يضمن الاقتصاد الإسلامي لكل فرد من المجتمع الإسلامي المستوى المعيشي المسمى بمستوى حدّ الكفاية المعتبرة؛ الذي يساوي مستوى الحد الأدنى من الغنى؛ ليعيش كل فرد فيه حياةً كريمة، وعلى هذا فإنه يضمن الحياة الكريمة لكل العاطلين عن العمل والعاجزين عن الكسب؛ فالإسلام دين التكاتف والتكافل. (1)

يقول الله تعالى: { وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُوم} [سورة المعارج-الآية:24]، وقول الله تعالى: { ‏أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ‏(‏1‏)‏ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ‏(‏2‏)‏ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ][سورة الماعون-الآية:1-3].

قال رسول الله : [أنا أولى بكلِّ مسلمٍ من نفسِه من ترك مالًا فلورثته ومن ترك دينًا أو ضياعًا أي أسرةً : أولادًا صغارًا فإليّ وعليّ][الألباني-غاية المرام-الصفحة أو الرقم:358]، وقول رسول الله : [ما مِن مُؤْمِنٍ إِلَّا وَأَنَا أَوْلَى به في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اقْرَؤُوا إنْ شِئْتُمْ: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ)(سورة الأحزاب-الآية:6)، فأيُّما مُؤمِنٍ مَاتَ وَتَرَكَ مَالًا، فَلْيَرِثْهُ عَصَبَتُهُ مَن كَانُوا، وَمَن تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا، فَلْيَأْتِنِي؛ فأنَا مَوْلَاهُ][صحيح البخاري-رقم الحديث:2399].

كيفية تحقيق الكفاية المعيشية

إن من أهم ما جاء به الإسلام في المجال الاقتصادي هو تحقيق الكفاية المعيشية للإنسان بصفته إنسانًا، وليس بصفته قطعة في آلة أو عنصرًا من عناصر الإنتاج تتحدد قيمته بعدد من ساعات العمل؛ فهو إنسان خلقه الله سبحانه وتعالى بيديه، ونفخ فيه من روحه، وميزه بالعقل والقدرة على الاختيار بين الخير والشر، وكرمه على جميع مخلوقاته، وأسجد له ملائكته، قال الله تعالى: [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا][سورة الإسراء-الآية:70].

والكفاية في الإسلام ليست مجرد كلام نظري، ولكنها حقيقة لها أسس واقعية واضحة في القرآن الكريم، وفي السنة النبوية المطهرة.

كيفية تقدير حد الكفاية للرعية

هناك اخـتلاف في كيفيـة تقـدير واحتسـاب حـد الكفايـة المعيشية عند الفقهاء؛ (2) ممّا يثبت مرونة الفقـه الإسـلامي وسـعته لمجريـات الأمـور واخـتلاف الأحـوال بمـا يحقق المصلحة؛ إلاّ أن الكفايـة في المعـاش تختلـف بـاختلاف الأحـوال والزمـان والمكـان والأشخاص، بل يُزاد عليه: عدم وجود نص قطعي صريح لحسم هذه المسألة.

وفيما يلي عـرض لآراء الفقهـاء في المذاهب الأربعة الرئيسية في كيفيـة تقـديرهم لحـد الكفايـة وعلـى النحـو الآتي:

  1. المذهب الحنفي: يرون أن حد الكفاية للإنسان يحصل بكفاية حاجاتـه هـو ومن يعـولهم مـن أهله وولده.
  2. المذهب المالكي: ذهب فقهاء المالكية إلى اعتبار حد الكفاية بمـا يكفـي الإنسـان مـن حاجاتـه لمـدة سنة، ويحصل له به قوام العيش المعتاد.
  3. المذهب الشافعي: يرى أصحابه اعتبار حد الكفاية بما يخرج المُعطى من ذوي الحاجات إلى الغِنى**؛** وهذا أمر يختلف باختلاف الأحوال والزمان والمكان.
  4. المذهب الحنبلي: ذهب الحنابلة إلى أن الكفاية تقدر بالحـد المعـروف في النفقـات بمـا يحقـق الحـد الأوسط للمعيشة في المأكل والملبس والمشرب والسكن بما يدفع معه الحاجة.
  5. المذهب الظاهري: يرى الظاهرية أن حد الكفاية يحصل بتوفير المأكـل والمشـرب والمسـكن اللائـق بالإنسان.
  • قاعدة: لكلٍّ حد الكفاية أولًا؛ ثم لكلٍّ تبعًا لعمله (3)

استنادًا إلى أن المال في الإسلام هو مال الله والبشر مستخلفون فيه، كان المبدأ أو الأصل في الاقتصاد الإسلامي هو أن لكلٍّ حدّ الكفاية أولًا؛ ثم لكلٍّ تبعًا لعمله**؛** ومؤدى ذلك أن في الظروف غير العادية (الاستثنائية) كمجاعة أو حرب حيث تقل الموارد ولا تتوافر الحاجيات؛ يتساوى المسلمون من حيث توفير حد الكفاف، وفي الظروف العادية يتساوى المسلمون من حيث توفير حد الكفاية، وما فوق ذلك يكون لكل تبعًا لعمله وجهده.

ويترتب على ذلك ما يلي:

1- يضمن الإسلام المستوى المعيشي المسمى بحد الكفاف في الحالات الاستثنائية التي يمر بها اقتصاد الأمة، وحدّ الكفاية في الحالات الاعتيادية لاقتصاد الأمة.

قال رسول الله : [ليس المؤمنُ بالذي يشبعُ وجارُه جائعٌ إلى جنبَيْهِ] [أخرجه أبو يعلى (2699)، وتمام في (الفوائد) (1262)]، وقول رسول الله : [أيُّما أهلِ عَرْصةٍ ظَلَّ فيهِمُ امرؤٌ مسلمٌ جائعًا، فقدْ بَرِئَتْ منهم ذِمَّةُ اللهِ] [ابن حجر العسقلاني-لسان الميزان-الصفحة أو الرقم:7/281]، وقوله عليه الصلاة والسلام: [إنَّ الأشْعَرِيِّينَ إذا أرْمَلُوا في الغَزْوِ، أوْ قَلَّ طَعامُ عِيالِهِمْ بالمَدِينَةِ جَمَعُوا ما كانَ عِنْدَهُمْ في ثَوْبٍ واحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بيْنَهُمْ في إناءٍ واحِدٍ بالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وأنا منهمْ] [صحيح البخاري-رقم الحديث:2486]؛ وشرح الحديث: [المواساة والتكافل بين الناس عند الأزمات من أخلاق الأنبياء، ولقد تميز بها الأشعريون، وهم قبيلة من أهل اليمن، ومنها الصحابي الجليل أبو موسى الأشعري رضي الله عنه راوي الحديث، وقد مدحهم النبي بهذه الصفة، حيث قال في هذا الحديث: «إن الأشعريين إذا أرملوا»، أي: فني زادهم أو قل، أثناء خروجهم لقتال الأعداء، أو قل طعام عيالهم بالمدينة حال إقامتهم؛ جمعوا القليل الذي بقي عند بعضهم في ثوب واحد، «ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية»، أي: يأخذ كل فرد مثل أخيه، وفي هذا يتجلى الإيثار والمواساة؛ لأن بعض هؤلاء ليس عنده شيء، وبعضهم عنده قليل. ثم قال : «فهم مني وأنا منهم»، أي: متصلون بي في الأخلاق والمواساة فيما بينهم، وكأنه يقول: هذا العمل من عملي، وهم على طريقتي وسنتي وهديي، وفي هذا تنبيه على مكارم أخلاقهم، للحث على التأسي بهم والاقتداء بأفعالهم. وفي الحديث: منقبة عظيمة للأشعريين لإيثارهم ومواساتهم، وأعظم ما شرفوا به كونه أضافهم إليه.] (4)، وروى الصحابي الجليل أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: [بيْنَما نَحْنُ في سَفَرٍ مع النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ إذْ جَاءَ رَجُلٌ علَى رَاحِلَةٍ له، قالَ: فَجَعَلَ يَصْرِفُ بَصَرَهُ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: مَن كانَ معهُ فَضْلُ ظَهْرٍ، فَلْيَعُدْ به علَى مَن لا ظَهْرَ له، وَمَن كانَ له فَضْلٌ مِن زَادٍ، فَلْيَعُدْ به علَى مَن لا زَادَ له. قالَ: فَذَكَرَ مِن أَصْنَافِ المَالِ ما ذَكَرَ، حتَّى رَأَيْنَا أنَّهُ لا حَقَّ لأَحَدٍ مِنَّا في فَضْلٍ.] [صحيح مسلم-رقم الحديث:1728].

وفي شرح الحديث: [حض الله عز وجل على التعاون وبذل الخير للغير وأمر به، وعلم النبي أصحابه رضي الله عنهم كيفية التعاون والتآزر؛ لما فيه من نشر المؤاخاة والمحبة بين الناس. وفي هذا الحديث يروي أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أنهم كانوا في سفر مع رسول الله ، فجاءه رجل على “راحلة له” وهي الدابة التي اتخذت للسفر والركوب عليها، فشرع الرجل في الالتفات يمينًا وشمالًا ببصره، والمعنى: كانت راحلته ضعيفة لم يقدر أن يركبها، ويمشي مترجلًا، ويسقط من الضعف، ويحتمل أن تكون راحلته قوية، إلا أنها قد حمل عليها زاده، ولم يقدر أن يركبها من ثقل حملها، فلما رآه النبي على تلك الحال، قال في أصحابه: «من كان معه فضل ظهر» أي: ركوبة زائدة عما يركبها، والمراد بالظهر: الدابة وما في معناها من الوسائل الحديثة والمعاصرة، «فليعد به على من لا ظهر له» أي: فليتصدق به ويعطه إلى من لا يملك ما يسير به ويحمله، «ومن كان له فضل زاد»، وهو ما فضل من طعام منه «فليعد به على من لا زاد له» ليجود بذلك الفاضل ويرجع بالإحسان به على المحتاج إليه. وأخبر أبو سعيد رضي الله عنه أن رسول الله ذكر من «أصناف المال» كالثوب والنعال والقربة والماء والخيمة والنقود ونحوها، حتى ظن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين وفهموا من أمره هذا «أنه لا حق لأحد منا في فضل»، يعني: أن الإنسان ليس له حق في إمساك ما زاد على حاجته من الطعام والشراب والرحل وغير ذلك، وهذا كله من باب الإيثار، وهكذا الحكم إذا نزلت حاجة أو مجاعة، في السفر أو في الحضر؛ واسى المسلم بما زاد على كفاية تلك الحال. وفي الحديث: الحث على الصدقة، والمواساة والإحسان إلى الرفقة والأصحاب والاعتناء بمصالحهم، والسعي في قضاء حاجة المحتاج. وفيه: التعرض لسؤال الناس، وإن كان للسائل راحلة، وعليه ثياب. وفيه: أنه يكفي في حاجة المحتاج بتعرضه للعطاء، وتعريضه من غير سؤال. وفيه: مواساة ابن السبيل والصدقة عليه إذا كان محتاجًا.] (5).

