( إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) ) [سورة ص].
( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) ) [سورة الأعراف]
هما سياقان مختلفان في النظم والبيان من متشابه القرآن؛ استوقفت آياته أساطين التفسير، وتبارى فرسان الفصاحة وأرباب البلاغة فيه معترك التأويل.
ذلك أن سورة (ص) ورد فيها ( مَا مَنَعَكَ أَن تَسۡجُدَ) وفي الأعراف جاء ( مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسۡجُدَ )
وهما سياقان في قصة امتناع إبليس عن السجود، وتكبره والجحود.
ولكن لم كان الاختلاف في النظم بمجيء ( لا) مع الفعل (منع) في الأعراف ؟!
لقد تعددت الآراء في ذلك واختلف أهل التأويل، فذهب بعضهم إلى القول : بزيادة (لا) في (الأعراف) قياسا على النظير في (ص).
والقول بالزيادة إراحة للعقل من النظر والتحقيق في أسرار القرآن ومحكم البيان؛ ينطلق من قياس النظير على النظير، دون النظر في اختلاف السياق لمتشابه النظم ومقاماته.
وقد رفض القول به شيخ المفسرين ابن جرير، والرازي من المتقدمين، وفرسان البيان من المعاصرين.
وبعد النظر والتأمل لما بين سطور التأويل؛ نجد أن (لا) على أصلها في دلالة النفي وليست زائدة بحال.
وأن الفعل ( منع) يرد لمعنيين في لسان العرب، كما ألمح إلى ذلك الراغب الأصفهاني في مفردات القرآن [1]
(منع) من المنع ضد العطاء، وهو الحرمان وعدم التنفيذ.
وبهذا المعنى ورد الفعل (منع) في سورة (ص) في قوله تعالى : (قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ) ما منعك، أي: ما الذي حال بينك وبين السجود؟
ونلاحظ أن سياق الحديث في سورة (ص) بدأت آياته في ذكر قصة خلق آدم، مخاطبا الملائكة بذلك، و مبينا مكونات خلقه، وتسويته:( إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72))
وقد كشف المولى- عز وجل- بعلمه الرباني، سبب امتناع إبليس عن السجود؛ ( إِلَّاۤ إِبۡلِیسَ ٱسۡتَكۡبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ ) ومع ذلك وجه له السؤال. مخاطبا إياه :( قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ) وذلك ليقرره على نفسه بنفسه، ويدينه من فمه، وبما أن الله – عز وجل- قد خلق آدم وسواه، وباشر خلقه بنفسه، ونفخ فيه من روحه، وهذه مكانة اختصاص في الخلق، وتأكيد للخلق والتقدير (إِنِّی خَـٰلِقُۢ )؛ فالاستكبار هنا اعتراض على خلق الخالق لا على المخلوق؛ فبكته بمزيد التقريع إذ قال: ( لِمَا خَلَقۡتُ بِیَدَیَّۖ ) ، فكان الفضح للَّعين؛ لما أخفى في سريرة نفسه من الكبر والعلو، فصرح بذلك جهارا واعترافا (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ).
فما كان منه التسليم والإذعان، وكرر مقولته بعض تلاميذه من أبالسة الإنس، إذ قال:
إبليسُ خيرٌ من أبيكم آدمَ فتنبهوا يا معشرَ الفجارِ
إبليسُ من نارٍ وآدمُ طينةٌ والطينُ لا يسْمُو سُمُوَّ النَّارِ
وما علم تلميذ اللعين، وهو أعمى البصر والبصيرة من وجهين، أنه:
إبليسُ من نارٍ وآدمُ طينةٌ والنارُ لا تسْمُو سُمُوَّ الطينِ
النارُ تحرقُ ذاتَها ومحيطَها والطينُ للإنباتِ والتكوينِ!
فكان سياق آيات سورة (ص) تقتضي المناسبة في الإحكام، بمجيء الفعل (منع) بمعنى المنع وعدم الامتثال.
وأما سياق سورة الأعراف فقد جاء فيها الفعل ( منع) بمعنى المنعة والقوة والحماية، ومنه قولهم: رجل منيع، أي: قوي، وحصن منيع، أي: قوي.
فأمعن النظر في معجز البيان ( قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسۡجُدَ إِذۡ أَمَرۡتُكَۖ ) فقد توجه السؤال الشديد المدوي بالتهديد والوعيد، من الجبار -جل جلاله- إلى إبليس اللعين دون مناداته بأداة النداء على وجه السرعة في التهديد في الأداء، قائلا له بمضمون الخطاب: ما قوَّاك على عدم السجود، ومخالفة أمري؛ فناسب تمام المناسبة ذكر علة السؤال ( إِذۡ أَمَرۡتُكَۖ ) فورد الفعل (منع) هنا بمعنى المنعة والقوة، أي: ما قواك ألا تسجد؛ إذ أمرتك، وإلى أي منعة وحماية لجأت إليها من بطشي وعقابي لمخالفتك أمري؟
وإنما ناسب سياق آية الأعراف أن يرد فيها هذا التعبير؛ لأن الآية السابقة لها توجه فيها الخطاب إلى البشر على سبيل الامتنان (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ)
ولم يذكر فيها مادة الخلق والتكوين لآدم -عليه السلام – كما ذكر في سورة (ص) لأن ذلك ليس موضع الاهتمام، بقدر ما كان التركيز منصبا على تخويف البشر من مصير مخالفة أمر الله، وأنه لا منعة ولا حماية أو قوة، لأحد أمام بطش الله وعقابه، حالة مخالفة أمره، كحال إبليس اللعين.
فبقيت (لا) أصيلة في معناها، محكمة في المقام، لا زيادة فيها ولا إقحام.
[1] مفردات القرآن. الراغب الأصفهاني. 77