إنه البيان المحكم البديع، يضع مقاييس البيان وفق مقامات الكلام بدقة محكمة في منتهى الإحكام ..!
تستوقفنا آيتان ورد السؤال عنهما فكان هذا البيان ..
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا ۖ لَا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) [سورة البقرة 264]
(وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ۗ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا) (سورة النساء 38)
نلاحظ في سورة البقرة (ولا يؤمن بالله واليوم الآخر)، في حين ورد في النساء، (ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) بإضافة (لا) و حرف الجر الباء ..
فما سر التغاير في النظم مع أن الآيتين تتحدثان عن الرياء في الإنفاق ؟!
وهنا تبرز الدقة والإحكام في مقاييس الكلام؛ ممايثير ذلك دهشة المتلقين لهذا البيان، ويستوقف أرباب البلاغة وأساطين الفصاحة! وذلك من مظاهر تميزه وإعجازه،
إذ لايتفطن البيان البشري في كل مقاماته إلى الدقة والإحكام في اختيارات أسلوبه، وانتقاء عباراته، وسبك ألفاظه، على هذا النحو العجيب الفريد الذي انماز به نظم القرآن!
ورب البيان لو استوت في النظم الآيتان؛ لاهتز عرش البلاغة، واختل الميزان!
ذلك أن الآية الأولى هي في الكافر، الذي لا يبتغي بنفقته وجه الله وإنما الرياء والسمعة ..فلم يحتج السياق إلى مزيد توكيد بتكرار اللام والباء؛ لأن الكافر يجاهر بعدم إيمانه بالله واليوم الآخر.
وأما الثانية فهي في المنافقين الذين يظهرون خلاف مايبطنون من الكفر؛ لذلك أكد عدم إيمانهم بتكرار (لا) النافية والباء الجارة المؤكدة.
أي بيان محكم بمقاييس الدقة البيانية العجيبة كهذا، إلا أن يكون المتكلم هنا هو رب البيان منزل هذا القرآن فحسب؟!