وفي هذا المعنى يقول الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [إني حريص على ألَّا أدع حاجة إلا سددتها ما اتسع بعضنا لبعض، فإذا عجزنا تأسينا في عيشنا حتى نستوي في الكفاف] (6)، وقوله رضي الله عنه عام المجاعة سنة ١٨هـ: [لو لم أجد للناس ما يسعهم إلا أن أدخل على أهل كل بيت عدتهم فيقاسمونهم أنصاف بطونهم (7) حتى يأتي الله بالحيا -أي المطر- فعلت، فإنهم لن يهلكوا على أنصاف بطونهم]، وقول الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري رضي الله عنه: [عجبت لمن لا يجد القوت في بيته، كيف لا يخرج على الناس شاهرًا سيفه](8)، وقول الفقيه الإسلامي الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى في كتابه المحلى: [إنه إذا مات رجل جوعًا في بلد اعتُبر أهله قتلة، وأُخذت منهم دية القتيل]، ويضيف ابن حزم بأن للجائع عند الضرورة أن يقاتل في سبيل حقه في الطعام الزائد عند غيره، [فإن قُتل – أي الجائع – فعلى قاتله القصاص، وإن قَتل المانعَ فإلى لعنة الله لأنه منع حقًا وهو طائفة باغية] (9)، وقول الفقيه أحمد بن علي الدلجي في كتابه (الفلاكة والمفلوكون) “أي الفقر والفقراء”: [إن من حق المحروم أن يرى النعم التي بأيدي الناس مغصوبة، والمالك المستحق يطالب باسترداد ماله من أيدي الغاصبين] (10)، وهذه العبارة تعبّر عن العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان، وتذكّر بأهمية تحقيق العدالة في توزيع الثروة، وهي تعكس فكرة أن المجتمع يجب أن يكون مكانًا يحظى فيه كل فرد بحقوقه، ولا يُظلم أحد، ولا تُغصب أمواله، هذا الموقف الإسلامي يركز على مواجهة مشكلة الفقر وحقوق الإنسان، حيث يعتبر أن لكل إنسان حقًا في استرداد ماله المغصوب.

2- السماح بالثروة والغنى بعد ضمان “حد الكفاية” لكل فرد مسلم

يقوم كل فرد مسلم بتحقيق المستوى اللائق للمعيشة بحسب ظروف الزمان والمكان والحال بعد ضمان “حد الكفاية” له من قبل الاقتصاد الإسلامي، وهذا المستوى هو ما يوفره لنفسه بجهده وعمله، فإن عجز عن ذلك بسبب خارج عن إرادته كمرض أو شيخوخة، انتقلت مسؤولية ذلك إلى بيت مال المسلمين أي خزانة الدولة.

فضمان حد “الكفاية” لا “الكفاف” لكل فرد يعيش في المجتمع الإسلامي، هو في الإسلام أمر جوهري مقدس باعتباره حقّ الله الذي يعلو فوق كل الحقوق، ويجب ألَّا يهمل أو يُنسى أو يُنكر أو يُغفل عنه، يقول الله تعالى: [أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ] [سورة الماعون-الآية:1-3]، ويؤكد الإمام الماوردي في كتابه (الأحكام السلطانية) أن: [تقدير العطاء معتبر بالكفاية]؛ وذلك في النص التالي: [وأما تقدير العطاء فمعتبر بالكفاية حتى يستغني بها عن التماس مادة تقطعه عن حماية البيضة. والكفاية معتبرة من ثلاثة أوجه:

  • أحدها عدد من يعوله من الذراري والمماليك.
  • والثاني: عدد ما يرتبطه من الخيل والظهر.
  • والثالث: الموضع الذي يحله في الغلاء والرخص، فيقدر كفايته في نفقته وكسوته لعامه كله؛ فيكون هذا المقدر في عطائه؛ ثم تعرض حاله في كل عام؛ فإن زادت رواتبه الماسة زيد؛ وإن نقصت نقص.

واختلف الفقهاء إذا تقدر رزقه بالكفاية هل يجوز أن يزاد عليها؟ فمنع الشافعي من زيادته على كفايته، وإن اتسع المال؛ لأن أموال بيت المال لا توضع إلا في الحقوق اللازمة، وجوّز أبو حنيفة زيادته على الكفاية إذا اتسع المال لها، ويكون وقت العطاء معلومًا يتوقعه الجيش عند الاستحقاق: وهو معتبر بالوقت الذي تُستوفى فيه حقوق بيت المال، فإن كانت تُستوفى في وقت واحد من السنة جعل العطاء في رأس كل سنة، وإن كانت تُستوفى في وقتين جعل العطاء في كل سنة مرتين، وإن كانت تُستوفى في كل شهر جعل العطاء في رأس كل شهر ليكون المال مصروفًا إليهم عند حصوله، فلا يُحبس عنهم إذا اجتمع ولا يطالبون به إذا تأخر، وإذا تأخر عنهم العطاء عند استحقاقه وكان حاصلًا في بيت المال كان لهم المطالبة به كالديون المستحقة، وإن أعوز بيت المال لعوارض أبطلت حقوقه أو أخرتها كانت أرزاقهم دَينًا على بيت المال، وليس لهم مطالبة ولي الأمر به كما ليس لصاحب الدَّين مطالبة من أعسر بدَينه وإذا أراد وليّ الأمر إسقاط بعض الجيش لسبب أوجبه، أو لعذر اقتضاه جاز، وإن كان لغير سبب لم يجز؛ لأنهم جيش المسلمين في الذبِّ عنهم. وإذا أراد بعض الجيش إخراج نفسه من الديوان جاز مع الاستغناء عنه، ولم يجز من الحاجة إليه، إلَّا أن يكون معذورًا، وإذا جرّد الجيش لقتال فامتنعوا، وهم أكفاء من حاربهم سقطت أرزاقهم، وإن ضعفوا عنهم لم تسقط، وإذا نفقت دابَّة أحدهم في حرب عوِّض عنها، وإن نفقت في غير حرب لم يعوض، وإذا استهلك سلاحه فيها عوض عنه إن لم يكن يدخل في تقدير عطائه، ولم يعوض إن دخل فيه. وإذا جُرِّدَ لسفر أعطي نفقة سفره إن لم تدخل في تقدير عطائه ولم يعط إن دخلت فيه. وإذا مات أحدهم أو قتل كان ما يستحق من عطائه موروثًا عنه على فرائض الله تعالى، وهو دين لورثته في بيت المال. واختلف الفقهاء في استبقاء نفقات ذريته من عطائه في ديوان الجيش على قولين: أحدهما: أنه قد سقطت نفقتهم من ديوان الجيش لذهاب مستحقه، ويحالون على مال العشر والصدقة. والقول الثاني: أنه يستبقي من عطائه نفقات ذريته ترغيبًا له في المقام، وبعثًا له على الإقدام. واختلف الفقهاء في سقوط عطائه إذا حدثت به زمانة على قولين: أحدهما: يسقط؛ لأنه في مقابلة عمل قد عدم. والقول الثاني: أنه باقٍ على العطاء ترغيبًا في التجند والارتزاق ] (11).

إن الإسلام عندما يسمح بالثروة والغنى فإنه في نفس الوقت ينادي بشيئين هما:

  1. القضاء على الفقر والمسكنة والعوز في المجتمع الإسلامي.
  2. احترام الفقراء والمساكين وكل شخص معوز ومحتاج، يقول الله تعالى: [وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ] [سورة النور-الآية:33].

وقول الله تعالى: [وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ] [سورة الذاريات-الآية:19]، وقول الله عزَّ وجلَّ: [وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا] [سورة الإسراء-الآية:26]، ويقول رسول الله : [أنا أولى بكلِّ مسلمٍ من نفسِه من ترك مالًا فلورثته ومن ترك دينًا أو ضياعًا أي أسرةً: أولادًا صغارًا فإليّ وعليّ] [الألباني-غاية المرام-الصفحة أو الرقم:358-صحيح]، وفي رواية أخرى: [ما مِن مُؤْمِنٍ إِلَّا وَأَنَا أَوْلَى به في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اقْرَؤُوا إنْ شِئْتُمْ: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ)(سورة الأحزاب-الآية:6)، فأيُّما مُؤمِنٍ مَاتَ وَتَرَكَ مَالًا، فَلْيَرِثْهُ عَصَبَتُهُ مَن كَانُوا، وَمَن تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا، فَلْيَأْتِنِي؛ فأنَا مَوْلَاهُ] [صحيح البخاري-رقم الحديث:2399].

وفي شرح هذا الحديث: [في هذا الحديث يبيّن رسول الله أنه ما من مؤمن إلاّ والنبي أولى -أي: أحق- الناس به في كل شيء من أمور الدنيا والآخرة، وأكد كلامه بقول الله تعالى: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) (سورة الأحزاب-الآية:6)؛ فهو أرأف الخلق بهم، وأنفسهم تدعوهم إلى الهلاك، وهو يدعوهم إلى النجاة. ولم يذكر النبي في هذا الحديث ما له من حقوق على المؤمنين تجاه هذه الولاية؛ فإنه يجب عليهم إيثار طاعته على شهوات أنفسهم وإن شق ذلك عليهم، وأن يحبوه أكثر من محبتهم لأنفسهم؛ وقال النبي : (لا يُؤْمِنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من ولدِهِ، ووالدِهِ، والناسِ أجمعينَ)(صحيح مسلم-رقم الحديث:44). وأخبر أن من مات من المسلمين وله مال، فإن ورثته وعصبته -أي: أقاربه الوارثين- أولى بهذا المال يأخذونه ميراثًا، ومن كان عليه دين أو ترك ضياعًا -وهم الأولاد الصغار والزوجة ومن لا يستطيع القيام بأمر نفسه- فإن النبي أولى الناس به؛ يسد دينه، ويعول من ترك من أولاده ونسائه].

وقد كان لا يُصلِّي في أول الأمر على من مات من المسلمين وعليه دَين، إلا أن يقضيه عنه أحد، أو يكون قد ترك ما يُقضى به هذا الدَّين؛ لأن الدَّين من حقوق العباد التي يجب الوفاء بها، ولم يكن ترك الصلاة على المدين واجبًا عليه ، وإنما تركه ليُحرّض الناس على سداد ديونهم؛ حتى لا تفوتهم صلاته ، فلما فتح الله تعالى على المسلمين الفتوح وكثر المال، واستقر تعظيم أمر الدين في نفوسهم؛ كان يقضي دَين من مات ولم يترك ما يسد دَينه (12).

