتين.
وينتشر المسحراتي في كل الدول العربية في فلسطين وسوريا والسعودية وغيرها من البلدان.
المسحراتي بين البدعة والموروث الشعبي؟
تناول طعام السحور سنة نبوية، وفي التنبيه على السحور دلالة على الخير وتعاون على البر ، والإعلان بوقت السحور له أصل في الدين ، فقد كان في أيام النبوة يأذن بلال قبيل الوقت الحقيقي للفجر ، وكان في العصور التالية بوسائل شتى كإضاءة الأنوار والضرب على الآلات وغير ذلك ، فإذا اقتضت سنة التطور بقيام المسحراتي في الإعلان فلا بأس مادام ذلك في الإطار العام للدين.
يقول الشيخ عطية صقر من كبار علماء الأزهر-رحمه الله تعالى-: معلوم أن تناول طعام السَّحور سنة عن النبي ﷺ ، وذلك للتقوِّي به على الصيام ، كما جاء في حديث البخاري ومسلم : “تسحروا فإن في السحور بركة” ، ووقته من منتصف الليل إلى طلوع الفجر ، والمستحب تأخيره ، ففي البخاري ومسلم عن زيد بن ثابت : تسحَّرنا مع الرسول ﷺ ثم قمنا إلى الصلاة ، وكان قدر ما بينهما خمسين آية ، وكان هناك أذانان للفجر ، أحدهما يقوم به بلال ، وهو قُبيل الوقت الحقيقي للفجر ، والثاني يقوم به عبد الله بن أم مكتوم ، وقد بيَّن الرسول ﷺ أن أذان بلال ليس موعدًا للإمساك عن الطعام والشراب والمفطرات لبدء الصيام ، وأذِن لنا فى تناول ذلك حتى نسمع أذان ابن أم مكتوم. ففي حديث البخاري ومسلم : “أن بلالاً يؤذِّن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذِّن ابن أم مكتوم” رواه أحمد وغيره ، قوله ﷺ : “لا يمنعنَّ أحدَكم أذانُ بلال من سحوره ، فإنه يؤذن ـ أو قال ينادي ـ ليرجع قائمكم وينبه نائمكم. ومن هنا كان أذان بلال بمنزلة الإعلام بالتسحير في شهر رمضان ، وما كان الناس في المدينة يحتاجون إلى أكثر من ذلك للتنبيه على السحور.
يقول المؤرخون : لما جاء إلى مصر عتبة بن إسحاق واليًا من قِبَل الخليفة العباسي المنتصر بالله قام هو بالتسحير سائرًا على قدميه من مدينة العسكر في الفسطاط حتى جامع عمرو بن العاص ، وكان ذلك سنة 238 هـ ، وممن اشتهروا بالتسحير “الزمزمي” في مكة ، و”ابن نقطة” في بغداد ، وكان الزمزمي يتولي التسحير في صومعته بأعلى المسجد ومعه أخوان صغيران يقول: يا نيامًا قوموا للسحور.
ومن هنا نجد أن الإعلام بوقت السحور له أصل في الدين ، فكان في أيام الرسول ﷺ بأذان بلال، وكان في العصور التي تلت ذلك بوسائل شتى، بإضاءة الأنوار ، وبإنشاد الأشعار ، وبالضرب على الآلات ، ثم بإطلاق الصفارات وضرب المدافع وغير ذلك من الوسائل. ولا ينبغي أن نسرع بإطلاق اسم البدعة وجعْلها ضلالة في النار على كل شيء جديد لم يكن بصورته الحالية موجودًا في عهد التشريع ، فقد يكون له أصل مشروع، والصورة هي التي تغيرت، وفي التنبيه على السحور دلالة على الخير وتعاون على البر ، والدال على الخير كفاعله.
مصادر:5>
وكالة أنباء الشرق الأوسط
أرشيف “إسلام أونلاين”
كتاب “رياض المعرفة” للدكتور عبد الله أبو علم
صحيفة “الأخبار” اللبنانية 18/4/1988 ، 25/2/1994.