3عدم وجود حدٍّ أعلى للملكية والاغتناء؛ والعمل على رفع المستويات المعيشية للفقراء والمساكين

متى توافر لكل فرد في المجتمع الإسلامي “حد الكفاية” أي المستوى اللائق للمعيشة، والذي تضمنه الاقتصاد الإسلامي لكل مواطن إذا عجز عن تحقيقه لسبب خارج عن إرادته، فإنه يكون: لكلٍّ حسب عمله وسعيه في الأرض؛ من دون قيد أو حدٍّ أعلى للملكية أو الثروة والاغتناء.

يقول الله تعالى: [وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا ۖ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ ۚ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا] [سورة النساء-الآية:32]،

وقال رسول الله : [لا بأس بالغِنَى لمنِ اتَّقى، والصِّحَّةُ لمنِ اتَّقى خيرٌ منَ الغِنَى، وطيبُ النَّفسِ منَ النَّعيمِ] [الألباني-صحيح ابن ماجه-رقم:1754-صحيح].

فاغتناء الناس وتفاوتهم في أرزاقهم ومعيشتهم، ورفع بعضهم فوق بعض درجات وتفضيل بعضهم على بعض، ليس اعتباطًا، وإنما هو بقدر ما يبذلونه من جهد وعمل صالح.

يقول الله تعالى: [وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى] [سورة النجم-الآية:39-41].

وعليه، فإنه في ظل الاقتصاد الإسلامي، يصح أن يتواجد أثرياء كبار ممن نطلق عليهم اليوم اصطلاح “مليونير” أو “بليونير”، ولكنه مليونير أو بليونير ملتزم بالشرع، فهو لا يملك أن يكنز ماله أو يحتكر أو يربو به، أو يستغل به الآخرين، ولا يملك أن يصرف ماله على غير المجالات والمسموحات الشرعية، وإلا عُدَّ سفيهًا وجاز الحجر عليه، ولا يملك أن يُسرف أو يُبذر أو يُترف بالمال، وهو مطالب دائمًا بإنفاق الفائض عن حاجته في سبيل الله، سواء في صورة إنفاق مباشر على المحتاجين أو استثمار يعود نفعه على المجتمع.

وفوق ذلك كله، فإن الحاكم أو أولياء الأمر، أي الدولة الإسلامية، مطالبة بالتدخل لمنع استئثار أقلية بخيرات المجتمع، عملًا بقول الله تعالى: [مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ ۚ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ] [سورة الحشر-الآية:7]،

ومطالبة دائمًا باتخاذ الإجراءات اللازمة لتحقيق التوازن الاقتصادي بين أفراد المجتمع، بالقدر الذي يحقق التكامل لا التناقص، والتعاون لا التصارع.

من أهداف الاقتصاد الإسلامي

يهدف الاقتصاد الإسلامي إلى تحقيق أهداف اقتصادية واجتماعية عديدة (13)، منها ما يلي:

1- تحقيق حد الكفاية المعيشية

يهدف الاقتصاد الإسلامي إلى توفير مستوى ملائم من المعيشة لكل إنسان، وهو ما يعرف في الفقه الإسلامي بـ”توفير حد الكفاية”، وهو مفهوم نسبي، أي أن لكل فرد أو أسرة أو فئة في المجتمع حد الكفاية الخاص بها، والذي ينقلها من حالة الفقر إلى الغنى. فحد الكفاية لبائع الخضروات يقتصر على ما يوفر له حياة كريمة ويوفر له رأس مال صغير يعمل به، وحد الكفاية لصاحب الحرفة أو المهنة يمتد ليشمل توفير متطلبات وأدوات مهنته، وحد كفاية إمام المسجد يمتد ليشمل مظهره على النحو الذي يليق به.

قال رسول الله : [مَن وَلِيَ لنا عَمَلًا وليس له مَنزِلٌ فلْيَتَّخِذْ مَنزِلًا، أوْ ليستْ له زَوجةٌ فلْيَتزَوَّجْ، أوْ ليس له خادِمٌ فلْيَتَّخِذْ خادِمًا، أوْ ليس له دابَّةٌ فلْيَتَّخِذْ دابَّةً، ومَن أصابَ شيئًا سِوى ذلك فهو غالٌّ] [مسند الإمام أحمد-مسند الشاميين-رقم الحديث:18015]،

وقال رسول الله : [مَن كانَ لنا عاملًا فليَكتسب زوجةً، فإن لم يَكن لَهُ خادمٌ فليَكتسِبْ خادمًا، فإن لم يَكن لَهُ مسكنٌ فليَكتسب مَسكنًا. قال: قال أبو بكرٍ: أُخبِرتُ أنَّ النبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ: منِ اتَّخذَ غيرَ ذلك فَهوَ غالٌّ أو سارِقٌ] [سنن أبي داود-رقم الحديث:2945].

وفي شرح الحديث: حرص النبي على أن يكفل لعماله حدًّا للكفاية؛ من زواج ومسكن وخادم؛ إعفافًا لهم عن السؤال، ومعناه أنه يباح له أن يأخذ من بيت مال المسلمين مقدار مهر زوجة ومسكن وخادم بغير تبذير، فإن أخذ ما يزيد على ذلك من غير حاجة عدَّ غالًّا أو خائنًا.

ويحتمل في معنى هذا الحديث: أن العامل والوالي له أن يأخذ من بيت مال المسلمين مؤونة زواجه، ويتخذ خادما ومسكنا إن لم يكن له ذلك؛ ليتفرغ للعمل مدة ولايته، وقيل: معناه: أنه يباح له اكتساب ذلك من عمالته، التي هي أجرة مثل عمله وراتبه الذي يأخذه.  “قال أبو بكر”؛ وهو المعافى بن عمران الموصلي من رواة هذا الحديث: “أخبرت أن النبي قال: منِ اتَّخذَ غيرَ ذلِكَ “، يعني: ما ذكر وهو في حالة الضرورة من غير سرف ولا ترف، ” فَهوَ غالٌّ أو سارِقٌ “، يعني: خائنا أو سارقا.] [15].

هذا، ومن شدة حرص الشريعة الإسلامية على توفير حد الكفاية المعيشية لجميع المواطنين، استخدم الإسلام موارد مالية معينة: كالزكاة، والفيء، وخمس الغنائم، وغيرها من الأدوات المالية؛ لتُسهِم في تحقيق الكفاية المعيشية للذين لا يقدرون على تحقيق حد الكفاية لأنفسهم، وهذا الحد يُطلق عليه: الحد الأدنى للغنى.

2- التوظيف الأمثل للموارد الاقتصادية

يعد التوظيف الأمثل للموارد الاقتصادية من الأهداف الرئيسية للاقتصاد الإسلامي، ويتحقق التوظيف الأمثل فيه من خلال عدة طرق، أهمها ما يلي:

1- توظيف الموارد الاقتصادية في إنتاج الطيبات من الرزق، وعدم إنتاج السلع أو الخدمات الضارة أو المحرمة.

2- التركيز على إنتاج الضروريات، ثم الحاجيات، ثم التحسينيات التي تسهم في حماية مقاصد الشريعة، وفقًا لمبدأ الأولويات التي تبدأ بإنتاج السلع الضرورية، ثم التحسينية، ثم الكمالية.

3- إبعاد الموارد الاقتصادية الموظَّفة عن عيوب الإنتاج المتمثلة في الإسراف والتبذير والترف، كونها نفقات مرفوضة في الاقتصاد الإسلامي.

ويجب ربط التوظيف الأمثل للموارد الاقتصادية بتحقيق العدالة في توزيع الناتج (الدخل) المتولد من العمليات الإنتاجية على الفئات المستحقة، ثم بعدها العمل على إعادة توزيع الدخل القومي لصالح الطبقات الفقيرة؛ مما يُحفّز الطلب الكلي الفعّال في الدولة نحو ازدياد العرض الكلي فيها من خلال شراء السلع والخدمات المنتجة، مما يعني تنشيط الأسواق الوطنية، ثم ازدياد الناتج المحلي الإجمالي، ثم الناتج القومي الإجمالي، ثم الدخل القومي، ثم ازدياد متوسط الدخول الفردية، ثم ازدياد الرفاهية الاقتصادية لكل فرد من أفراد المجتمع الإسلامي، وهو الهدف الاقتصادي الأكبر الذي يبحث الاقتصاد الإسلامي عنه، ويكدح ويحاول بشتى الوسائل الشرعية الوصول إليه.

3- الحد من التفاوت في توزيع الدخل والثروة

الاقتصاد الإسلامي يُحرِّم الاحتكار، والربا، والقمار، والرشوة، والغش، وكل أشكال أكل أموال الناس بالباطل، والاستغلال، والأنانية التي يكون الفقير هو ضحيتها.

ويستخدم أدوات مالية ونقدية كثيرة ومتنوعة مثل: الزكاة، والصدقات الواجبة الأخرى، والصدقات التطوعية بأنواعها، وأحكام الميراث، والوصية، والوقف، والهبة، والهدية، والمساعدات المالية، والدعم الاقتصادي، والتعاون، والتعاضد المالي، وغيرها؛ لأجل الوصول إلى توزيع عادل للدخول والثروات في المجتمع الإسلامي، وليرتقي بحال الفقراء والمساكين والمعوزين إلى المستوى المعيشي الكفائي، والكريم، واللائق، ثم رفع المستويات المعيشية لكافة أفراد الأمة نحو الأفضل، والأمثل، والأرفع، من دون تحديد سقف محدد لذلك، ما دامت معضَّدة من قبل أحكام الشريعة الإسلامية.

4- تحقيق القوة المادية والدفاعية للأمة الإسلامية

قال الله تعالى: [وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ] [سورة الأنفال – الآية:60].

وتفسير الآية: [وأعدُّوا – يا معشر المسلمين – لمواجهة أعدائكم كل ما تقدرون عليه من عدد وعدة، لتُدْخلوا بذلك الرهبة في قلوب أعداء الله وأعدائكم المتربصين بكم، وتُخيفوا آخرين لا تظهر لكم عداوتهم الآن، لكن الله يعلمهم ويعلم ما يُضمرونه. وما تبذلوا من مال وغيره في سبيل الله، قليلًا أو كثيرًا، يُخلفه الله عليكم في الدنيا، ويدّخر لكم ثوابه إلى يوم القيامة، وأنتم لا تُنقصون من أجر ذلك شيئًا] (16).

إن وجود الاقتصاد الإسلامي قائم على المصادر المختلفة للشريعة الإسلامية، وبشكل أساس على مصدريه الأساسيين وهما القرآن والسنة، وعلى نصوصهما المختلفة في بناء الأرضية القوية التي يقف عليها تطوير اقتصاد الأمة وبناء مستقبلها، لذا فهو يؤسس اقتصادًا حربيًا ودفاعيًا مستديمًا، كما تشير إليه الآية الكريمة، ويعتبرها من ضرورات كيانه ومستقبله.

فهو يحقق كل ما يكفل للمجتمع الإسلامي الأمن والحماية، ويدرأ عنه العدو المتربص باستقلاله والمستنزف لطاقاته الاقتصادية. ولا شك أن المال والقوة الاقتصادية هما العاملان الأساسيان اللذان يعملان على تحقيق أهداف الأمة من الاستقلال، والقوة المادية، والاقتصادية، والدفاعية.

الضمان الاجتماعي في الإسلام

الاقتصاديات الغربية الوضعية والضمان الاجتماعي : إن فكرة الضمان الاجتماعي (17) في الاقتصاديات الغربية الوضعية حديثة؛ وجاءت كقرار سياسي لمواجهة ضغوط اجتماعية شكّلت تهديدًا لأمن واستقرار تلك المجتمعات، وتجنبًا لهذا التهديد أو تخفيفًا لتأثيراته المحتملة في أوضاعها السياسية والأمنية، وجدت تلك الدول نفسها ملزمة بتقديم أشكال من العون والمساعدة للشرائح الأضعف من المجتمع؛ وذلك تحت مسمى المساعدات الاجتماعية أو الضمان الاجتماعي أو غيرها من المسميات، ثم تحوّلت تلك الالتزامات في مراحلها المتقدمة إلى مبادئ دولية تحميها المواثيق الدولية، باعتبارها من الحقوق الإنسانية الواجبة توفيرها والحفاظ عليها من أي انتهاكات أو إخلال.

وتأكيدًا لذلك، نصَّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948م في مادته الثانية والثالثة والعشرين على أن: لكل شخص، بوصفه عضوًا في المجتمع، حق في الضمان الاجتماعي، ومن حقه أن توفَّر له، من خلال المجهود القومي والتعاون الدولي، وبما يتفق مع هيكل كل دولة ومواردها، الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي لا غنى عنها لكرامته ولتنامي شخصيته في حرية.

ونص المادتين هو:

  • المادة 22: لكل شخص، بوصفه عضوًا في المجتمع، حق في الضمان الاجتماعي، ومن حقه أن توفَّر له، من خلال المجهود القومي والتعاون الدولي، وبما يتفق مع هيكل كل دولة ومواردها، الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي لا غنى عنها لكرامته ولتنامي شخصيته في حرية.
  • المادة 23 تضمنت ما يلي:
  1. لكل شخص حق العمل، وفي حرية اختيار عمله، وفي شروط عمل عادلة ومرضية، وفي الحماية من البطالة.
  2. لجميع الأفراد، دون أي تمييز، الحق في أجر متساوٍ على العمل المتساوي.
  3. لكل فرد يعمل حق في مكافأة عادلة ومرضية تكفل له ولأسرته عيشة لائقة بالكرامة البشرية، وتُستكمل، عند الاقتضاء، بوسائل أخرى للحماية الاجتماعية.
  4. لكل شخص حق إنشاء النقابات مع آخرين والانضمام إليها من أجل حماية مصالحه (18).

وقد تعزز هذا النص أيضًا من خلال العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المعتمد من قِبل الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1966م، والذي أقرّت الدول الأطراف، بمقتضى مادته التاسعة، بحق كل شخص في الضمان الاجتماعي، بما في ذلك التأمينات الاجتماعية.

– المنظور الإسلامي للضمان الاجتماعي: المنظور الإسلامي إلى الضمان الاجتماعي يرجع إلى أكثر من 1400 سنة، فهو بدأ منذ مجيء الإسلام العزيز، واستمر إلى حد الآن، وسيستمر مستقبلًا دون توقف.

الضمان الاجتماعي الإسلامي جاء:

  1. تقديرًا للإنسان الذي كرّمه الله تعالى بقوله عزَّ وجلَّ: [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ] [سورة الإسراء-الآية:70]، باعتبار هذا الضمان مسؤولية شرعية ثابتة لا يجوز بأي حال التفريط فيها، فهي ليست منّةً من المجتمع أو الأغنياء أو الدولة على أولئك المستحقين.
  2. جاء كقاعدة دينية إسلامية ثابتة، ومظهر للإيمان بالله واليوم الآخر.
  3. كتَكريم واجب للإنسان خليفة الله في أرضه.
  4. التزام شرعي على الدولة بأن تكفل الفرد المسلم على الدوام بما يحقق المقاصد الشرعية.
  5. عدم لوم الفقراء على فقرهم، وعدم إلزامهم بمسؤولية تحميل الآخرين كاهل الإنفاق، بل إن الإسلام ينظر ضمن منهجه الاجتماعي الشامل إلى الفقراء نظرة:ملؤها الرحمة وروح المساواة.ويؤكد أن للفقراء حقًا ثابتًا في أموال الأغنياء؛ أي إن هناك ما يشبه الشركة بين الفقراء والأغنياء في الأموال، فليس لهم أن يصرفوها إلى غير شركائهم.بمعنى أن الله سبحانه وتعالى قد جعل للفقراء حقًا في أموال الأغنياء كحق غرماء الميت المتعلق بتركته، فإن امتنع الغني عن أداء ذلك الحق، كان للحاكم الشرعي أو لعدول المسلمين، من باب الحسبة، استيفاء ذلك الحق قهرًا.
  6. ليست الصدقات الواجبة من زكاة الأموال، وزكاة الفطر، والكفارات، والنذور وغيرها؛ هي كل ما يقدمه الإسلام للفقراء، بل إن الإنفاق المستحب وصدقة السر يسدان جزءًا كبيرًا من حاجاتهم أيضًا، إلى حد الكفاية وأدنى مراتب الغنى.

– المؤونة السنوية اللائقة المضمونة لكل فرد مسلم: الفقير هو من لا يملك مؤونة سنة، والغني هو الذي تتحقق له مؤونة سنوية لائقة بوضعه الاجتماعي. وقيل: إن الأولى إيكال معرفة النفقة المستثناة أو المؤونة إلى العرف، وبذلك فإن كل فرد في المجتمع الإسلامي مضمونة معيشته على الصعيد التطبيقي لمدة سنة كاملة، فإذا دخلت السنة الجديدة وليس لديه ولعائلته ما يكفيهم، عندئذٍ يحق له أخذ ما يكفيه ومن يعول من الموارد المالية الشرعية لسنة أخرى.

وهذا الضمان المالي يُشبع حاجات الطبقة الفقيرة، ثم يرفعها إلى مستوى عامة الناس، الذي هو مستوى الحد الأدنى للغنى، والذي يعبر عن المستوى المضمون المجاني لكل فرد مسلم في المجتمع الإسلامي، وهو مستوى الكفاية المعتبرة التي تضمنها الشريعة الإسلامية لكل فرد مسلم في كل سنة.

– جوهر العدالة الاجتماعية في الاقتصاد الإسلامي: إن الاقتصاد الإسلامي يعالج مشكلة الفقر معالجة حقيقية واقعية تطبيقية، ولو أن الناس أدّوا زكاة أموالهم ما بقي مسلم فقيرًا محتاجًا، أو يعاني من الفقر والجوع والمرض والجهل.

إن مشكلات الجوع والمرض والجهل تمثل إدانة حقيقية لأي نظام اقتصادي واجتماعي في العالم، خصوصًا إذا أسهم ذلك النظام في تجويع أفراده وحرمانهم من أبسط مقومات الحياة.

ولما كان الإسلام يمثل جوهر العدالة الاجتماعية، فإنه يقوم بتحديد مستوى حد الكفاية المعتبرة لكل فرد في مجتمعه، ثم يضمنه مجانًا لكل واحد منهم، ولأجل الوصول إلى هذا الهدف يتخذ خطوات وأساليب وعوامل شرعية عديدة؛ من ضمنها عدم القبول بحصر أموال المجتمع بيد فئة قليلة من المجتمع الإسلامي؛ لأنه يعتقد بأن من أخطر الأسباب المؤدية إلى الفقر والكساد والمشكلات الاقتصادية والاجتماعية المتنوعة هو وقوع المال دُولةً بين الأغنياء فقط؛ ولهذا فإن هناك نصًا خاصًا بهذا الموضوع وهو قول الله تعالى: [كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ] [سورة الحشر – الآية:7]، مما جعل المجتمعات الإسلامية آمنة على مرّ العصور من هذه الجهة.

وهذه العقيدة جنّبت الاقتصاد الإسلامي من خلق فئة قليلة العدد، كبيرة الرأسمال والثروات، تعيش على حساب الأكثرية الساحقة من المجتمع، كما هو الحال في النظام الرأسمالي الوضعي الذي يحصر الثروات الاقتصادية بمختلف أنواعها في يد الطبقة الرأسمالية، غير مكترث بحرمان بقية الأفراد والطبقات من خيرات البلدان الرأسمالية الوضعية.

– منهج تقريب الطبقات الاجتماعية: يتبع الاقتصاد الإسلامي منهجًا عمليًا رائعًا في تحويل الفقراء إلى الطبقات الأعلى ماديًا؛ فأمر بتحريك الأموال الصامتة والمتعطلة وتوجيهها نحو تنشيط الطاقات والإبداعات والفعّاليات الاقتصادية المختلفة داخل نظامه الاقتصادي، وأنذر بمعاقبة أولئك الذين يخالفون أوامر القرآن والسنة في تصرفهم بالأموال المسخَّرة التي تحت أيديهم.

قال الله تعالى: [وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ۖ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ] [سورة التوبة – الآية:34-35]،

كما أمر بتوظيفات مالية عديدة على سبيل الفرض والاستحباب، والتي تتمثل بكل من الصدقات الواجبة والتطوعية؛ وذلك لأجل التقريب بين المستويات المعيشية للطبقات الاجتماعية المختلفة داخل النظام الاقتصادي الإسلامي.

وقد بيّنت أدلة كثيرة من القرآن والسنة ذلك، مثل قول الله تعالى: [وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ] [سورة الذاريات – الآية:19]،

وقوله عزَّ وجلَّ: [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] [سورة التوبة – الآية:103]،

وقوله سبحانه وتعالى: [فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ] [سورة البلد – الآية:11-16].

وقد أعطى الفقراء حد كفايتهم المعيشية، مما وفّر لهم فرصًا حقيقية لإلحاقهم بالطبقات المتوسطة والمرتفعة؛ وشجّع على الخيرات والصدقات سرًا وعلانية.

قال الله تعالى: [إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ۖ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۚ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ] [سورة البقرة – الآية:271].

وتفسير الآية: [إن تعلنوا الصدقات فتعطوها لمستحقيها فنعِمّا هي، وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم؛ فإخفاء الصدقة خير من إعلانها، لا سيما في صدقة التطوع، وكل مقبول إذا كانت النية صادقة، وصدقة السر أفضل. والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار] (19).

وقوله تعالى: [فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ] [سورة الحج – الآية:28]. وفي تفسير “البائس الفقير”: أي الزمن الفقير الذي لا شيء له، و”البائس” الذي اشتد بؤسه، والبؤس: شدة الفقر.(20) ويحث الإسلام المسلمين على الإنفاق المندوب، ويشجعهم على السخاء والكرم في العطاء.

يقول الله تعالى: [لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ] [سورة آل عمران – الآية:92]،

وقوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ ۖ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ] [سورة البقرة – الآية:267].

وتفسير الآية: [يا من آمنتم بي واتبعتم رسلي، أنفقوا من الحلال الطيب الذي كسبتموه، ومما أخرجنا لكم من الأرض، ولا تقصدوا الرديء منه لتعطوه الفقراء، ولو أُعطيتموه لم تأخذوه إلا إذا تغاضيتم عما فيه من رداءة ونقص، فكيف ترضونه لله؟ واعلموا أن الله غني عن صدقاتكم، محمود في كل حال] (22).

مفاتيح أسرار تطوير الاقتصاد وفق منظور الاقتصاد الإسلامي

  • الإعمار هو من علامات الإيمان والتقوى: جعل الإسلام الإنفاق والتعمير من علامات الإيمان والتقوى، فما من آية أو حديث لرسول الله يتكلّم عن الإيمان والتقوى إلا ويقرنه بالإنفاق في سبيل الله، أي في سبيل المجتمع وتنميته. لذلك نجد الإسلام ينهى بشدة لامثيل لها عن اكتناز المال وتبذيره وصرفه بغير حق في ترف أو سفه، حتى إنَّه وصف المترفين بالمجرمين؛ ووصف المبذرين بأنهم إخوان الشياطين، وربط بين الإيمان والإنفاق في سبيل الله.
  • الإسلام هو المنهج الكامل للحياة: إن الإسلام جاء بمنهج كامل للحياة؛ يوازن فيه الجانب المادي مع الجانب الروحي في حياة البشر؛ لأنَّ لا قوام لجانب دون الآخر، وكلاهما يتأثر بالآخر ويؤثر فيه، ووضع منذ البداية وقبل أن تتطور الأحداث الأساسيات الضرورية والمبدئية لحلّ مشاكل المجتمع المختلفة، من ضمنها الفقر والتخلف. واعتبر المال زينة الحياة الدنيا وقوام المجتمع، وأنه عون على تقوى الله تعالى، وأن طلب الحلال فريضة وجهاد في سبيل الله، بل إنه ساوى بين الفقر والكفر، وأن رسول الله استعاذ من الفقر حيث قال: [اللهم إنِّي أعوذ بك من الكفر والفقر] [سنن أبي داود – رقم الحديث: 5090]. وفرض الإسلام احترام الفقراء والمساكين والمعوزين ومساعدتهم وإعانتهم، وجعل لهم مكانة خاصة، وفرض احترام الأيتام وإطعام المساكين؛ قال الله تعالى: [أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (13)] [سورة الماعون – الآية: 1‑3]؛ هُنا افتتح الله تعالى هذه السورة مخاطبًا نبيه بكلمة “أرأيت”، مشيرًا إلى من يرفض بر اليتيم وإطعام المسكين(23). وقال تعالى أيضًا: [إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ۖ وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا] [سورة النساء – الآية: 10]، مع تفسيرها “إن الذين يعْتَدون على أموال اليتامى، فيأخذونها بغير حق، إنما يأكلون نارًا تتأجّج في بطونهم يوم القيامة، وسيدخلون نارا يقاسون حرَّها.” (24).
  • المال مال الله والبشر مستخلفون فيه: المال في الأرض والسماوات وما بينهما هو لله، والبشر مستخلفون فيه، لذا يجب أن يُكسب بالطريقة التي يرضاها الله سبحانه وتعالى، ويُوزع كذلك وفقًا لشريعته. فالإسلام بيّن وسائل كسب المال، فحرّم الربا، وأباح شركات المضاربة وغيره، إذا جرت في الحلال، كما حرم الاحتكار والغش وأكل أموال الناس بالباطل، ليكون الكسب حلالًا طيبًا. ومن واجبات المال أداء حقوق الآخرين مثل الزكاة والصدقة ونفقة الأقارب. وبعد الكسب والتوزيع يأتي الاستهلاك، ولا يجوز لصاحب المال أن ينفقه إلا في حدود الشرع. يقول الله تعالى: [إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا] [سورة الإسراء – الآية: 27]، مما يحرم الإسراف والتبذير والترف.

    وهذه التعاليم متخصصة في الاقتصاد الإسلامي ولا تُوجد بمثلها في الأنظمة الاقتصادية الوضعية.

    المال هو العمود الأساسي لقيام الاقتصاد في المنظور الإسلامي

المال هو عماد التقدّم والنمو وتطوير النظام الاقتصادي من جميع الجوانب. يقول الله تعالى: [وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا] [سورة النساء – الآية: 5]. وفي هذه الآية بيّن أن كلمة “أموالكم” جاءت مقابلاً لكلمة “قيامًا”.

ويقول الله تعالى أيضًا: [الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا] [سورة الكهف – الآية: 46]، [وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ] [سورة الإسراء – الآية: 6]. وهذا يدل على أن قيام الأمة وقوتها وتقويمها قائم على المال، وأنه زينة وجمال الاقتصاد، وأن الله تعالى قد سخر لهذه الأمة المال لتنميتها وحضارتها.

 الفقر مستعاذ منه في الإسلام

الفقر في نظر الإسلام مصيبة وبلاء؛ (25) لذلك كان النبي دائم الاستعاذة منه، بل كان من سُنته عليه الصلاة والسلام أن يقرن معه الاستعاذة من الكفر، فكان يقولُ في دُبُرِ الصلاة: [اللهم إني أعوذ بك من الكفر، والفقر، وعذاب القبر] (26) [ابن جرير الطبري – مسند عمر – رقم: 2/575]؛ وهنا: “اللهم إني أعوذ بك”، أي: ألتجئ وأعتصم بك، “من الكفر” بعد الإيمان، “والفقر” في النفس والمال، “اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر“، أي: من الأسباب التي تؤدي إلى التعذيب في القبر (27).

كما استعاذ رسول الله من الفقر في أدعية أخرى، فكان من دعائه: [اللهم إني أعوذ بك من الفقر، والقلة، والذلة، وأعوذ بك من أن أظلم أو أُظلم] [سنن أبي داود – رقم الحديث: 1544].

(أعوذ بك من الفقر): هو خلو ذات اليد من المال؛ سواء عنده بعض كفايته، أو لم يجد كفايته، فيدعو الله: أعذني من عدم كفايتي من المال الذي أقوت به نفسي، وأهلي وأولادي، وأخاف أن يؤدي بي إلى عدم الصبر، والتسخّط، وعدم القناعة، وتسلط الشيطان عليّ بذكر نعم الأغنياء، وأعذني يا إلهي من شدة الحاجة إلى الخلق، والتعرض لهم بالسؤال والطلب؛ لأنه قد يفضي إلى نقصانٍ في الدين والمروءة.

(القِلَّة): المراد بها قلة المال التي يخاف منها قلة الصبر. وقيل: قلة أبواب الخير والبر، أو قلة العدد أو المدد أو الأنصار. والراجح: القلة في أبواب البر وخصال الخير؛ لأن النبي كان يؤثر الإقلال في الدنيا، ويكره الاستكثار من الأعراض الفانية.

(الذِّلَّة): هي الصغار والهوان، كأن يكون الإنسان منحط القدر عند الناس. واستعاذته منها شاملة لكل أنواع الذلة.

(أن أظلم أو أُظلم): أي أن أقع في الظلم أو يقع عليّ. للفقر مخاطر جمّة، وآفات كثيرة؛ لذلك كان النبي يستعيذ بالله منه، ويسأل ربه الغِنى، ويقول: [اللهم إني أسألك الهدى، والتقى، والعفاف، والغنى] [الألباني – صحيح الترمذي – رقم: 3489].

ومن مخاطر الفقر أنه مدعاة لانتشار بعض المنكرات كالسّرقة والنهب، وقد يؤدي إلى الكفر؛ بأن يبيع الإنسان دينه بالدينار والدرهم.

قال رسول الله : [بادِروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، أو يمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعَرَضٍ من الدنيا] [صحيح مسلم – رقم الحديث: 118].

تفسير الحديث: الحث على المبادرة بالأعمال الصالحة قبل أن تقع الفتن التي تخلط الحق بالباطل وتُفسد الدين، فيصبح الناس في التباس لا يُميز فيه الحق من الباطل، ويؤدي إلى تبدُّل الدين في يوم واحد، وقد يبيع الإنسان دينه لمتاع دنيوي زائل.

وفي الحديث: علامة من علامات نبوته .  وفيه: الحث على المبادرة إلى الأعمال الصالحة قبل الانشغال عنها بوقع الفتن.  وفيه: التحذير من الفتن والابتلاء عموما.  وفيه: عدم الاغترار بما قدم المرء من صالحات، والحث على مداومة الخوف من الله تعالى؛ فإنما الأعمال بالخواتيم.  وفيه: التمسك بالدين والحرص عليه، والاحتياط عند التمتع بعرض الدنيا.] وفي الحديث: علامة من علامات نبوته .  وفيه: الحث على المبادرة إلى الأعمال الصالحة قبل الانشغال عنها بوقع الفتن.  وفيه: التحذير من الفتن والابتلاء عموما.  وفيه: عدم الاغترار بما قدم المرء من صالحات، والحث على مداومة الخوف من الله تعالى؛ فإنما الأعمال بالخواتيم.  وفيه: التمسك بالدين والحرص عليه، والاحتياط عند التمتع بعرض الدنيا.] (28).

ومن مخاطره أيضًا: أن يصبح الإنسان عبدًا للمال، كما قال رسول الله : [تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الخميصة، إن أُعطي رضي، وإن لم يُعطَ سخط] [صحيح البخاري – رقم الحديث: 2887].

وإن أنين بيوت الفقراء وأصحاب الحاجة لا يقل إيلامًا عن أنين المرضى، فكثير من الأسر لا تجد قوت يومها، وقد ضاقت عليها الأرض، وتسلل الفقر إلى أجسادهم فأقعدهم.

والمطلوب: اللجوء إلى الله تعالى لرفع الغلاء والبلاء، وأن يتحمّل كل فرد في الأمة مسؤوليته تجاه الفقراء، وهو من أبرز صور الرحمة والتكافل التي أمر بها الإسلام.

  • الفقر لا يقيم دولة ولا أمة ولا نظامًا ولا استقرارًا: الفقر لا يقيم دولة ولا أمة، وقلة ذات اليد لا تحمي شعبًا. وهو مشكلة حقيقية يحاربها الإسلام بكافة الوسائل، لكي تنهض الأمة وتزدهر، لا بد من المال والإنتاج وتنشيط الاقتصاد. الإسلام دين واقعي شامل، جعل الإنسان خليفة في الأرض، وسخّر له ما في السماوات والأرض، ثم طلب منه إعمار الأرض وبناء الحضارة الإنسانية، وهي تحتاج إلى الحفظ، والأمانة، والعلم، كما وصف نبي الله يوسف عليه السلام نفسه، قال تعالى: [قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ] [سورة يوسف – الآية: 55].

فكان عليه السلام عفيفًا ونظيفًا، واعتمد على صفتي الحفظ والعلم، وهما من أهم مقومات العمل الاقتصادي وبناء الدولة. فعلى الأمة اتباع أوامر الله تعالى في الأموال للوصول إلى الرفاهية والعدالة الاجتماعية، وهذا الاتباع مكفول بإعانة الله تعالى.

فكما أن الزواج سبب للغنى، فكذلك الأحكام الشرعية تؤدي إلى الغنى والرفاهية، كما قال الله تعالى: [وَأَنكِحُوا الْأَيَامَىٰ مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ۚ إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] [سورة النور – الآية: 32].

وتفسيرها: [ وزوِّجوا- أيها المؤمنون- مَن لا زوج له من الأحرار والحرائر والصالحين مِن عبيدكم وجواريكم، إن يكن الراغب في الزواج للعفة فقيرًا يغنه الله من واسع رزقه. والله واسع كثير الخير عظيم الفضل، عليم بأحوال عباده.] (29), وقوله: ( إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ ) أي: الأزواج والمتزوجين ( يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ) فلا يمنعكم ما تتوهمون، من أنه إذا تزوج، افتقر بسبب كثرة العائلة ونحوه، وفيه حث على التزوج، ووعد للمتزوج بالغنى بعد الفقر. ( وَاللَّهُ وَاسِعٌ ) كثير الخير عظيم الفضل ( عَلِيمٌ ) بمن يستحق فضله الديني والدنيوي أو أحدهما، ممن لا يستحق، فيعطي كلا ما علمه واقتضاه حكمه ] (30) .

العلاقة بين الزواج والغِنى في المنظور الإسلامي

يقول الله تعالى: [وَأَنكِحُوا الْأَيَامَىٰ مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ۚ إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] [سورة النور – الآية: 32].

[يبدو لنا أن الزواج يختلف حكمه باختلاف الأحوال، فمن كان -مثلًا- قادرًا على الزواج، ويخشى إذا تركه أن يقع في الفاحشة، فإن الزواج بالنسبة له يكون واجبًا عليه. بخلاف من أمن الوقوع في الفاحشة، فإن الزواج بالنسبة له يكون مندوبًا أو مستحبًا.

ولذا قال الإمام القرطبي: “اختلف العلماء في هذا الأمر -أي في قوله تعالى: (وَأَنكِحُوا)- على ثلاثة أقوال:

  1. فإذا خاف الهلاك في الدين أو الدنيا فالنكاح حتم.
  2. وإن لم يخش شيئًا، وكانت الحال مطلقة، فالنكاح مباح.
  3. قال الشافعي: إنه قضاء لذة فكان مباحًا كالأكل والشرب، وقال مالك وأبو حنيفة: هو مستحب.

وقوله سبحانه: (إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ) حضّ لمن يملك عقد الزواج على ألّا يجعل الفقر حائلًا دون إتمامه، لأن الأرزاق بيد الله تعالى وحده.

أي: زوجوا -أيها الأولياء والسادة- من كان أهلًا للزواج، وصالحًا له وراغبًا فيه من رجالكم ونسائكم، ولا يمنعكم فقرهم من إتمامه، فإنهم إن يكونوا فقراء اليوم، فالله تعالى قادر على أن يُغنيهم في الحال أو في المستقبل متى شاء، فإن قدرته عز وجل لا يعجزها شيء. وكم من أناس كانوا فقراء قبل الزواج، ثم صاروا أغنياء بعده، لأنهم قصدوا بزواجهم حفظ فروجهم، وتنفيذ ما أمرتهم به شريعة الإسلام.] (31)

[فالواجب على المسلمين التعاون فيما بينهم في تزويج الرجال والنساء، “الأيامى” اللاتي لا أزواج لهن، سواء كن ثيبات أو أبكارًا، وجنس العباد، وجنس النساء من حيث الإطلاق في تزويجهم، والعناية بإعفاف فروجهم، وغضّ أبصارهم، بالتعاون فيما بين المسلمين، فهذا يسلم ربع المهر، وهذا نصف المهر، وهذا جزء من المهر حتى يتزوج الناس، ولا يتعطلوا.] (32)

[العلاقة بين الرجل والمرأة مفصلة في القرآن والسنة، والوثاق بينهما هو الزواج، وقد سماه الله تعالى في القرآن (مِيثَاقًا غَلِيظًا) [سورة النساء – الآية: 21]، وكل علاقة بين المرأة والرجل بغير الزواج فهي على خلاف شرع الله تعالى، وتقود إلى فتن عظيمة وفساد كبير؛

ولذا أمر الله تعالى بالزواج، وأمر بتزويج من لم يتزوج من الرجال والنساء، وعدم الالتفات إلى مسألة الفقر وزيادة النفقات؛ فإن الغنى من الله تعالى، ومن أسباب الغنى الزواج.

قال رسول الله : (ثلاثةٌ حقٌّ على الله عونهم: المجاهدُ في سبيلِ اللهِ، والمكاتبُ الذي يريدُ الأداءَ، والناكحُ الذي يريدُ العفافَ) [سنن الترمذي – رقم الحديث: 1655]، وأمر النبي بالزواج، وعلله بأنه سبب للعفة، فقال : (يا معشرَ الشبابِ، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء) [صحيح البخاري – رقم الحديث: 5065].

وسبب هذه الأوامر الربانية والنبوية الجازمة والحازمة في الزواج، هو أن ترك الزواج وعزوف الشباب عنه، وردّ الأكفاء عن البنات؛ سبب للفتنة، وميدان للشيطان، ودمار للأسر، وتقليل للنسل، وتصاب بسببه الدول بالشيخوخة والهرم حتى تفنى.

وكل الدول التي ضعف فيها الزواج؛ قلّ فيها الإنجاب، وأصابها الهرم، وصاح عقلاؤها يحذّرون من ضعفها وفنائها.

قال رسول الله : (إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض) [سنن الترمذي – رقم الحديث: 1084]. وهذا يدل على اعتبار الدين والخلق في تزويج المرأة، وأن ذلك من النصح لها.

وكساد سوق الزواج، وعزوف الشباب عنه، ورد الأكفاء عن البنات يصيب الجميع بالفتنة: الشباب تصيبهم الفتنة بعدم الزواج، ويُخشى عليهم من الحرام، لأن للشباب ميلًا إلى النساء، وقوة على النكاح، وعزوفهم إن كان للعبادة فهو منهي عنه، لأنه لا رهبانية في الإسلام، ونهى النبي عن الاختصاء، وعاب على الثلاثة الذين حرموا على أنفسهم المباحات، فقال : (أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) [صحيح البخاري – رقم الحديث: 5063].

وإن كان عزوف الشباب لغير العبادة، فيُخشى عليهم من الحرام، لا سيما مع سهولة الحرام، وتلحق الفتنة أبوي الشاب الذي عزف عن الزواج؛ فإن قصّرا في إقناعه أو إعانته مادّيًا أو معنويًا؛ يأثمان بذلك. حتى إن الفقهاء ذكروا تقديم النكاح للمحتاج إليه على حج الفريضة، وهذا من أبلغ ما يكون في أهمية النكاح للشباب.

وردّ الأكفاء في الدين والخلق عن البنات سبب لفتنة البنات؛ لأنه لا سعادة للبنت السويّة إلا بالزواج؛ فلها حاجات عاطفية وجنسية، إن لم تُشبع بالحلال خشي عليها من الحرام، لا سيما مع سهولة تواصلها مع الشباب عبر وسائل التواصل، لذا فإن العقلاء من الرجال هم من يبذلون الغالي والنفيس في تزويج بناتهم من أكفاء الخلق والدين، ولا يحبسونهن عن ذلك لأي سبب كان، كوظيفة أو دراسة أو مال.

في البنت غريزة تدفعها للأمومة؛ ومن فاتهن الإنجاب، يتحسرن على ما فاتهن من الشعور بالأمومة، وتلحق الفتنة أبوي الفتاة التي رُدّ عنها الأكفاء، بما يلحقهما من الإثم في حق ابنتهما، وحسرة بعد فوات الزواج، وإذا تزوجت، انتقلت ولايتها من أبيها إلى زوجها.

ومن أعظم الفتن التي تصيب المجتمعات بتضييق الزواج: كثرة حمل السفاح (الزنا)، وهم أجنة مساكين، أصيبوا بجناية آبائهم: فإما أُجهضوا فقتلوا، وهذا من قتل النفس، وإما وُضعوا خفيةً، فنبذوا أو رموا في أماكن مهملة، فيعيشون بلا أسر حقيقية، وإذا كثر الزنا في دولة، كثر فيها الإجهاض واللقطاء، وتحملت الدولة أعباء رعايتهم وتربيتهم، ومعالجتهم نفسيًا، لما يشعرون به من ألم فقدان الأسرة.

ولا سبيل إلى نقاء المجتمعات وطهارتها إلا بالاقتران الحلال بين الفتى والفتاة، وذلك بالزواج، الذي يجب أن يُشجّع عليه، وتُشيع ثقافته، وتُيسّر سُبُله، وتُخفّف مئونته؛ فإن أعظم النساء بركة أيسرهن مئونة (33).

الزواج يوسّع الرزق ويجلب الغنى في المنظور الإسلامي

  • من مفاتيح الرزق النكاح: الزواج يوسّع الرزق ويجلب الغنى، (34) ومن مفاتيح الرزق النكاح. فقد ورد أن مفاتيح وأسباب الرزق والبركة فيه متعددة، أبرزها: الاستغفار، والتوبة، والتقوى، والتوكل على الله، والتفرغ لطاعته، والمتابعة بين الحج والعمرة، وصلة الرحم، والإنفاق في سبيل الله، والإنفاق على أهل الخير، ولا سيما طلبة العلم الشرعي، والدعاء، والإحسان للفقراء، والصدقة، والزواج. إن الزواج أحد أسباب الحياة، وارتباط المجتمعات ببعضها، بل هو أساس تكوين الأمم المتعاقبة على مرّ الأزمان، كونه العلاقة الشرعية التي تربط الرجل بالمرأة على أساس الاقتران الشرعي الذي تنبثق عنه الذرية والولد. ومن هنا تتكون الأسرة الصغيرة، لتتحول إلى أسرة كبيرة، ثم إلى مجتمع، فهو وسيلة التكاثر والتوالد.
  • الزواج واحد من أهم مفاتيح الرزق : قال رسول الله : [ثلاثةٌ حقٌّ على الله عونهم: المجاهدُ في سبيلِ الله، والمكاتبُ الذي يريدُ الأداء، والناكحُ الذي يريدُ العفاف] [سنن الترمذي – رقم الحديث: 1655]. وقد ربط النبي بين الزواج والسعة في الرزق؛ جاءه رجل يشكو إليه الفاقة، فأمره أن يتزوج، فقد ورد: [جاء رجل إلى النبي يشكو إليه الفاقة، فأمره أن يتزوج] [رواه الخطيب البغدادي – تاريخ بغداد – 1/365].
  • التمسوا الرزق في الزواج: الزواج عماد الأمم والمجتمعات، لذا حث الإسلام عليه، ودعا رسول الله الشباب إلى الزواج، قال رسول الله : [تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة] [أخرجه الإمام أحمد – رقم: 13594، والطبراني – المعجم الأوسط – رقم: 5099]. والإسلام لا يدعو إلى الزواج فقط، بل يطالب بتوثيق العلاقة بين الزوجين، ويحث على بقائها واستمرارها،وعلى إنمائها بحسن العِشرة، مما يؤول إلى زيادة البركة وسعة الرزق. “التمسوا الرزق في الزواج”:المقصود هنا توجيه الدعوة لكلا الزوجين إلى حسن المعاشرة، أي أن يعاشر كل منهما الآخر بالمعروف، فلا يؤذِه بالفعل، ولا بالقول، ولا بما يُستنكر شرعًا أو عرفًا. إنه وعد جميل بالغنى وسعة الرزق، ويجب أن يعي المسلم أن الزواج سنّة من سنن الأنبياء والمرسلين، إذ يقول النبي : [أربعٌ من سنن المرسلين: الحياء، والتعطّر، والسواك، والنكاح] [سنن الترمذي – رقم الحديث: 1080].
  • الزوجة تجلب الرزق: الزوجة تجلب الرزق، وقد جاءت النصوص الشرعية وأقوال الصحابة لتؤكد أن النكاح من أسباب حصول الرزق والغنى. والرزق: اسم لكل ما يسوقه الله تعالى إلى العبد مما ينتفع به، ويشمل ذلك الزوجة وغيرها. قال رسول الله : [كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء] [صحيح مسلم – رقم الحديث: 2653]. شرح الحديث: في هذا الحديث يبين النبي أن الله “كتب”، أي: أمر القلم أن يكتب في اللوح المحفوظ، مقادير الخلائق،وهو قضاء الله وحكمه الذي قدّره على الخلائق أزلاً قبل وجود الكائنات، فكتب علمه بالأشياء قبل كونها، وقبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة. فلا تبديل ولا تغيير؛ فكل شيء كائن إلى يوم القيامة مكتوب قد انتهى منه. فما أصاب العبد لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.وكان عزَّ وجلَّ عرشه على الماء قبل خلق السماوات والأرض، وفيه إشارة إلى أن الماء والعرش كانا مبدأ هذا العالم؛ لكونهما خُلقا قبل خلق السماوات والأرض. والعرش: هو عرش الرحمن الذي استوى عليه جل جلاله،وهو أعلى المخلوقات وأكبرها وأعظمها، له قوائم، ويحمله ملائكة، وصفه الله بأنه عظيم وكريم؛ فوصفه بالعظمة من جهة الكمية، وبالحُسن من جهة الكيفية. (35)

الضمان الاجتماعي في الإسلام: مسؤولية شرعية ثابتة

المنظور الإسلامي للضمان الاجتماعي

يعود تاريخ تطبيق المنظور الإسلامي للضمان الاجتماعي (36) إلى زمن رسول الله منذ بدء الوحي، واستمر حتى الآن ومستمر مستقبلًا، ويعتني برفع شأن الإنسان واحترامه وكرامته، ويعلي قيمته، ويحرّره من العبودية والاستغلال، ويضمن معيشته. لذا جعل الإسلام هذا الضمان مسؤولية شرعية ثابتة لا يجوز التفريط فيها، فهي ليست منّةً من المجتمع أو الأغنياء أو الدولة، بل قاعدة دينية ثابتة ومظهر للإيمان بالله واليوم الآخر، وتكريم واجب للإنسان خليفة الله في أرضه، ومن ثم ترتب على الدولة التزام شرعي بضمان الفرد المسلم دائمًا بما يحقق مقاصد الشريعة، استنادًا إلى الأدلة من القرآن والسنة.

لا يلوم الإسلام الفقراء على فقرهم، بل يحترمهم ويتعاون معهم، ويمد يد العون لهم. ينظر الإسلام إلى الفقراء بعين الرحمة والمساواة، ويبيّن أن لهم حقًا ثابتًا في أموال الأغنياء؛ كما لو أنّهم شركاء في المال، وليس لهم أن يُصرف شيءٌ من أموال الأغنياء دون حقهم، إذ جعل الله للفقراء حقًا كحق غرماء الميت في التركة. فإذا امتنعت الدولة أو الأغنياء عن أدائه، يمكن للحاكم الشرعي أو عدول المسلمين استيفاؤه منهم قهرًا.

ولا تقتصر العون المأمول من النظام الإسلامي على الزكاة، أو القائمة الفورية من الخمس، والكفارات، وزكاة الفطر، والهدي… بل إن الصدقات التطوعية، ومساعدة السرّ، والنفقات المستحبة، يُسهمون أيضًا بصورة كبيرة في سد احتياجات الفقراء، إلى جانب تدخل الدولة لضمان وصول كل فرد إلى مستوى حد الكفاية المعتبرة أو الحد الأدنى للغنى.

فلسفة الضمان الاقتصادي المجاني في الاقتصاد الإسلامي

يركز الاقتصاد الإسلامي على ضمان مستوى معيشي أدنى لكل فرد مسلم، بمنظومة مجانية ومتكاملة، (37)وفق النموذج التالي:

    ضمان حدّ الكفاية المعيشي في الحالات الاعتيادية

    يقوم النظام بضمان مستوى كفاف معيشي للمواطن في أوقات السلم والرخاء. واستدل على ذلك بعدة أدلة شرعية، منها:

  • قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “إذا أعطيتم فأغنوا” (38).
  • قول الإمام الماوردي: “فيدفع إلى الفقير والمسكين من الزكاة ما يخرج به من اسم الفقر والمسكنة إلى أدنى مراتب الغنى” (39) وقوله أيضا.”تقدير العطاء معتبر بالكفاية” (40).
  • وقال الإمام السرخسي: “وعلى الإمام أن يتقي الله في صرف الأموال إلى المصارف، فلا يدع فقيرا إلا أعطاه من الصدقات حتى يغنيه وعياله، وإن احتاج بعض المسلمين وليس في بيت المال من الصدقات أي “الزكاة” شيء، أعطى الإمام ما يحتاجون إليه من بيت المال أي “الموارد الأخرى” ][41].
  • ويقول ابن حزم: “فرض على الأغنياء من كل بلد على أن يقوموا بفقرائها، ويجبرهم السلطان على ذلك إن لم تقم الزكوات بهم ولا في سائر اموال المسلمين ، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لابد منه، ومن اللباس في الشتاء والصيف بمثل ذلك، وبمسكن يكنهم من المطر والصيف والشمس وعيون المارة] (42).”.
  • وقال الرملي: “ومن فروض الكفاية دفع ضرر المسلمين ككسوة عار وإطعام جائع إذا لم يندفع بزكاة وبيت مال على القادرين، وهم من عنده زيادة على كفاية سنة لهم ولممونهم”(43).

ضمان حدّ الكفاف في الحالات الاستثنائية لاقتصاد الأمة

يقول الإمام الشاطبي: [الكفاية تختلف باختلاف الساعات والأحوال] (44)، ففي الحالات الاعتيادية تكثر الموارد المالية والثروات والسعة والإمكانات المادية للاقتصاد الإسلامي؛ ثم يقوم بتوزيعها على أفراد الأمة، ويكون فيها متوسط الدخول الفردية عاليًا مرتفعًا، ومعها ترتفع معدلات الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين. أما في الحالات الاستثنائية مثل: الحروب، والمجاعات، والأزمات، والعواصف، والكوارث الطبيعية، والزلازل، والبراكين، وغيرها من المشاكل العامة؛ فإن الثروات الوطنية والموارد المالية حينئذٍ إمّا تقل نتيجة لتدميرها وخرابها بهذه العوامل، أو تُوجَّه إلى هذه المجالات الطارئة لسدّها والقضاء على آثارها، وفي كلتا الحالتين ينخفض الدخل القومي للأمة، وتنخفض متوسطات الدخول الفردية، وتتقلّص مجالات الإعانة والمساعدات والتعاون. ففي هذه الحالات يُطبّق مستوى حدّ الكفاف المضمون المجاني على أفراد المجتمع الإسلامي، والذي يكون بمستويات أقل من مستويات حدّ الكفاية الاعتيادية.

مستويات أقل من مستوى حدّ الكفاف المضمون المجاني

الاقتصاد الإسلامي لا يسمح بوصول المستويات المعيشية إلى الحالات السيئة التي تكون أقلَّ من مستويات حدّ الكفاف المعيشية؛ لأنها حالات معيشية مرفوضة، ويحاول الاقتصاد الإسلامي بشتى الوسائل الشرعية عدم وقوعها، والخروج من تحت طائلتها إن حدثت ووقعت. وسبب رفضها هو أن هذه المستويات المعيشية المنخفضة تؤدي إلى مثالب وعيوب ومشاكل اقتصادية واجتماعية عديدة تضرّ بالمجتمع وبأفراده وبالدولة، وتؤدي إلى وصول العمليات التنموية إلى الحضيض، وتتوقف عملية التطور والنمو، وتزداد فيها المعاناة الإنسانية في شتى المجالات، ويُحرَم الفرد من كثير من حقوقه، وتكثر فيها أعداد وبؤس الفقراء والمساكين والمعوزين، لذا يرفضها الاقتصاد الإسلامي، ولا يسمح للفرد المسلم بالعيش تحت ظلّها. يقول رسول الله : [إن الله لا يقدس أمة لا يعطون الضعيف منهم حقه] [أخرجه الطبراني في الكبير – 10/274].

مما مرّ نعلم أن فلسفة الضمان الاجتماعي المجاني الإسلامي تكمن في تحقيق الاقتصاد الإسلامي للمستويات التالية من المعيشة لكل فرد من أفراد المجتمع الإسلامي:

  1. تحقيق مستوى حدّ الكفاية المعيشية في الحالات الاعتيادية التي يمر بها اقتصاد الأمة.
  2. تحقيق مستوى حدّ الكفاف في الحالات الاستثنائية التي يمر بها اقتصاد الأمة.
  3. المستوى المعيشي المرفوض: وهو المستوى الأقلّ من مستويات حدّ الكفاف المعيشية.

الضمان الاجتماعي من أولويات المذهب الاقتصادي في الإسلام

من أولويات النظام الاقتصادي الإسلامي توفير حدّ الكفاية المعيشية لكل فرد مسلم (45)، كحق إلهي مقدّس وتكريم له وفق قول الله تعالى: [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ] [سورة الإسراء – الآية:70]، وواجب له حتى لا يقع في حالات الفقر والمسكنة؛ وفق قول الله تعالى: [أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ] [سورة الماعون – الآيات: 1-3].

فكفالة الفرد المسلم اقتصاديًّا، هي من أولويات، بل هي الأساس الذي يبني الاقتصاد الإسلامي عليه أسسه وحياته ونظرياته الاقتصادية المختلفة. فلا يُترك الفرد أمام العواصف الاقتصادية والاجتماعية، بل وحتى السياسية وغيرها، لينهمك ويغرق داخل نظام مغلق لا مبالٍ، محتكرٍ، مرابٍ، مستغل، بل يُساعد ويُمدّ له يد العون، ويُعاون، وتُفتح له خيارات الاستثمار والإنتاج والتجارة والعمل بشكل عام، بشكل متساوٍ كأي مواطن آخر في الدولة؛ ليبذل جهوده الإنسانية، ويرفع من مستويات رفاهيته الاقتصادية إلى حدود غير محددة، ثم ليحصل على الدخول أو المكافآت أو المستحقات بشكل غير متساوٍ مقارنة مع الآخرين من مواطني الدولة أو البلد الإسلامي.

لأن الاقتصاد الإسلامي يبني أسسه الاقتصادية على النقطتين الآتيتين:

  1. المنظور المتساوي للكل في الفرص الاقتصادية الممنوحة للفرد المسلم للاستثمار والإنتاج والاستهلاك والنشاطات الاقتصادية المختلفة.
  2. المنظور غير المتساوي في الدخول أو المكافآت أو المستحقات التي يستحقها أو ينالها كل فرد مسلم أثناء دخوله العمليات والنشاطات الاقتصادية المختلفة، وبذله جهوده الإنسانية داخل مجالاتها المتعددة.

مراحل الضمان الاجتماعي في الاقتصاد الإسلامي

إنّ الضمان الاجتماعي، أو حدّ الكفاية، في الإسلام، هو تعبير عن حق أفراد المجتمع في موارد مجتمعهم واقتصادهم، وهذا ما تُبيّنه الآية السابعة من سورة الحشر، التي تُحدّد وظيفة الفيء، ودوره في المجتمع. قال الله تعالى: [مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ] [سورة الحشر – الآية:7] أي: توزيع المال بين أفراد المجتمع، حتى لا يُحتكر أو يُحبس بيد طبقة الأغنياء.

أما الطريقة التي يتخذها المذهب الاقتصادي الإسلامي لتمكين الدولة من القيام بتحقيق الضمان الاجتماعي، فتكمن في ضرورة العمل بالقطاعات الخمسة الموجودة فيه؛ وهي:

  1. القطاع المشاعي المادي للمباحات العامة.
  2. القطاع العام.
  3. القطاع الخاص.
  4. القطاع المجموعي.
  5. القطاع المختلط.

لكي تكون هناك، إلى جانب الزكاة كصدقة واجبة، ضمانات أخرى لحق المحتاجين من أفراد المجتمع الإسلامي، ورصيدًا للدولة، بوصفها راعية اجتماعية، يمدّها بالنفقات اللازمة لتحقيق الضمان الاجتماعي، ومنح كل فرد حقه في الحياة الكريمة أو ما يسمى بالمعيشة اللائقة.

وفي حال ما إذا ضاقت الموارد عن تحقيق حدّ الكفاية المضمون؛ ينتقل الاقتصاد الإسلامي إلى مستوى أقلّ منه، وهو مستوى الكفاف المضمون، ثم بعدهما يُلجأ إلى تطبيق عوامل أو وسائل التكافل الاجتماعي المختلفة، قال الله تعالى :[وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ] [سورة البقرة – الآية:219].

والعَفْو هو: الفضل والزيادة. فكل ما زاد على النفقة الشخصية – في غير ترف ولا مخيلة – فهو محل للإنفاق. (46) أو: هو المتيسر من الأموال، التي لا تتعلق به حاجتهم وضرورتهم، وهذا يرجع إلى كل أحد بحسبه، من غني وفقير ومتوسط، كل له قدرة على إنفاق ما عفا من ماله، ولو شقّ تمرة] (47).

ويقول رسول الله : [إنَّ الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قلَّ طعام عيالهم بالمدينة، جمعوا ما كان عندهم في ثوبٍ واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناءٍ واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم] [صحيح البخاري – رقم الحديث: 2486].

المستويات المتدرجة للتعاون أو للتكافل الاقتصادي في الاقتصاد الإسلامي

التكافل الاقتصادي الذي يتم في إطار المجتمع الإسلامي يكون على المستويات الثلاثة الآتية:

المستوى الأول: التعاون الفردي

ويضم عموم الناس، كواجب على ذي الميسرة، قال الله تعالى: [وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ] [سورة التغابن – الآية: 16].

المستوى الثاني: التعاون الأُسري

الإسلام يعتبر أن سلامة الكل تبدأ من سلامة الجزء، وإصلاح المجتمع الكبير يبدأ من إصلاح الأسرة، باعتبارها النواة الصغرى للمجتمع، قال الله تعالى: [وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ] [سورة الأنفال – الآية: 75].

المستوى الثالث: التعاون الجماعي

قال تعالى: [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] [سورة التوبة – الآية: 71].

صحيح أن مستوى حدّ الكفاية، أو مستوى تمام الكفاية، للمعيشة اللائقة الكريمة، يختلف باختلاف الزمان والمكان والحال، ويختلف بحسب ظروف كل مجتمع وتطوره، وكذلك في تحوّل الكثير من التحسينيات أو الحاجيات إلى الضروريات؛ إلا أن الضمان الاجتماعي يبقى مسؤولية شرعية ثابتة في الاقتصاد الإسلامي، وأولوية قصوى في منظوره الفلسفي والمذهبي، ويبقى الركيزة الأولى لصون المجتمعات الإسلامية من الهزّات والانحرافات والأزمات، وعاملًا أساسيًّا في تحقيق الاستقرار والتطور والتنمية فيها.

العلاقة بين الضمان الاقتصادي وبرامج الحماية الاقتصادية

إن عمليات الضمان الاقتصادي هي أكبر وأوسع وأشمل من برامج الحماية الاقتصادية التي يتبعها البلدان الإسلامية في ظل النظام الاقتصادي الإسلامي، لأن نظام الضمان الاقتصادي يشمل كل العمليات والفعاليات والنشاطات والتنظيمات الاقتصادية التي تقوم بها الدولة أو البلد الإسلامي، لأجل الوصول إلى عمليات الرفاه والمستويات المعيشية الكريمة واللائقة لأفراد المجتمع الإسلامي.

فبرامج الحماية الاقتصادية هي برامج جزئية تقوم بها البلد الإسلامي كجزء أو فرع أو قسم من النظام الضماني العام للدولة للوصول إلى أهداف اقتصادية واجتماعية معينة.

بمعنى آخر: إن البرامج الحمائية الاقتصادية جزء صغير ومحدود من النظام الشامل والكبير الذي يتبعه الاقتصاد الإسلامي لحماية جزء من الأهداف الاقتصادية للدولة أو المجتمع الإسلامي.

عناصر برامج الحماية الاقتصادية

لحماية الاقتصاد الوطني يجب تأسيس أنظمة حمائية اقتصادية متنوعة ومتعددة وعلى كافة الأصعدة الاقتصادية في البلد الإسلامي، وهذه الأنظمة تتكوّن من عناصر اقتصادية عديدة، منها ما يلي:

  1. برامج الدعم الاقتصادي: يجب وضع برامج اقتصادية معينة لتقديم الدعم الاقتصادي المجاني لبعض السلع والخدمات الضرورية في البلد الإسلامي، وخاصة منها الوقود والغذاء؛ ومحاولة توسيع فكرة الدعم الاقتصادي لتشمل كافة المجالات الاقتصادية كالمشاريع الصغيرة والمتوسطة والكبيرة، والزراعة، والتجارة، والصناعة، وغيرها في البلاد؛ حتى يضمن اقتصاد الدولة بقاء ثم استمرار الإنتاج في هذه المجالات، ولا تتعطل نشاطاته وفعالياته الاقتصادية المختلفة. فالدعم الاقتصادي هو من السبل الاقتصادية الناجحة جدًا للعمليات التنموية والتطويرية للبلد.
  2. منظمات الزكاة أو العطاءات الاقتصادية النقدية والحقيقية (أي السلعية): تُعتبر الزكاة والعطاءات أو المنح النقدية والسلعية أساسًا متينًا من أسس النظام المالي للاقتصاد الإسلامي، وعلى ضوئها يجب أن تعمل وتساعد البلدان الإسلامية على تشكيل وتجديد وتوسيع المنظمات التي تقوم بتوزيع الدخول النقدية والسلعية على الفقراء والمساكين والمحتاجين، لأجل إنقاذ العطاءات الخيرية الواجبة والتطوعية فيها من العشوائية والبعثرة والهدر والفردية؛ وجعلها تتسم بالعلمية والتخطيط والمؤسساتية والجماعية المخططة، وإبعادها عن الأخطاء والتكرار والعيوب الاقتصادية والاجتماعية المتنوعة.

إن التحويلات النقدية والسلعية من الأغنياء والموسرين إلى الفقراء والمساكين والمعوزين؛ تُعتبر ملاجئ وشبكات أمان للفئات المحتاجة، وتعتمد درجة قوتها وتأثيرها الاقتصادي على كميات النقود والأموال التي تُوزَّع على المستحقين شرعًا.

وبشكل عام، تتخصص المنظمات الخيرية والإنسانية بالصدقات الواجبة والتطوعية لأفراد المجتمعات الإسلامية، ومدى تعاونهم معها.

ويجب التعاون مع هذه المنظمات أو المؤسسات الخيرية للقيام بأعمالها التكافلية على أتم وأكمل وجه؛ لرفع المستويات المعيشية للفئات المستحقة ورفع رفاهيتهم الاقتصادية، ثم رفع الرفاهية الاقتصادية العامة في البلد المسلم.